مجتمع لا ينتج نخبته.. سيواصل التهام ذاته كل مرة

 

يحسن اليوم أن يعاد النظر في التكوين الخافي لذلك المجتمع الذي تمكن من إبداع كل تلك الأنماط والنظم، ولم يتمكن من إعادة إنتاج نخب قادرة على استيلاد تفكير مختلف يصلح للتعميم.

 

عن صحيفة العرب إبراهيم الجبين [نُشر في 17/12/2013، العدد: 9412،

 

المجتمع العربي بمكوناته القومية الأخرى، التي تلقي باللائمة على طبائع العرب في كل المسارات والإخفاقات التي وقعت خلال العقود الماضية، هو ذاته المجتمع الذي أنتج الثورات، التي انقلبت على الأنظمة التي أنتجها المجتمع ذاته، والتي وصلت إلى الحكم عبر حوامل فكرية أنتجها المجتمع ذاته، واستغلها عسكرٌ من أبناء المجتمع ذاته، تحالفوا مع القوى الإقليمية والدولية للتحوّل إلى وكلاء مصالح لتلك القوى لترويض المجتمع ذاته وتعطيل تنميته، وحرمانه من التحديث والديمقراطية.

ويحسن اليوم أن يعاد النظر في التكوين الخافي لذلك المجتمع الذي تمكّن من إبداع كل تلك الأنماط والنظم، خلال أقل من مئة سنة على حيازته حق تقرير المصير، ولم يتمكّن من إعادة إنتاج نخبٍ قادرة على استيلاد تفكير مختلف يصلح للتعميم، ليصبح ثقافة مجتمعية عريضة، وبقي عصيّاً على التغيّر رغم كل الحروب التي خاضها، والعصف الذي تعرّض له من داخله والإفقار والتجهيل والحرمان، ولم يبدِ أي ردود فعل تذكر أكثر من قدرته الهائلة على التأقلم مع الضغوطات المختلفة، مما جرّأ عليه مستبديه، والأمم التي تراقبه وتنظر إليه كسوق واسعة لمنتجاته الاقتصادية والأيديولوجية، فكان من السهل تصدير كلّ شيْء إلى الشرق، دون أي استثناء، الأمر الذي صعّد من أمواج الاضطراب والاختلاف بين ثناياه، فلم يعرف سكينة ولا استقراراً إلا على يد السلطات القمعية، وهو ما توافق مع الكيفية التي ينظر بها إليه الأقوياء ممن يديرون اللعبة الكبرى.

فهناك من اعتبر النخبة تلك الطبقة التي تتميز بقدرتها على التأثير أكثر من غيرها مع جنيها لنتائج ملموسة بفعل هذا التأثير، حيث وجد شارلز رايت ميلز “أن هناك علاقة ما بين النخبة وامتلاك إمكانية اتخاذ القرار”، إذن فكل الأمور تبدأ من المجتمع، ولعلّ من أهم دارسي المجتمع العربي وأزماته مع النخبة هو برهان غليون، الذي يتتبع في كتابه “اغتيال العقل” الأبعاد التاريخية لأزمة المجتمع العربي، معلناً أن مرحلة الهيمنة الأوروبية كانت “درجة النهاية” لمعظم المدنيّات الكلاسيكية وأنّها بداية اضمحلال للبنيات المركّبة لمجتمعاتها، أمّا “المدنية العربية” فقد وقعت تحت تأثير تلك الاضطرابات التي بدأت زلزلتها في أوروبا، فكان التحلل التدريجي لأكبر إمبراطورية إسلامية (مطلع القرن العشرين) ومن ثمّ انهيار سلطتها، أي السلطة العثمانية، ممّا أدّى الى البحث عن وسائل وطرق تؤدي إلى نوع من التوازنات العقلية والسياسية والاقتصادية فكان أن ازدادت الخشية من التحلل الكامل تحت ضغط المرحلة الاستعمارية التي أعقبت انهيار السلطة العثمانية.

لذلك فقد حاول العرب إعادة تكوين أنفسهم ضمن إطارٍ من المدنية الفاعلة والمتصلة بالحضارة الغربية الجديدة، بحيث تتمتع بقدر من الاستقلالية، فكانت محاولات محمد علي التي سقطت تحت ضربات التدخل الأجنبي الغربي، ثم بدأت مرحلة ذات صبغة فكرية، أطلق عليها “مرحلة النهضة” حاولت أن تعيد لحم عناصر الجماعة العربية من خلال الفكرة والأيديولوجية الإصلاحية والدينية، وقدّمتْ مساهمات كبرى في هذا المجال سواء ما تعلق منها بتجديد أسس العقائد الدينية، أو تجديد الآداب واللغة العربية.

