فتح الله كولن.. الرجل الذي يهدد عرش أردوغان |
الخلافات بين الحركة التي يقودها فتح الله كولن وحزب أردوغان يهدد بتقويض قاعدة التأييد لحزب العدالة والتنمية قبل الانتخابات المحلية والرئاسية المقبلة. |
عنن صحيفة العرب [نُشر في 21/12/2013، العدد: 9416، |
اسطنبول ـ رغم أن الحركة التي يقودها فتح الله كولن قد ساعدت حزب العدالة والتنمية ذا الجذور الإسلامية في الفوز بعدد كبير من الأصوات في ثلاثة انتخابات متتالية على مدى العقد الأخير، إلا أن ثمة خلافات أيديولوجية بين الحركة وحزب أردوغان منذ فترة طويلة. ويهدد الخلاف بين الجانبين بتقويض قاعدة التأييد قبل الانتخابات المحلية والرئاسية العام القادم.
«أحملُ ذُلِّي ومسكنتي.. أتعثّر بذنبي.. وعلى ظهري أثقال همي أسقط مرةً وأنهض أخرى… ولكني أَحُثُّ الخُطَى.. وأتابع المسير..»
كانت تلك الكلمات لفتح الله كولن.. الذي سيولد قبل كتابتها بثلاثة وسبعين عاماً في «أرض روم» في العام 1941، واليوم يذكّر كولن بنفسه من منفاه الأميركي، فتقوم حركته واسعة الانتشار في تركيا بشن هجوم قضائي يديره أحد أعضائها على حزب أردوغان وحكومته، بعد قيام الأخيرة بإغلاق شبكة «درشان» التي تتبع لكولن وتعدّ أكبر استثماراته الاقتصادية والفكرية، وتأتي هذه الفضيحة التي تظهر كحرب بين الإسلاميين الأتراك، في توقيت غير مناسب لأردوغان وحزبه، فقد تفجّرت قبل انطلاق الحملة الانتخابية لحزب أردوغان لخوض الانتخابات البلدية فى آذار ـ مارس 2014، ذلك الحزب الذى كان يضع شعار حملته الانتخابية «الشفافية ومكافحة الفساد».
الزعيم الروحي لحركة كولن
فتح الله كولن الذي أصبح خلال سنواته السبعين أباً حقيقياً للإسلام الاجتماعي في تركيا بالتوازي، وإن شئت بالتناقض، مع مدرسة نجم الدين أربكان الذي دفع بالإسلام السياسي للصعود، وكان عليه أن يذهب عميقاً في حياة الناس، ظهر «والد الإسلام الوعظي» مستفيداً من المدرسة النورْسيّة قارئاً في رسائل النور التي كبتها بديع الزمان سعيد النورسي، زار مرّة أحد الأثرياء المتأثرين به وبفكره، فقال للرجل: «ألا أقترح عليك اقتراحاً؟» قال له: «بلى»، قال: «أن ترسل هذه القصور التي بنيتها إلى الآخرة». قال له: «كيف؟» قال: «تحوّلها إلى مدارس». وحوّلت القصور إلى مدارس، وكان على الشيخ فتح الله أن يكرّر هذا مراراً كي ينتشر فكره على شكل معاهد ومواقع للدرس والبحث، من خلال طاقة المجتمع نفسه.
ربّاه والده «رامز أفندي» على العلوم والآداب التي انتشرت بين أفراد الطبقات المثقفة في تركيا آنذاك، وقد اجتمعت في بيت والده الصوفية والعلماء، فأتقن العربية والفارسية، وكان لرسائل النور دور كبير في تنويره وتوعيته في مناخ تركيا الأتاتوركية الغاضبة الصارمة، وعيّن في بداية شبابه إماماً لجامع «أُوجْ شرفلي» في أدرنة وكان ينام في الجامع معتكفاً طيلة الوقت.
كتشف فتح الله من تجربة الإمامة والخطابة، القدرة على التأثير في الناس بالكلمات، فتحوّل إلى «واعظ متجوّل» يجوب القرى والأرياف والمدن ليحدث الناس عن الإسلام والرسول والأخلاق الإسلامية، تعرّف إلى الفلسفة فجعلت من تفكيره الديني أكثر انفتاحاً ووعياً في الخطاب، فأدخل منهج الوعظ إلى مرحلة متقدمة حيث صار هذا المنهج مدارس واسعة على امتداد البلاد.
تحولات تركيا وخط كولن
شهدت تركيا الانقلابات العسكرية، وكان الجيش يبطش بالحكومات بذريعة حراسة العلمانية، وعاش كولن تلك التقلبات كلّها محافظاً على خطّه الفكري السلمي الاجتماعي، وقام كنعان أفرين في العام 1980 بانقلابه، وبعد التغييرات التي أدخلها على الحياة السياسية التركية، أتيح المجال لكولن كي يتابع تأثيره بحرية، وبدءاً من العام 1990 شقّ طريقاً للحوار المفتوح مع الأديان فتركت دعوته وقعاً عظيماً في تركيا التي تستند إلى الروحانية بيد وتتمسك بالمدنية باليد الأخرى، ونجح في مشروعه لدرجة أن بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني دعاه للقائه في روما.
