توازنات ما بعد الربيع:
عرض: نوران شفيق، معيدة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
عن السياسة الدولية
19 ديسمبر 2013
في الوقت الذي تواجه فيه دول المنطقة مجموعة من التحديات المتصلة بكيفية إدارة ما تشهده من تحولات متسارعة؛ تواجه القوى الكبرى على الساحة الدولية تحديًا من نوع آخر، يرتبط بقدرتها على الحفاظ على دوائر نفوذها في المنطقة، وضمان حماية مصالحها في ظل هذه التغيرات. فالبيئة الإقليمية أصبحت من التعقيد بمكان بحيث فرضت قيودًا على قدرة هذه القوى تحقيقَ توازن بين الأبعاد القيمية وبين اعتبارات المصلحة القومية في سياساتها الخارجية؛ إذ بات التزام القوى العالمية بدعم الديمقراطية في دول المنطقة يتعارض في الكثير من الأحيان مع مصالحها الاستراتيجية.
هذه المعضلة التي تواجه الدول الكبرى في التعامل مع عملية التحول في المنطقة العربية كانت موضوعًا لتقرير صادر عن “مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط” التابع للمجلس الأطلنطي. في هذا التقرير، قدم مجموعة من الخبراء تحليلا لما وصفوه بغياب الرؤية الاستراتيجية لكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجاه الدول التي شهدت تحولا في المنطقة العربية. يقدم التقرير تفسيرًا لغياب هذه الرؤية، ويقيم جهود الطرفين لدعم دول المنطقة، ثم ينتهي بتقديم مجموعة من التوصيات لتدعيم التنسيق فيما بينهما لتطوير رؤية وسياسات أكثر فاعلية في التعامل مع مستجدات عملية التحول في الدول العربية. ويطرح التقرير أطروحة رئيسية مفادها أنه على الرغم من التقاء المصالح الأوروبية والأمريكية في المنطقة؛ إلا أن هذه المصالح المشتركة لم تتحول إلى تعاون ثنائي ما بين الطرفين يخدم مصالحهما الاستراتيجية.
سياسة الولايات المتحدة تجاه عملية التحول في المنطقة
يذكر التقرير أن جهود الولايات المتحدة في دعم الديمقراطية في مصر، وليبيا، وتونس، واليمن؛ تتراجع رغم إعلان أوباما أن دعم عملية الديمقراطية في المنطقة ضرورة استراتيجية. ففي السنوات من 2011 إلى 2013 انتقلت الجهود الأمريكية من دعم الديمقراطية في تلك الدول إلى دعم الحكومات في الجوانب الأمنية.ويعود تراجع الدعم الأمريكي للقيم الديمقراطية في دول المنطقة إلى عدة أسباب. أولا: أصبحت التغيرات السياسية في معظم هذه الدول شديدة التعقيد، واتخذت عملية التحول فيها مسارات لم يكن يتخيلها المسئولون في الإدارة الأمريكية. ثانيًا: كان من الصعب أن تُجدي الجهود الأمريكية في دعم الإصلاح السياسي والاقتصادي في هذه الدول نفعًا في ظل حكومات لا تمتلك الخبرة الكافية لإدارة عملية التحول. ثالثًا: كان لتفاقم الأوضاع في سوريا، وما تعرضت له السفارات التابعة للولايات المتحدة من اعتداءات في عدد من الدول، دور كبير في انتقال الأبعاد الأمنية إلى قمة أولويات الإدارة الأمريكية. وأخيرًا، قيود الميزانية التي فرضها الكونجرس على الإدارة كان من شأنها أن تحد من قدرة مسئوليها على تحقيق تقدم ملحوظ في دعم عملية التحول الديمقراطي في دول المنطقة.
ففي مصر، وبعد تولي مرسي الرئاسة؛ اتجهت السياسة الأمريكية إلى محاولة تقوية العلاقات مع جماعة الإخوان، وتشجيع الحكومة على تنفيذ إصلاحات اقتصادية. ولكن من وجهة نظر الخبراء؛ أثبتت هذه الاستراتيجية فشلها بعد أن أخل مرسي بالتزامه بالحفاظ على قواعد الحكم الديمقراطي. والأكثر من ذلك أن الولايات المتحدة لم تتخذ أي فعل في مواجهة الممارسات السلطوية، ولم توجه لها أي انتقادات.
