الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بين واقع الاستبداد وحلم التحديث
محمد بوبكري
يعتقد بعض الناس أن للاستبداد مؤسساته وآلياته التي تمكِّنه من التحكُّم في المجتمع عبر التواجد في مختلف مفاصله والتغلغل في كل العلاقات القائمة بين أفراده ومؤسساته… قد يكون ذلك، إلا أنَّ ما يغيب عن هؤلاء هو أنه قد تنجح آليات الاستبداد في استمراره لمدة من الزمن لكن دون تمكينه من القدرة على تجنب التصدعات والهزات التي سيعرفها بسبب عمله المتواصل على تَوَحُّد السياسة وعدم اختلافها نتيجة احتكارها من فئة سياسية محدودة، ما جعله ينتج انسدادا سياسيا ويخلق مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة ومتعددة. لقد حدث هذا في القرون الماضية، وسوف يتكرر مستقبلا، ذلك أن علاقات ومعارف المجتمعات في عالمنا المُعَولَم صارت مترابطة ومتداخلة بشكل مستمر وغير مسبوق، إذ لم تعد هذه المجتمعات قادرة على إخفاء نجاحاتها وإخفاقاتها لأن الثورة المعلوماتية وما أنتجته من وسائل إعلام عابرة للحدود أصبحت تتيحُ الانفلات من أدوات الضبط والمراقبة التقليديين. وهذا ما يستعصي معه الاعتقاد في استمرار سيادة النزعة التسلطية، ويزودنا حاضرنا بشواهد تاريخية عديدة على ذلك.
لذا، إذا تمكن الاستبداد من فرض استقراره فذلك يكونُ مجرد استقرار ظاهري عابر، لأنه قائم على تسلطية عميقة تؤدي، مع مرور الزمن، إلى تصدُّع الأوضاع بشكل يستحيل معه احتواؤها. ويعود ذلك إلى أن الاستقرار الشكلي يُنتج عموما الشيء ونقيضه معا، إذ قد ينجح الاستبداد في الظهور بمظهر المستقرِّ، ويروِّجُ لتلك الصورة داخليا وخارجيا، حيث قد تتواطأ بعض القوى الغربية معه إذا كانت سياساته الخارجية تخدم سياساتها… لكن ما لا ينبغي إغفاله هو أن الاستقرار الظاهري قد يؤدي على المَدَيَيْن المتوسط والبعيد إلى مراكمة المشاكل، ما قد يفضي إلى تعميق الإحباط واستفحال الغضب والاحتقان في البنية العميقة للمجتمع، الأمر الذي قد يقود بدرره إلى زعزعة الاستقرار… وعليه، فصورة الاستقرار الظاهري لا تعدو أن تكونَ مجرَّد صورة خادعة، لأنه يقوم على أرضية هشة تهددها البراكين التي تغلي من تحتها…
قد يلجأ الاستبداد أحيانا إلى الظهور بمظهر حداثي بهدف ضمان استمراره. وقد ينجح في ذلك نتيجة تخوُّف الناس من صعود جماعات متطرفة وما ينجم عن ذلك من اشتعال للفتن… لكن ذلك لا يمكن أن يستمر طويلا، إذ لا يستقيم هذا المنطق في وجه التجارب والشواهد التاريخية التي عرفتها أوروبا الشرقية والشرق الأوسط… أضف إلى ذلك أن الحداثة قد تخسر الكثير على المدى الطويل، لأن الناس سينفرون منها إذا ترسخ في متخيلهم أنها مُمَثَّلة بمؤسسات سلطوية وفاشلة…
علاوة على ذلك، لم يعد ممكنا للاستبداد أن يختفي وراء نجاحات اقتصادية شكلية وتوظيفها لاستمرار الانسدادات السياسية والتسلطية. فلا يمكن تصور أي نجاح اقتصادي بدون نجاح وانفتاح سياسيين. ويعود ذلك إلى أن النجاح الاقتصادي يقوم على مفاهيم تكافؤ الفرص والشفافية والمحاسبة…، وهي مقولات لا يمكن أن تتوفر إلا في مناخ ديمقراطي، بدونه لن تكون هناك أية فاعلية للاقتصاد. ففي غياب استقلال القضاء والتعددية السياسية والإعلام الحر التي يعتمد تلك المفاهيم… لا يمكن أن يتواصل النجاح الاقتصادي، حيث سيستشري – وبسرعة خارقة – فسادٌ مُرَكَّبٌ منفلت من أي ردع أو أية رقابة، ما يفسح المجال للريع ويقضي على الإنتاج، ويقوِّضُ الاقتصاد…
