الفساد السياسى
- بقلم : الشيخ محمد الغزالي
- موقع الامام الغزالي
وقد عاصرت حكامًا تدعو عليهم الشعوب، ولا تراهم إلا حجارة على صدرها توشك أن تهشمه..
انتفع بهم الاستعمال الشرقي والغربي على سواء في منع الجماهير من الأخذ بالإسلام والاحتكام إلى شرائعه..بل انتفع بهم في إفساد البيئة حتى لا تنبت فيها كرامة فردية ولا حرية اجتماعية..أيا كان لونها.
ومع هذا البلاء، فقد رأيت منتسبين إلى الدعوة الإسلامية يصورون الحكم الإسلامي المنشود تصويرًا يثير الاشمئزاز كله..قالوا: إن للحاكم أن يأخذ برأي الكثرة أو رأي القلة، أو يجنح إلى رأي عنده وحده..!
أهذه هي الشورى التي قررها الإسلام؟ فما الاستبداد إذن؟!
ووضع بعضهم دستورًا إسلاميا أعطى فيه رأس الدولة سلطات خرافية لا يعرفها شرق ولا غرب..وعندما تدبرت هذا الكلام وجدت أن معايب ثلاثًا تلتقي فيه:
الأول: سوء فهم لمعنى الشورى، وغباء مطلق في إنشاء أجهزتها المشرفة على شئون الحكم.
الثاني: عمى عن الأحداث التي أصابت المسلمين في أثناء القرون الطوال والتي نشأت عن استبداد الفرد، وغياب مجالس الشورى.
الثالث: جهل بالأصول الإنسانية التي نهضت عليها الحضارة الحديثة والرقابة الصارمة التي وضعت على تصرفات الحاكمين.
فإذا استقبل المسلمون القرن الخامس عشر، وفهم عدد منهم لوظيفة الحكم لا يتجاوز هذا النطاق العقيم..فكيف تسير الأمة، وأين تتجه؟؟!
إن الفقه الدستوري في أمتنا يجب أن تنحسر عنه ظلال الحجاج، وعبيد الله بن زياد، وبعض ملوك بني العباس، وبعض سلاطين آل عثمان..
ويجب أن يمنع عن الخوض فيه شيوخ يقولون: إن الرسول(صلى الله عليه و سلم) افتات على الصحابة في عمرة الحديبية..فمن حق غيره أن يفتات على الناس ويتجاوز آراءهم.
إن ذلك الضلال في تصوير الإسلام يفقد الإسلام حق الحياة.. – والمعروف أن الرسول(صلى الله عليه و سلم) احترم الشورى، ونزل على حكمها فيما لا وحي فيه، وأن قصة الحديبية تصرف فيها الرسول(صلى الله عليه و سلم) على النحو المروي لما حبس ناقته حابس الفيل، وأحس أن الله تعالى يلزمه بمسلك يجنب الحرم ويلات حرب سيئة.
فكيف يجئ من يعطي الرؤساء حق الحرب والسلام..بعيدًا عن الشورى..لأن الرسول(صلى الله عليه و سلم) فعل ذلك يومًا ما في مكة، التي يعلل القرآن منع الحرب فيها بقوله:
(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيدِيَهُم عَنكُم وَأَيدِيَكُم عَنهُم بِبَطنِ مَكَّةَ مِن بَعدِ أَن أَظفَرَكُم عَلَيِهِم وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرًا(24) هُمُ الذَِّينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُم عَن} المَسجِدِ الحَراَمِ وَالهَدىَ مَعكُوفًا أَن يَبلُغَ مَحِلَّهُ وَلَولاَ رِجالٌ مُّؤمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤمِنَاتٌ لَّم تَعلَموُهُم أَن تَطَئُوهُم فَتُصِيبَكُم مِّنهُم مَّعرَّة بِغَيرِ عِلمٍ لِيُدخِلَ اللهُ فيِ رَحمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَو تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبنَا الذَِّينَ كَفَرُواْ مِنهُم عَذَابًا أَلِيمًا) (الفتح:24-25)
وظاهر أن الرسول(صلى الله عليه و سلم) اتجه مع توجيه السماء له.
وظاهر كذلك أن الشورى تكون حيث لا نص فيه يوجه، وأن الأمة هي مصدر السلطة حيث لا نص بداهة.
ويؤسفني أن الكلام عن تكوين الدولة عندنا تعرّض له أقوام على خط كبير من الطفولة العقلية، أو على حظ منا لزلفى يكسبون به الدنيا ويفقدون به الإيمان.
وإصلاح أداة الحكم وأصله الأول يحتاج إلى فقهاء أتقياء أذكياء..
3 – التخلف الإقتصادى – والأوضاع الاقتصادية في عالمنا الإسلامي تحتاج من أعصار طويلة إلى النظر الفاحص والقلب النقاد.
وكثيرًا ما تساءلت: إلى متى يظل التنفير من الحرام شغل واعظ ناصح، أو وصية مربٍّ مخلص بصورة تدعو إلى اليأس أو الزهد في الدنيا..لتظل هذه الدنيا فقط في أيدي أعداء المسلمين؟؟
ما أقل جدوى ذلك الكلام في مواجهة الغرائز المريضة والأماني السيئة!!.