وفي حين حذرت الولايات المتحدة من قيام انقلاب في مصر في يونيو 2013؛ لم تتخذ رد فعل حاسمًا بعد عزل مرسي، بل تعاملت مع الوضع القائم، وسعت للحفاظ على علاقتها مع الجيش، وأعرضت عن تسمية ما حدث صراحة بالانقلاب. وانتهى الأمر إلى أن خسرت الولايات المتحدة مصداقيتها عند كافة الأطراف، فمن جهة ترى جماعة الإخوان أنها قد أخلت بالتزامها بدعم الديمقراطية، ويرى معارضو مرسي أنها تخلت عن تأييد الشعب المصري.
وفي ليبيا وتونس، وبعد تعرض البعثات الدبلوماسية الأمريكية لاعتداءات في سبتمبر 2012؛ أصبح المحور الأمني هو الحاكم لسياسة الولايات المتحدة تجاه الدولتين، واقتصرت مساعي دعم الديمقراطية على الخطابات السياسية. وبعد أن كانت الولايات المتحدة تضخ أكثر من 300 مليون دولار لدعم الاقتصاد التونسي؛ بدأت تسحب دعمها تدريجيًّا، وباتت القضايا الأمنية الحدودية وتأمين البعثة الدبلوماسية هي الهدف الأول للإدارة الأمريكية.
وفي اليمن، بعد إدراك الإدارة الأمريكية حتميةَ سقوط نظام علي عبد الله صالح؛ تخلت عن دعمها له، وتعاونت مع السعودية ودول مجلس التعاون لدفعه للقبول بالخطة الانتقالية. غير أن هذه الخطة لم تتضمن إصلاحًا حقيقيًّا في نظام الحكم أو عملية صنع السياسات، وإنما مجرد تغيير للنخبة الحاكمة. وبعد سقوط صالح وتولي هادي الحكم؛ لم تعد الديمقراطية هي المحرك الأبرز لسياسة الولايات المتحدة تجاه اليمن، وإنما الاعتماد على النظام اليمني كشريك لمحاربة الإرهاب.
سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه دول المنطقة
مثلت سياسة الجوار الأوروبية الركيزةَ الأساسية التي قامت عليها سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه المنطقة فيما بعد ثورات 2011. ولكن يرى الخبراء، أن هناك العديد من العوائق التي تحد من فاعلية هذه السياسة. أولا سياسة الجوار الأوروبي تعكس الفجوة ما بين الأهداف المعلنة للاتحاد الأوروبي في التعامل مع المنطقة وما بين السياسات المطبقة والجهود الفعلية المبذولة.كما أن غياب رؤية استراتيجية موحدة للدول الأعضاء الناتجة عن اختلاف مصالحها يقف حائلا أمام تحقيق هذه السياسة للأهداف المرجوة منها. فعلى سبيل المثال، يأتي الملف الأمني على قمة أولويات فرنسا وبريطانيا في المنطقة العربية، في حين تتصدر قضية الهجرة أولويات إسبانيا وإيطاليا، بينما يحتل التحول الديمقراطي الحيز الأكبر من اهتمام دول كبولندا والسويد وهولندا. فعدم القدرة على توحيد الأولويات يحد من قدرة المنظمة على التأثير في المنطقة.
يضاف إلى ذلك أن سياسة الاتحاد الأوروبي في التعامل مع التحول في المنطقة قد شهدت قدرًا من التذبذب قلل من فاعليتها. إذ ذكر التقرير أن الاتحاد الأوروبي، في أعقاب الثورات العربية، بدأ يغير رؤيته في التعامل مع جماعات الإسلام السياسي، فلقد بدأ الاتحاد الأوروبي يظهر تقبلا للتعاون مع حكومات إسلامية، وتقديم المساعدة لها.ولكن ما أن بدأت جماعة الإخوان تظهر عدم احترامها للمبادئ الديمقراطية؛ فقد قام الاتحاد الأوروبي باتخاذ مجموعة من الخطوات على الصعيد الدبلوماسي للتأكيد على ضرورة تضمين المعارضة في العملية السياسية، والحيلولة دون احتكار السلطة من قبل جماعة الإخوان. غير أن اتساق الرؤى الأوروبية لم يدم طويلا بعد عزل محمد مرسي، وبدأت الاختلافات ما بين الدول الأعضاء تظهر من جديد بشأن تقييم ما حدث من تطورات، وكيفية التعامل مع مآلاتها.
