لا استقرار بدون حرية
محمد بوبكري
الخميس 28 نونبر 2013
ليس هناك فرد أو جماعة أو مجتمع لا يرغب في الاستقرار، لكننا غالبا ما لا نفهم معنى هذا المفهوم ولا شروط تحقُّقِه.
للاستقرار دور أساسي في حياة المجتمعات، إذ بدونه لن تعرف هذه الأخيرة حياة هادئة وآمنة. وإذا ألقينا نظرة على تاريخ البشرية وجدنا أن الإنسان قد كافح طوال تاريخه من أجل تحقيق الاستقرار والحرية والعدالة… كما أن الاستقرار كان – وما يزال – غاية الحكام في كل الأزمنة وفي سائر المجتمعات، وهو المعيار الذي يعتمده المجتمع في الحكم على أهلية الحكام وأحقِّيتهم بالسلطة. وقد ظل الاستبداد عبر التاريخ وسيلة للاستقرار، حيث كان الأمن والطمأنينة لا يستتبّان إلا عبر القمع والضغط… لكن التاريخ عرف أيضا تجارب مريرة كانت تؤول الأمور فيها إلى إجراء مفاوضات، بين الحاكمين والمحكومين، كانت تنتهي بخضوع هؤلاء لحكامهم وقبولهم باستبدادهم كلما حقق لهم ذلك حدا أدنى من العيش بأمان، حيث كان عليهم أن يختاروا بين أمرين أحلاهما مرّ؛ إما الانخراط في اقتتال أبدي بين القوى المتنافسة داخل المجتمع، ما يؤدي إلى تفشّي الفوضى وانعدام الاستقرار الذي يفضي بدوره إلى غياب الحياة الآمنة، وإما الاستسلام لنظام مستبد يقضي على الفوضى ويحقق أمن المجتمع نسبيا. في هذا الصدد يقول المثل الشعبي المغربي: «حاكْمْ ظالمْ وْلاَ رعية سَايْبَة».
لقد بقيت المجتمعات تقبل بالاستبداد طالما ظلَّ يحفظ حدا أدنى من الحياة الآمنة، وساد هذا الوضعُ مختلف الثقافات والحضارات الصينية والهندية والإسلامية…، كما عرفت الثقافة الغربية الأمر نفسه مع “مكيافيلي” Machiavel في كتابه “الأمير” “Le Prince” ومع مفكرين آخرين. وبذلك، ظل الاستقرار والاستبداد مرتبطين، على مدار مختلف الحقب التاريخية، ولم ينفصلا إلا في عصر الأنوار الذي ظهرت فيه نظريات جديدة ترفع من شأن الإرادة الشعبية وترفض فكرة الاستبداد الذي يفرضه الحاكم بذريعة الاستقرار. وهكذا، قَوَّضت فكرة “العقد الاجتماعي” مع “جان جاك روسو” وآخرين الأسس التي ينهض عليها احتكار الحكم من قِبَلِ الحاكمين، فأحدثت ثورة كبيرة في تاريخ الإنسانية على مستويات عديدة، كان من بينها فصل الاستقرار عن الاستبداد عبر الكشف عن تهافت فكرة الارتباط العضوي بينهما. لقد كان الحكام والكنيسة ينظران إلى الأفراد في القرون الوسطى بكونهم “رعية”، لكن بمجيء عصر الأنوار تمَّ الإعلاء من شأن أفكار الإرادة العامة وقيمة الفرد والشعب…، ما شكَّل ثورة فعلية عميقة في تاريخ البشرية شملت أوجها عديدة كان من بينها الانتقال التاريخي التدريجي للأفراد من مجرَّد “رعايا” إلى مواطنين كاملي الأهلية والحقوق…، فأصبح مفهوم المواطن يشكل مركز النظام السياسي. كما صار “الحاكم” لا يملك سوى تفويض محدود زمنيا على أساس “عقد اجتماعي”، فاقتصرت وظيفته على خدمة المواطن، وتم حظر سيطرته على الرعايا (سابقا) أو ممارسة الاستبداد عليهم. وبطبيعة الحال، لم يحدث هذا التحوّل دفعة واحدة، ولا في فترة زمنية قصيرة، بل استغرق عقودا عدة تحولت فيها بلدان أوروبا إلى ساحة لحروب دموية دينية وإقطاعية متواصلة…، حيث قاوم الاستبداد – ولا يزال يقاوم – بشراسة، مدَّعيا أنه الوحيد القادر على ضمان الاستقرار… لكن ما لا يتم الانتباه إليه غالبا هو أن الاستبداد كان هو الخاسر تدريجيا على مرِّ التاريخ، حيث صارت الحرية تعمُّ الفضاءات أكثر فأكثر، فدعمت التجربة التاريخية انتقال الفكر الإنساني إلى تحقيق الاستقرار مع الحرية.
