الشاعر عبد اللطيف اللعبي: الربيع العربي لم يقل كلمته الأخيرة بعد..

 

اللعبي: مقاومتي للتشاؤم نابعة من تشبثي بمعجزة الحياة وانبهاري بمغامرة العقل البشري الخرافية.

 

 عن صحيفة العرب عمر يوسف سليمان [نُشر في 17/12/2013، العدد: 9412،

 

«كانت الحياة كريمة معي، وكنتُ شديد الامتنان لها. اقترنتُ بها في زفاف لا يتوقف واحتفلتُ بها حتى الارتواء. وأحببتُها كميّال للمتع وكمتصوّف معا. دافعتُ عنها ضد المعتدين والمقنعين» هكذا يوصّف عبد اللطيف اللعبي سيرته الأدبيّة في كتابه “شاعر يمر”، وهي سيرة ثرّة التجربة ترحّل فيها من ثقافة إلى أخرى ومن لسان إلى آخر دون أن يتمزّق كيانه الإبداعي ويتردّى في المنزلة البينية، بل عاش ازدواجية اللغة “كمسار شيزوفريني سعيد” على حدّ عبارته. وفي خلال كلّ ذلك، وعلى امتداد خمسة عقود من الزمن، ظلّ هذا المبدع المَشَّاء يفرّق معانيه بين قبائل الإنسان من الشرق إلى الغرب، كما لو أنه يحمّلها مسؤولية محاربة كلّ صنوف التطرّف والعنف وينبّهها إلى واجب الاحتفاء بالحرية مهما كان ثمنها.

يتابع الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي تجربته في الكتابة والنضال بعد خمسة عقود قضاها في العمل الثقافي والسياسي، ظل خلالها التمرد على الاستبداد لتحقيق حرية الإنسان وكرامته هاجسه الأعمق، وهو منذ عمله المسرحي في أواسط الستينات مرورا بتجربته الصحفية والسياسية التي أودت به إلى الاعتقال وصولا إلى تجربته مع الشعر والرواية والترجمة، ظل مناضلا يرى أن التعددية السياسية والنهضة الثقافية أمران متلازمان لا يتحقق أحدهما إلا بتحقق الآخر.

اللعبي المقيم في باريس منذ ثلاثين عاما والحائز على جائزة “غونكور” الشعرية الفرنسية عام 2009، صدر له ديوان جديد بعنوان “منطقة الاضطرابات” عن دار “نلسن” كان نقله الشاعر عيسى مخلوف إلى العربية. حول الديوان، وحول تجربة المنفى والسجن، والوضع العربي الراهن يدور هذا الحوار.

المنفى ليس شرا

يقول الشاعر اللعبي حول تجربة المنفى التي عاشها منذ الثمانينات، وما الذي يمكن أن يقدمه المنفى للمبدع: “تجربتي للمنفى عرفت مراحل عدة، لكل واحدة منها مواصفاتها الخاصة. الأولى طبعا كانت غاية في القسوة لأن اغترابي في منتصف الثمانينات كان اضطرارا وليس اختيارا. لقد صوّرت تلك المرحلة بدقة في العديد من كتاباتي، ومنها على الخصوص روايتي “تجاعيد الأسد”.

بعدها، أصبح المنفى بالنسبة إلي حالة اعتيادية إلى أن اكتشفت أنه ليس شرا بالمطلق، بل له مزاياه. فالابتعاد يفرض عليك أن تتحقق من صدق العلاقة التي تربطك بوطنك وشعبك، ومن صدق التزامك أم لا بقضاياهما.

زد على ذلك أنه يسمح بتوسيع هائل لآفاق المعرفة والمخيلة ويتيح مجالا أرحب للمقارنة والإلهام.

وهكذا يصبح المنفى نافذة على الكونية. ونحن نطل من تلك النافذة، نكتشف مثلا أن نضالاتنا من أجل الديمقراطية في بلداننا الأصلية، رغم ما تحقق في بداية الربيع العربي، ما زالت محدودة السقف، كما أن تطلعنا إلى الحريات لم يصل بعد إلى المطالبة بالحدّ الأقصى”.

وعن مطالب شعوبنا العربية بإسقاط الدكتاتورية وتحقيق الحرية والعدالة، وهي المطالب التي لم تتحقّق إلى الآن، يقول اللعبي: “في هذه الحالات، وفي غيرها، ارتكزت المطالب على إسقاط الديكتاتور واستعادة الحرية والكرامة، دون أيّ تصوّر واضح المعالم للمشروع الديمقراطي والمجتمعي والحضاري البديل. طبعا كان من الصعب أن يتم ذلك في غياب قوى مواطنة منظمة، حاملة لمشروع من هذا النوع، وهذا هو الذي أتاح للقوى المحافظة أن تجني بالمجان ثمار الربيع وتنجز ثورتها المضادة”.

درس مانديلا

إن هذا مشروع النهوض الحضاري لم يكن مطروحا في كثير من الثورات عبر التاريخ، ومع ذلك تحقق ضمن السياق الطبيعي لتلك الثورات على غرار ثورة الفلاحين والثورة الفرنسية، وهنا يجيب اللعبي: “الثورة الفرنسية لم تنبع من العدم. لقد مهد لها العديد من الفلاسفة والعلماء والمبدعين قبل اندلاعها بعقود.