وصار لفتح الله تيارٌ خاص في المجتمع التركي عرف بـ «حركة كولن»، تقوم على مئات المدارس في تركيا وخارجها، وبالأخص في جمهوريات آسيا الوسطى، وروسيا وحتى المغرب وكينيا وأوغندا والبلقان والقوقاز، وتقول المصادر إن لحركة كولن وسائلها الإعلامية وشركاتها ومؤسساتها، ولديها شراكات كبرى مع المدن الأوروبية وعواصم العالم وجامعاته، وكأنما تحاول حركة كولن التواجد بقوة أمام التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي انتهج النهج الاقتصادي ذاته، إلا أنها تفارق المشروع الإخواني في البعد الاجتماعي المنفتح لها، مقابل الانغلاق التنظيمي للإخوان الذي يزيد من صعوبة اندماجهم بالمجتمعات، فلاقت حركة كولن ترحيباً من الغرب، وعدّها الأوروبيون والأميركان الشكل الأكثر ملاءمة مع الإسلام بسبب انتفاحها على الآخر، ورغبتها بالتعاون مع كل القوى العظمى فيه.
كولن والشريعة الإسلامية والمنفى..
يعتقد كولن أنه لا يجب تطبيق الشريعة الإسلامية في تركيا ولا في أي مكان من العالم، ويقول: «إن الغالبية العظمى من قواعد الشريعة تتعلق بالحياة الخاصة للناس، فيما الأقلية منها تتعلق بإدارة الدولة وشؤونها، فلا داعي لتطبيق أحكام الشريعة في الشأن العام»، ويرى كولن أن «الديمقراطية هي الحل»، وبدأت تظهر في مواجهته مقاومة قوية، ترى أنه عدو العلمانية الأول في تركيا، فأعاد كولن تركيب فكره ليضيف إليه ما يرضي القوميين الأتراك ولافتة تدعو لمحاربة الإرهاب وتوطيد العلاقات مع الأميركيين.
في صيف العام 1999، بدأ كولن حملة من الانتقادات ضد الحكومة التركية عبر وسائل الإعلام، فاتخذ المدعي العام التركي قراراً بالتحقيق معه، ليتدخل بولند أجاويد الرئيس التركي حينها، للوساطة ما بين كولن وأجهزة الدولة، وقال أجاويد: «مدارسه تنشر الثقافة التركية حول العالم، وتعرّف تركيا بالعالم» فقام كولن بالاعتذار عمّا بدر منه، ولكن هذا لم يجدِ نفعاً، فتم توجيه المزيد من الاتهامات إليه، وناصبه الجيش العداء، وفي تلك الأثناء كان كولن يجتمع بأنصاره ويدعوهم إلى تغيير النظام في تركيا من علماني إلى إسلامي ولكن بمناورة وبطء، وتسبب بمشكلة دبلوماسية مع جمهورية أوزبكستان، التي قال إنه يريد نشر الثقافة التركية في أراضيها، فقررت أوزبكستان إغلاق مدارس كولن داخل حدودها، وأصدرت هيئة التعليم العالي في تركيا قراراً يقضي بعدم الاعتراف بالشهادات العلمية التي تعطيها مدارس كولن، لكن هذا القرار كان مؤقتا.. فغادر كولن إلى أميركا، واستمرت حركة كولن تعمل في تركيا وتصدر جريدتها الشهيرة «زمان» التي توزّع يومياً أكثر من مليون نسخة، وتنشط في وقت حرج يتعرّض فيه الإسلام السياسي إلى محكٍ صعب، يقول كولن: «وجدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم غريباً في كثير من الديار التي جُلْتُها، كنت أشعر وكأنني أبتلع المسامير، لأنني وجدت غربة النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد أوروبا وأميركا، إن كل من له ليلٌ ونهار، ينبغي أن يشتغل في تبليغ الدين ما بلغ الليل والنهار».
صراع الإسلاميين ومسار تركيا
ما يلفت اليوم هو تفجّر صراع الإسلاميين في تركيا، ما بين حلفاء الأمس، والأكثر أهمية هو قرار كولن بالتحوّل من الخدمة الاجتماعية إلى التنافس السياسي، بتسليط أعضاء حزبه على منافسيهم في حزب أردوغان، وقالت مجلة «لوبوان» الفرنسية إن قضية شبكة الفساد التركية هذه التي تم اكتشافها، أضعفت نظام رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وسلطت الضوء على الصراع الداخلي بالبلاد، وقالت المجلة إن القضية أخذت منحى سياسيا حقيقيا عندما أظهرت تورط العديد من أعضاء حزب العدالة والتنمية ومن بينهم مصطفى دمير رئيس بلدية حي فاتح، بينما ذكرت «اللوموند» أن هذا الهجوم من جانب القضاء يأتي في إطار الصراع بين أنصار أردوغان والمفكر الإسلامي فتح الله كولن المنفي إلى الولايات المتحدة ومؤسس «حركة كولن» وزعيمها التي دعمت حزب العدالة والتنمية لمدة عشر سنوات قبل قيامها بإدانته لانحرافه نحو الاستبداد، كما نقلت صحيفة «فان مينوت» عن أنجين ألتاي نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري ما صرّح به لوكالة فرانس برس بأنه «يجب على رئيس الوزراء التركي أن يستقيل»، مشيرًا إلى أنهم يشهدون «تصفية حسابات بين أردوغان وكولن».