لو أننا جئنا إلى كل ميل مربع من الأرض الممهدة للزراعة أو المعدّة للبناء، وتساءلنا: أمن الحلال تم تملُّكُهُ أم من الحرام؟ لكان الجواب مفزعًا.
إن تاريخ التملك أو واقعه المعاصر يشهد بأن كفة الشر أرجح، وأن المسلمين من أفقر أهل الأرض إلى قوانين صارمة تحرس قيمهم الدينية ونصوصهم السماوية.
وما يقال في ملكية الأرض، يطَّرد في سائر الأموال..!!
ثم لماذا تبقى محاربة البطالة، والبأساء والضراء خاضعة لتطّوع أفراد بأداء الزكاة وبذل المعونة؟ لقد كان من أول أعمال الدولة الإسلامية –بعد حراسة الإيمان- أخذ الزكاة..وهذا ما عزم عليه الصدِّيقُ، وتابعه فيه بقية الصحابة.
ومعنى الأخذ من الأغنياء أن الدولة هي التي تتولى الإنفاق في المصارف المقررة..وأنها مسئولة عن رعيتها أمام الله. وأمام جماعة المسلمين..
وسؤال آخر له خطره، وتجاربنا نحن المسلمين مع الزمن توحي بتوجيهه إلى كل ذي لب..
هل راقبنا سير المال في المجتمع وطرق تداوله بين شتى الطبقات، ومساوئ تكدسه في ناحية وإقفار ناحية أخرى منه، أو نواح كثيرة؟
وهل أدركنا آثار الترف المادي في انتهاء الوجود الإسلامي بالأندلس –مثلا- وعلمنا على منع تكرار المأساة..
إن المال قوام الحياة وسياج المروءة، وعندما يكون دولة بين جماعة من الناس..فإن نتائج ذلك مدمرة..إذ الجوع كافر..وحقد المحرومين قاتل.
وهل انتشرت الشيوعية إلا مع هذه الخلخلة التي أحدثها العصيان لأوامر الله، واعتداء حدوده؟! فحتى متى يسترسل المسلمون مع أخطاء قديمة؟!
لقد رأيت في أوروا وأمريكا دولا شتى تشرع قوانين دقيقة لضبط سياسة المال والحكم..وذلك لأنها تعرضت لنزوات الجور والأثرة والطغيان، وكما قال الشاعر:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفـة فلعله لا يظلم! – فإذا وجدنا مجتمعات بشرية حصنت نفسها من هذه المآسي..فلماذا لا نقتدي بها..أو نقتبس منها.
قال لي البعض: هذا ما نخافه منك..إن تستورد الإصلاح من منابع بعيدة عن ديننا وتراثنا..ونحن أغنياء عن مقترحاتك تلك..!
قلت: تمنيت لو كانت غيرتك هذه في موضعها! إنني معتز بديني ولله الحمد..ولكن ليس من الاعتزاز بالدين أن أرفض الجهاد بالصواريخ والأقمار الصناعية لأنها بدعة..!
إن التفتح العقلي ضرورة ملحة لكل من يتحدث في الفقه الإسلامي.
إننا في صمت نقلنا تسجيل كل مولود في دفاتر خاصة واستعنا بذلك على تحصينه من الأمراض، وإلحاقه بمراحل التعليم، واقتياده للجيش كي يتم تدريبه وإعداده للقتال. وذلك إجراء نقلناه عن دول أخرى دون حرج..فماذا يمنع الفقيه المسلم من قبول كل وسيلة أصيلة أو مستوردة لتحقيق الغايات التي قررها دينه؟
إن النقل والاقتباس في شئون الدنيا..وفي المصالح المرسلة وفي الوسائل الحسنة ليس مباحًا فقط..بل قد يرتفع الآن إلى مستوى الواجب.
ثم إن الدين في باب المعاملات مصلح لا منشئ كما يقول ابن القيم، إنه لم يخترع البيع أو الزواج..وإنما جاء إلى هذه العقود فضبطها بتعاليمه!.
فالبيع –مثلا- بإيجاب وقبول ولا يجوز فيه الغش، أو الربا، أو الاحتكار..إلخ.
والزواج –مثلا- بإيجاب ولا يجوز فيه الاتصال بالمحارم، ولا الافتيات على الولى..ولا ترك الإشهار..إلخ.
وفي شتى المعاملات إذا تحققت المصلحة فثم شرع الله! فما الذي يمنعنا؟ نحن –الذين جمدنا فقهنا وأغلقنا باب الاجتهاد ألف عام- أن ننظر في الوسائل التي اتخذها غيرها لمنع الفساد السياسي أو منع الاعوجاج الاقتصادي، ونقتبس منها ما لا يصادم نصا، ولا يند عن قاعدة؟
الحق أن التوقف في هذا المجال ليس إلا امتدادًا للكسل العقلي الذي سيطر على مسيرة الإسلام التاريخية أمدًا ليس بالقصير..!!