ولذلك سمي القرن الثامن عشر في فرنسا بقرن الأنوار. في العالم العربي أيضا، لم ينبع الربيع من العدم. ففي العقود التي سبقت تجدد الفكر والتحقت الفنون والآداب بقاطرة الحداثة وتطورت المجتمعات في طرق عيشها وسلوكها وحاجاتها ومطامحها. إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهيه السفن. من كان بمقدوره أن يتنبأ بالثورة الخُمينية وبعدها بالمد الأصولي وببروز ما سمي بالإسلام السياسي؟

إنها حيلة من حيل التاريخ غيرت المجرى الذي كان من المنطقي والمفروض أن يتابع سيره نحو تحديث مجتمعاتنا وانفتاحها ونموها وإرسائها لقواعد جديدة للعيش الآمن والمتناغم بين مختلف مكوناتها العقائدية والإثنية والثقافية.

ومع كل ذلك، أعتقد أن الربيع العربي لم يقل كلمته الأخيرة. إنه فصل عرف محطتين إلى حدّ الآن، لكنه ينبئ بمحطات أخرى قادمة ولا ريب.

ولتكون تلك المحطات المقبلة حاملة للتغيير المنشود علينا أن نهيّئ التربة دون تأخير. لذلك، ومن وجهة نظري، علينا أن نواجه بحزم تحديين. الأول، سبق لي أن أشرت إليه، يكمن في لمّ شتات المعسكر الديمقراطي الحداثي وبلورة مشروعه المجتمعي الحضاري. والثاني يكمن في مدّ الجسور وفتح الحوار ما بين هذا المكون المدني والمكوّن ذي المرجعية الدينية من أجل إرساء أسس جديدة للتعايش وقبول التعددية والاختلاف، ولبناء مجتمع متحضر يضمن للجميع كافة الحقوق والحريات.

المسألة هي كيف نخرج من سيناريو الصّدام ونفق العداء والتحجر العقائدي والأيديلوجي؟ كيف نقيم عملية تركيب خصبة ما بين فكر الأنوار العلماني وفكر الأنوار الإسلامي؟ ولكي ننجز هذا السيناريو الحامل للأمل، يلزمنا اكتساب ثقافة الحوار والتحلي بفضيلة التسامح والقيام بعمل فكري ضخم.

ونحن نودّع نيلسون مانديلا، علينا أن نستخلص أهم درس لقنه ذلك الرجل المتواضع والشهم للبشرية جمعاء: لقد استطاع وسط أحلك الظروف أن يتصوّر حلا متحضرا وصائبا للصراع الذي كاد يفتك بمستقبل وطنه وشعبه. وهكذا انتصر للتعايش والتسامح وسموّ القيم الإنسانية ضد نظام التمييز العنصري الهمجي وما يرافقه من تطرف وعداء قاتل”.

ملكة الحب

في ديوان “منطقة الاضطرابات”، يلفي القارئ حديثا للشاعر خفيا عن الموت، يقابله تفاؤل قوي تُظهر اللغة الشعرية وتنبئ به شخصية اللعبي، وقد سألناه إن كان ذلك ناتجا عن رضىً إبداعي ونضالي أم هو نوع من التحدي أمام مآسي العالم، فأجاب قائلا: “أذكرك هنا بمقولة الفيلسوف والمناضل الإيطالي غرامشي: “يجب مقاومة تشاؤم العقل بتفاؤل الإرادة”. أعتقد أن التشاؤم عديم الجدوى. فهو يحكم عليك بشلل العقل والإرادة.

مقاومتي له نابعة من تشبثي بمعجزة الحياة وانبهاري بمغامرة العقل البشري الخرافية. تلك المغامرة التي نقلت الإنسان في ظرف زمني وجيز من الهمجية إلى الذكاء الهائل. ثم إن تجربة الحياة على كوكبنا فريدة، يتيمة في الكون. لذلك فإنني أعيشها بانبهار دائم على الرغم من كل البشاعات التي ارتكبتها البشرية.

أمام كل هذا يصبح الموت شيئا تافها لا سيما حين أتأمل عجائب الجسم الإنساني، لقد وصلت بعد اطلاعي على العلوم التطبيقية إلى أن ما يحدث في الكون يحدث بتفاصيله داخل أجسادنا. اختبرت هذا الأمر بعمق أثناء حوار طويل أجريته مع جسدي جراء تجربة المرض في السنوات الأخيرة.

وفي الأخير أريد أن أنبه إلى ملَكة مذهلة لم نعد ننتبه إليها في واقعنا العربي: ملَكة الحب. هي مذهلة لأنها الطريقة المُثلى لاكتشاف ذاتك. ما من اكتشاف للذات، ومن ثمّ لأشباهنا البشر دون تلك العلاقة الخاصة التي تربطك برفيقة الدرب والعمر.

الحياة فرصة ثمينة، وهي صدفة لا غير. إذا لم أنتزع منها ما هو أجمل فلماذا أعيش؟ هذا ما أقوله في أحلك الظروف، وهو ما حصل خلال سنوات السجن، فقد عشت رغم الفراق، بل ضدّا عليه، أجمل علاقة حب مع رفيقة دربي: جوسلين”.

وقد جرّتنا إجابة اللعبي الأخيرة إلى سؤاله عمّا اكتشفته مع جوسلين بعد نصف قرن من هذه العلاقة التي سبق أن وصفها بأنها عمل فني بُني بالمخاوف والتساؤلات والتمزقات والفراغات والتحولات والإشراقات، فقال: “المرأة جنس بشري متفوّق على الرجل. قدرة النساء على الصبر والتحمل لا تضاهيها قدرة الرجال. قلت لجوسلين في إحدى الحوارات: لا أعرف كيف كنتُ سأتصرف لو كنتِ أنتِ المعتقلة، ربما طويت الصفحة، وتخليتُ. إن تجربة النساء القاسية عبر التاريخ هي التي أعطتها تلك القدرة على التحمل والتضحية. لاحظ أيضا أن النساء لم يمارسن السلطوية والتقتيل كما مارسها الرجال عبر التاريخ. وهذا فضلهن عليهم وعلى البشرية جمعاء”.

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…