المجتمع العلمي والنخبة السياسية
الثلاثاء, 17 ديسمبر 2013
ما هي العلاقة بين العلم والسياسة في الوطن العربي؟ قد سبق لنا أن عالجنا علاقة البحث العلمي بالنظام السياسي، باعتبار العلم نسقاً اجتماعياً لابد له أن يتفاعل مع باقي الأنساق وعلى رأسها النسق السياسىي.
ولكننا نريد اليوم أن نبحث العلاقة من زاوية علاقات التفاعل بين الباحثين العلميين والسياسيين العرب الذين يسيطرون على عملية اتخاذ القرار في بلادهم. وذلك من خلال إثارة سؤال محدد: هل استطاع الباحثون العلميون العرب أن يرتفعوا إلى مستوى التحدي الذي يواجه الأمة العربية ويقدموا إلى الساسة العرب سياسات قابلة لتنفيذ العلم والتكنولوجيا، كفيلة بتحقيق مطلب الأمن القومى العربي من ناحية، وقادرة على الوفاء باحتياجات التنمية البشرية لصالح الجماهير العربية العريضة؟
إن السؤال يفترض أن هناك مجتمعاً علمياً عربياً يتسم بالتماسك، ولديه القدرة من خلال وسائل شتى على إسماع رأيه للسياسيين، فهل هذا صحيح؟
الواقع أن رصد عدد الباحثين العرب وتحديد تخصصاتهم وتقدير مدى تأهيلهم، ودرجة إسهامهم في البحث العلمي المنظم، وفى الحياة العامة في كل بلد عربي، مسألة بالغة الصعوبة لنقص البيانات المنتظمة.
غير أننا في محاولة للإجابة على السؤال عن العلاقة بين الباحثين العلميين العرب والسياسيين، نستطيع الاعتماد على مشروع قومي يمكن أن يتضح من أعماله المنشورة ارتفاع مستوى الإدراك العلمي للعلماء العرب، وقدرتهم الفائقة على مواجهة التحديات العلمية والتكنولوجية الماثلة أمام الوطن العربي، وعطاؤهم الذي يتمثل في صياغتهم الدقيقة رفيعة المستوى لسياسة علمية وتكنولوجية عربية.
ويتمثل هذا المشروع في خطة العلم والتكنولوجيا للعالم العربي التي صاغتها لجنة مكونة من عدد من العلماء العرب البارزين، كونتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الكسو) التابعة لجامعة الدول العربية. وقد تم ذلك في عهد مديرها السابق العالم الإجتماعي السوداني البارز دكتور “محيي الدين صابر”. وقد أتيح لي منذ سنوات بعيدة أثناء زيارة لمقر اليونسكو في باريس، للاطلاع على وثائق هذا المشروع. وبالنسبة لهذه الاستراتيجية العلمية المقترحة وجدت عنها تقريراً إضافياً كتبه بالإنجليزية عالم الطبيعة اللبناني وخبير السياسة العلمية المعروف د. “أنطوان زحلان”، وسأعتمد على هذا التقرير الذي أعتبره وثيقة بالغة الأهمية في بيان مراحل العمل في هذه السياسة والمبادئ التي قام عليها وحصادها النهائي. وهي تمثل في رأيي قمة إبداع المجتمع العلمي العربي في مجال تخطيط السياسة العلمية والتكنولوجية، وهى تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن العلميين العرب، قد ارتفعوا إلى مستوى التحدي، وقدموا من خلال المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لصناع القرار العرب خطة متكاملة، كان يمكن لو توفرت الإرادة السياسية القومية، أن تنقل الوطن العربي في عقد واحد، من وضع علمي مشتت، إلى بداية طريق الإبداع العلمي والتكنولوجي، مما كان من شأنه أن يسهل علينا العبور من بوابة القرن الحادي والعشرين.
والملحوظة الذكية التي يبدأ بها “زحلان” تقريره، أن بعد العلم غائب عن الدراسات المستقبلية العربية، والتي ركزت أساساً على الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية! وبعد تعقبه لأبرز محاولات مناقشة وبحث الموضوع، ومن أهمها كتابه هو بعنوان “العالم العربي: عام 2000” الصادر في بيروت عام 1975، والذي صاغ فيه عدة سيناريوهات تتعلق بمستقبل العلم والتكنولوجيا، ركز على عمل لجنة الاستراتيجية التي قررت أولاً أن توجه خطابها للحكومات العربية وللمواطنين العرب في نفس الوقت لإثارة الوعى العام بالمشكلة، ومن ناحية أخرى أن ترصد اللجنة أوضاع البحث العلمي العربي كما هي موجودة قبل الحديث عن المستقبل.