وسيصبح هذا الصراع اليوم، أكثر الصراعات خطورة بعد نجاح أردوغان في إطباق سلطته على الدولة التركية ومؤسساتها، وتحييد دور الجيش والمخابرات عبر صديقه وخليفته المنتظر فيدان هاكان، الذي لم يبدو من المستغرب أنه فاته ما يتم تدبيره في أوساط القضاء للحزب الحاكم، وربما كان الأمر تم باتفاق خفي معه.
قال أردوغان معلّقاً على فضيحة الفساد: «لن أقول شيئاً قبل أن يقول القضاء كلمته، وأولئك الذين يستندون إلى دوائر الظلام والعصابات، لن يرسموا لتركيا مسارها.. من يعتمدون على قوة رأس المال والإعلام لن يحددوا لتركيا مسارها»، وكان أردوغان قد عقد صفقة تحالف مع حزب الشعب الجمهوري التركي، ولكن الزيارة الأخيرة لرئيس حزب الشعب كيليشار أوغلو للولايات المتحدة، ولقاءاته مع شخصيات نافذة في الجماعة في أميركا، «كشفت اللثام عن جهد أميركي يهدف إلى الإطاحة برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان» كما يقول المحللون.
وكان حزب العدالة والتنمية قد اتخذ خطوات استباقية في حال تمّ نقض الصفقات المبرمة مع حزب الشعب الجمهوري، لذلك فقد تحرّك أردوغان نحو الكرد وأقليات عرقية أخرى في تركيا، مثل الأرمن والغجر والآشوريين والعرب والأذربيجانيين، والذين عانوا بعد عهد أتاتورك وميوله للتتريك وطمس كل الهويات والثقافات واللغات غير التركية، لتكون حكومة أردوغان أول حكومة تفتتح معهداً خاصا للدراسات الثقافية للمواطنين الأتراك من أصول غجرية، وأول حكومة تسمح رسمياً باستخدام الأسماء غير التركية في المؤسسات الحكومية وفي أسماء الشوارع.
بالمقابل كان كيليشار رئيس حزب الشعب الجمهوري وأعضاء من حزبه قد هاجموا قرار الحكومة القاضي بغلق مراكز التدريس الخاصة بحركة كولن، والغريب أن كثيرين يعدّون أردوغان تلميذاً لكولن وليس لنجم الدين أربكان، بمعنى أنه استفاد من فكرته حول الديمقراطية، والذهاب إلى العمل المدني والخدمة التي سمّى بها كولن حركته “خدمة”، ولكن كولن يرى أن أردوغان فاق الحد في التسلّط، ولذلك فقد تمادى الشرخ بين الاثنين حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم.أما فتح الله كولن فقد قالت عنه البروفيسورة جيل كارول وهي كاتبة أكاديمية في جامعة «رايس» الأميركية كخبيرة ومحاضرة متخصصة في مجال الدين- السياسة، الدين- المجتمع، فلسفة الحياة: «لقد عشتُ مع فتح الله كولَن من خلال كتاباته ومازالت أفكاره تلهمني، ولقد عرفت بعد لقائه لماذا أَلهم هذا الرجل ما يقرب من ثلاثة أجيال في تركيا ومَنَحَهم الدافع رجالاً ونساءً لإنشاء عالم جديد».يعيش كولن اليوم في منفاه الاختياري في بنسلفانيا الأميركية، وقد أنشأ أتباعه ما يقرب من مئة مدرسة مستقلة في الولايات المتحدة وحدها، كما اكتسبت الحركة زخماً قوياً في أوروبا منذ تأسست أولى مدارس كولن في شتوتغارت بألمانيا في العام 1995.ويقول داني رودريك الخبير الاقتصادي التركي وأستاذ العلوم الاجتماعية في معهد الدراسات المتقدمة بمدينة برينستون الأميركية، إن أتباع حركة كولن: «خلقوا ما يُعَدّ فعلياً دولة داخل الدولة التركية، ورسخوا وجودهم بقوة في الشرطة والقضاء والجهاز البيروقراطي للدولة، وينكر أتباع حركة كولن أنهم يسيطرون على الشرطة التركية، ولكن كما قال سفير الولايات المتحدة إلى تركيا في العام 2009 إنهم لم يجدوا شخصاً واحداً يشكك في هذه الحقيقة»، ولكن كولن ينفي هذا بشدّة ويعتبر أن تلك الإشاعات هدفها التشويش على التحقيقات، ويطالب بأن يأخذ القانون مجراه.والحقيقة أن الصراع في تركيا اليوم يخفي ما هو أكبر، فربما وصلت المدارس الفكرية في التيارات الإسلامية إلى ذروة صدامها مع بعضها البعض، وقد يكون التصدّع قد بدأ في معنى ترابط الدين مع العمل المدني.. ومن يدري! |