وتعويضا لشرعيات منقوصة، قد يلجأ الاستبداد إلى الاعتماد على الدعم الخارجي، لكن ذلك لا يحقق سوى استقرار قصير الأمد، إذ لا استقرار إلا مع الشرعيات الصلبة المتوافق عليها والقائمة على بنيات داخلية ديمقراطية… فالحكومات الغربية تخضعُ هي ذاتها لتحولات العالم المُعَولَم، حيث أصبح الإعلام منفلتا من سيطرتها كذلك، ولم يعد في إمكانها إخفاء سياساتها المعهودة القائمة على النفاق وازدواجية الموقف والكيل بمكيالين، إذ ما عاد بمستطاعها أن تخفي على مجتمعاتها وقواها الديمقراطية تواطؤها مع دول لا تحترم حقوق الإنسان. وتفيدنا التجربة التاريخية أن الدول العظمى تراقب عن كثب ما يجري محليا في كل بلدان العالم، وأنها لا تتردد في تغيير مواقفها كلما رأت في ذلك ما يخدم مصالحها. وقد شاهدنا هذا مؤخرا في حالات عديدة وأكثر من مرَّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا…
وبما أن الاستبداد يتعارض من حيث طبيعته مع الحراك السياسي والاستقرار والتنمية.. فضلا عن أنه يقوم على بنيات تقليدية ولا ديمقراطية…، فإنه لا يمكن أن يكون هناك استقرار وتقدم إلا في مجتمع حرّ، حيث يتطلب الأمر توفير الشروط الضرورية لدخول هذا الأخير في عملية تحول اجتماعي وثقافي عميقة. وعوض إضعاف الطبقات الوسطى، كما يحدث في منطقة الشرق وشمال أفريقيا، ينبغي أن تكون هناك طبقة وسطى منفتحة وفاعلة مجتمعيا وثقافيا ومنتجة للقيم الإيجابية، بحيث تنتج المشاريع السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وتخلق توازنا داخل المجتمع بما يجعل الدولة تصبح ذات نفع عام، ويمكِّن المجتمع من التخلّص من القيم الإقطاعية التسلطية والأبوية، وإرساء دعائم الاستقرار والانخراط في سيرورة التنمية…
لا يستطيع الاستبداد أن يؤسس لشيء عميق في المجتمع، لكن عندما تنمو طبقة وسطى، يتقدم المجتمع معها، لأنها قادرة على تطوير ثقافة الإنتاج، ووضع أسس اجتماعية وثقافية لحياة دستورية وحضارية سليمة. لذا يجب أن يعرف المجتمع والدولة عملية تحديث تاريخية وثقافية واجتماعية لأنه لا معنى للحداثة إذا ما تم اتخاذ التحديث مجرَّد قشرة دون النفاذ إلى البنية العميقة للمجتمع ذاته، وتمكين الدولة الوطنية من تأسيس بنياتها الاقتصادية على نحو مستقل، وتطوير ثقافتها الوطنية المنفتحة…
لكن للأسف الشديد، لم تصل دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعدُ إلى بناء هذا النموذج من الدولة، ما يفسر الارتفاع المهول لنسبة الأمية بين أفرادها، وضعف اهتمامها بالثقافة والاقتصاد الوطنيين، وعجزها عن الحد من الفقر بسبب عدم قدرتها على تطوير إستراتيجية مدروسة لأمنها القومي…
النشر بصحيفة نشرة المحرر…الثلاثاء 17 دجنبر 2013