وبعد مناقشات عميقة استقرت لجنة الاستراتيجية على مجموعة من الافتراضات والمبادئ.
* الافتراض الأول أن الدول العربية تتسم باختلافات هائلة فيما يتعلق بالموارد وبالخبرة العلمية والتكنولوجية وبدور القطاع العام. واستقر الرأي على صياغة استراتيجية يمكن أن تتفق مع هذه الأوضاع المختلفة. وكان لابد أن ينعكس ذلك على المقتربات والمناهج لضمان أكبر درجة من المرونة.
* الافتراض الثاني الاعتراف بأن أي استراتيجية للعالم العربي لابد لها بالطبع أن تعتمد على التعاون بين الدول العربية، وأن هذا التعاون سيعتمد على قدرات المؤسسات القطرية في كل دولة. ومن هنا فقد كانت نقطة البداية هي الاهتمام بتنمية مؤسسات البحث القطرية. ومن أجل أن تكون المؤسسات الإقليمية فعالة، كان لابد أن تعتمد على مؤسسات قطرية قوية، تقدر التعاون الإقليمي. غير أنه بالإضافة إلى هذه الافتراضات استقرت اللجنة على صياغة عدد من المبادئ الأساسية هي: أن القطاع العام هو أهم قطاع في الاقتصاد في كل البلاد العربية (فليتذكر القراء أن هذا المبدأ صيغ عام 1982 قبل زحف موجات التخصيصية!). وأن المستقبل ستتم صياغة ملامحه في ضوء تأكيد القيم الإسلامية على العلم وعلى قيمة العمل.
والمبدأ الثالث ضرورة استخدام اللغة العربية في تعليم العلم، وفى كتابة البحوث العلمية. وهناك افتراض مؤداه أنه ستكون هناك تنمية لمختلف جوانب الاقتصاد والسكان، وأنه ستتم صياغة نظام للعلم والتكنولوجيا. بالإضافة إلى التأكيد على أن الحكومات العربية لن تستطيع تحقيق أهدافها الوطنية بغير الالتزام بالاعتماد على العلم والتكنولوجيا. وأخيراً أن هناك ترابطاً وتكاملاً بين قطاعات الاقتصاد والتعليم ونظام العلم والتكنولوجيا، وأن التعاون العربي ضروري لتنمية قدرات العلم والتكنولوجيا. في ضوء هذه الافتراضات والمبادئ قررت اللجنة أن تركز عملها على أبعاد أربعة:
البعد الأول: يتعلق بأنشطة العلم والتكنولوجيا في الوطن العربي، والبعد الثاني: يستكشف آفاق التقدم في العلم والتكنولوجيا في العالم وما يمكن الاستفادة منها في الوطن العربي، والبعد الثالث: بحث تأثير الاستراتيجيات الاقتصادية والاجتماعية للحكومات العربية على نظام العلم والتكنولوجيا العربي والبعد الرابع والأخير، صياغة استراتيجية مرنة وواقعية قادرة على تحويل الوضع الراهن إلى المستقبل المنشود. وهذا المستقبل المنشود، اعتمدت لجنة الاستراتيجية في تحديده على التصريحات الرسمية وعلى الخطط القطرية والقومية. وللقيام بكل هذه المهام استقر الرأي على القيام بأربعة برامج بحثية، الأول يبحث الوضع الراهن للعلم والتكنولوجيا في الوطن العربي من زاوية جمع البيانات وتحليلها. والبرنامج الثاني يمسح الإنجازات العلمية العربية في فروع العلم الرئيسية وتطبيقات هذه الإنجازات. والبرنامج الثالث وقد خصص لتحليل مضامين خطط التنمية لتحديد أهدافها ووسائلها واحتياجاتها من مدخلات العلم والتكنولوجيا، أما البرنامج الرابع والأخير، فقد تمثل في التأليف بين نتائج البرامج الثلاثة السابقة.
أردت من هذا العرض الوجيز، أن أشير وأن أشيد في الوقت نفسه بهذا الجهد العربي المتميز الذي سبق منذ سنوات أن بذل في مجال تخطيط سياسة قومية عربية للعلم والتكنولوجيا، غير أن للقصة فصولاً أخرى تستحق أن تروى في مقالات قادمة.
……………..
عن التجديد العربي