وكما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة، يرى الخبراء أن ثمة مجموعة من العوائق تحد من فاعلية الجهود الأوروبية في المنطقة. يأتي في مقدمة هذه العوائق، التعقيدات التقنية والبيروقراطية داخل الاتحاد الأوروبي بشأن الدعم المقدم لدول المنطقة. ويضاف إلى ذلك عدم الاتساق ما بين الأهداف التي يعلنها الاتحاد الأوروبي لسياساته في المنطقة، وبين متطلبات واحتياجات عملية التحول في كل دولة، وخاصة في ظل ما تشهده من تطورات سياسية متسارعة ومعقدة. وذلك إلى جانب الأبعاد المتعلقة بضعف النخب الحاكمة في الدول المتلقية للدعم.
ويرى الخبراء أنه على الرغم من بعض التغيرات التي طرأت على سياسة الجوار في الفترة الأخيرة، من خلال المبادرات والاتفاقات الثنائية مع دول المنطقة؛ إلا أن هذه التطورات المحدودة لا تعبر عن تغير حقيقي، أو تحول في الرؤية الأوروبية لعلاقتها مع دول المنطقة.
آفاق التعاون المشترك
خلُص الخبراء إلى نتيجة مفادها أن الجهود الفردية من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي تجاه الدول العربية التي شهدت تحولات سياسية في الفترة الأخيرة لم تُجدِ نفعًا، ولم تستطع أن تحقق مصالحهما الاستراتيجية، أو تمكنهما من الحفاظ على دوائر نفوذهما في المنطقة. ولذا يقدم التعاون المشترك ما بين الطرفين في التعامل مع دول المنطقة فرصًا لزيادة فاعلية وجدوى السياسات المطبقة.
ولكن على الرغم من تكثيف الاتصالات المؤسسية التكتيكية ما بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حول تقييم الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة، فإن هذه الجهود لم تصل بعدُ إلى حد التنسيق الاستراتيجي ما بين الطرفين. ولذا، أكد الخبراء ضرورة تعزيز التعاون بين الطرفين من خلال استغلال ما يمتلكانه من موارد لتدعيم الرؤى المشتركة فيما يتعلق بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، والانتقال السلمي للسلطة، واحترام التعددية، وغيرها من متطلبات التحول الديمقراطي.
ولكي يتم ذلك، اقترح الخبراء أن تنتقل المشوارات ما بين الاتحاد الأوروبي والإدارة الأمريكية من مجرد التركيز على إدارة الأزمة، إلى بحث سبل التعاون لدعم التحول الديمقراطي في دول المنطقة، وضمان التزام الحكومات وكافة الفصائل السياسية به. كما أن الرؤية الأمنية تجاه المنطقة لا بد أن تتسع لتشمل إصلاح القطاعات الأمنية في العديد من الدول، وتقديم ما يتطلبه ذلك من مساعدات، وألا تقتصر هذه المساعدات فقط على جهود تأمين الحدود ومكافحة الإرهاب. وأكد الخبراء على ضرورة أن يشمل الدعم الأوروبي الأمريكي كافة دول المنطقة، بما في ذلك الدول التي تشهد تحولات شديدة التعقيد (كالحالة المصرية). يضاف إلى ذلك، ضرورة ألا تتجه كافة هذه الجهود نحو مساندة الحكومات، وإنما أيضًا دعم المجتمع المدني، والحيلولة دون تعرضه للقمع من حكومات دول المنطقة.
وفيما يتعلق بالأبعاد الاقتصادية، جاء من ضمن التوصيات ضرورة دعم استثمارات القطاع الخاص، وتقديم مساعدات بهدف الإصلاح الاقتصادي، سواء من خلال التدريب، أو الدعم التقني، أو الشراكة.ففشل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في التعامل مع تغيرات المنطقة لن تكون له نتائج كارثية فقط على مصالحهما، وإنما أيضًا على دول المنطقة. فحتى وإن وقعت مسئولية ضمان التحول الديمقراطي على عاتق الحكومات والنخب الحاكمة، فإن هذا التحول بكافة أبعاده -سياسية كانت أم اقتصادية- لن يكون ممكنًا بدون الدعم الأمريكي الأوروبي.