وكان للنهضة العربية تطلّعات سياسية لا شكّ فيها تجسّدت في تكوين الجمعيات العربية والنوادي والأحزاب التي برزت منها جمعية “العهد” الشهيرة، فلم تستطع الصمود بوجه الطغيان الغربي، الذي وأد النهضة في مهدها بتقسيم العالم العربي إلى أجزاء صغيرة، وربط مقدرات شعوبه بمصالحه هنا أو هناك.

ثم يعطي غليون للعرب قرابة ربع القرن، قبل البدء بمشروع حداثي اعتبره مهماً وتمثّل بتأسيس الجامعة العربية في العام 1945، ثم ثورة مصر في العام 1952، هنا تفترق النخبة عن الحكم، وبدلاً من تحقيق حلم النهضة بالتعددية والانفتاح على الآخر، فرض الحكم على من فيه أن يستفردوا بالسلطة، ويعيدوا من جديد اضطهاد المشروع العربي النهضوي العربي، وبدأ نمط الانقلابات بدلاً من الصعود الديمقراطي إلى الحكم يسود في هذا الجزء من العالم العربي أو ذاك، حتى بدأ المشروع القومي العربي بالتصدّع، وتحوّل الصراع داخل المجتمع العربي إلى صراع على السلطة، بدلاً من كونه صراع تحديث وتنافس اقتصادي ثقافي تنموي، ويصف غليون تلك المرحلة بأنها مرحلة “الأزمة المفتوحة” لأنه يرى أنها قد شهدت ما يلي: “انهيار التوازنات الاجتماعية والإقليمية التي خلقها وضمّنها النظام القومي، وانفتاح الصراع من جديد بين مختلف مكوّنات الجماعة العربية الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية والطائفية على مصراعيه، من أجل إعادة توزيع عناصر الثروة والمواقع السياسية والاجتماعية، وتكوين الفكرة أو الأيديولوجية التي تكرّس هذا التوزيع الذي عجّل بظهور انحلال الروابط للتضامن الداخلي والإقليمي وانفلات القوى دون ضابط وتنافرها.. فهي إذن أزمة مفتوحة داخل المجتمع العربي”.

ويخلص غليون إلى ما يسميه بنظرتين إلى الحقيقة، الأولى تشير “إلى مواقف عنصرية تحاول أن تبحث عن تفسير لهذا الواقع بالكشف عن أسبابه في العقل العربي أو في الذات العربية.. فتدير ظهرها للتاريخ وللحركة الاجتماعية وللصراعات الدولية”، والنظرة الثانية يعتقد غليون أنها تبريرية وقائمة على التغطية على الأبعاد الحقيقية لهذه الأزمة، فيشوبها التزوير والقفز على الحقائق و”الاستمرار في التأكيد على صلاحية النظم الفكرية والاجتماعية القائمة، وتبرير التعامل معها والعمل من خلالها، وتصبح المشكلة في نظر أصحاب هذه النظرة مراجعة التكتيكات للحفاظ على المواقف ذاتها، ومضمون هذه النظرة هو بالنتيجة الحفاظ على الوضع القائم واستغلاله لتأمين المصالح الخاصة والذاتية”.

كتب ياسين الحافظ المفكر السوري الراحل أن المجتمعات العربية مجتمعات “مفوّتة” تشبه اللبن المخفوق بعد انتزاع الزبد منه، وأنها لا يمكنها أن تنتج شيئاً ما لم تتخلص من “فواتها” وتعيد إنتاج نخبها التي تقودها نحو حلول فكرية وسياسية كبرى، وفي دولة لطالما اعتبرها العرب عدوّاً للإنسانية روى لي صديق مثقف من أهل الجولان من الذين فقدوا أراضيهم وأملاكهم الشاسعة بعد عام 1967، كيف أن الاسرائيليين أصروا على أن يكون شارع “تلبيوت” في القدس، حيث الطريق الموصل إلى بيت الكاتب “شموئيل يوسف عجنون” الحاصل على جائزة نوبل للآداب، مطلياً بالألوان التي يحبها ومزيناً بالزهور التي تعجبه، وبلافتات كتب عليها “صمتا.. عجنون يكتب”.

كاتب سوري

‫شاهد أيضًا‬

الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي

على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…