من المحتمل أن يستقر الاستبداد، لكن استقراره يكون دواما مؤقتا، كما أن نهايته تكون مأساوية. ويعود ذلك إلى أن أسلوب اشتغال الاستبداد يروم الثبات ويرفض التحوّل، مما ينم عن عدم اعترافه بالواقع وبمشكلاته المتمثلة في انتشار الفساد وسوء استغلال السلطة… التي يتظاهر بحلّها، دون النفاذ إلى عمقها، فتبقى قابعة كالجمر تحت الرماد إلى أن تنفجر في وجه المستبدّين. وعلى عكس الأسلوب الذي يرمي إلى الاستقرار عبر الاستبداد، يواجه الأسلوب الهادف إلى الاستقرار عبر الحرية المشكلات نفسها ويعمل على حلِّها بوضوح، حيث عندما يقوم الشعبُ على فكرة “المواطنة”، فإنه يكون قادرا على فضح الفساد ومواجهته، كما أن اعتماد “مبدأ فصل السلطات” يحول دون طغيان الحاكمين وذوي الثروة والمال واعتدائهم على حقوق الشعب.
يرى المُسوِّغون لفكرة ضرورة الاستبداد من أجل الاستقرار أنه توجد في كل مجتمع جماعات عرقية متصارعة، وطوائف دينية متعادية… مستعدة للهجوم على بعضها البعض إذا لم يكن هناك حكم مستبد يردعها. لذلك فهم يعتقدون أنه بالرغم من أن الاستبداد يلغي حرية الأفراد، فإنه يضبط الجماعات المتصارعة ويحميها من بطش بعضها بالبعض الآخر، وذلك عبر قمع الحروب الأهلية المُحتَمَل وقوعها، الأمر الذي يمكِّن الجميع من العيش في استقرار يسوده التوجس والتربص دواما…
قد تظهر هذه الفكرة وتطبيقاتها التاريخية واقعية، لكنها ليست صالحة لمجتمعاتنا المعاصرة، لأن تحقيق الاستقرار في عالمنا المتّسم بالتعقيد والتداخل هو استقرار وهمي وعابر، إذ ما يحدث في الحقيقة هو مُوَارَاة الصراعات وأسبابها مؤقتا وتأجيل انفجارها. وبما أن الاستبداد لا يستأصل الصراعات من جذورها، فإنه يحافظ عليها، بل إنه يلجأ أحيانا إلى تأجيجها لتبرير شرعية وجوده. وقد يتحالف أحيانا أخرى مع طائفة أو جماعة معينة للاستئثار بالسلطة، فيجعل منها عماد حكمه، ويمنحها العطايا والامتيازات، ويعادي الجماعات الأخرى… وهذا ما يؤكد أن العلاقات السائدة في مجتمع الاستبداد هي علاقات باطنها العداء والتربُّص الدائمين المقموعين من قِبَل الاستبداد، وهي علاقات هشة قابلة للانفجار في أي وقت.
وفي المقابل عندما يكون الاستقرار مبنيا على الحرية، فقد تتصارع القوى المتنافسة في البداية بعنف، لكن حدَّة هذا الصراع قد تضعف تدريجيا، حيث تستنتج هذه القوى أنه لا حلَّ لها سوى بالتحاور في ما بينها وتبادُل تقديم التنازلات لتتعايش بشكل طوعي وعن قناعة. وبذلك، تقوم كل جماعة بتغيير نظرتها إلى ذاتها وإلى الآخرين، فتقبل كل واحدة بوجود الأخرى المختلفة عنها، ويبقى التنافس والصراع بينها قائما على أساس سلمي، حيث يتم التعبير عنه بوسائل ديمقراطية. تبعا لذلك، يصبح الصراع والتنافس الديمقراطيان شرعيين، وتختفي فكرة انسجام المجتمع التي يُرَوِّجها المستبدون بهدف منح الشرعية لأبويَّتهم السياسية وترسيخها في النظام السياسي والمجتمع في آن. ويؤدي الاعتراف بشرعية الاختلاف والتنافس إلى الاقتناع بالحل الديمقراطي لأنه يشكل أفضل وسيلة لحل المشكلات بين مختلف الجماعات. هكذا يحدث الاستقرار مع الحرية وليس على حسابها، ما يصون كرامة الفرد المواطن، ويضمن حريته، ويُحرِّرُ طاقاته الإبداعية والفكرية وخياله، فيبدع ويبتكر، وينمو ويتقدم…، وذلك على عكس الاستقرار القائم على الاستبداد الذي لا يسمح بأيّ من ذلك، بل إنه يقتل إنسانية الإنسان…
ومن الأكيد أن ما ينطبق على المجتمعات يسري على الأحزاب، إذ نلاحظ أن سلوكات أغلب الزعامات الحزبية عندنا تتعارض ومفهوم “الحزب” بمعناه الحداثي لأنها تريد الاستئثار بكل شيء ولا تقبل الاختلاف ولا المساءلة… وهذا ما جعل مثقفينا يرون أن المؤسسات الحزبية في بلادنا لا تتميز في العمق في أي شيء عن القبيلة أو الطائفة. أضف إلى ذلك أن السياسة عند أغلب هذه الزعامات هي فن المناورة، والحالُ أنَّ السياسة، بمفهومها النبيل، هي فن الشفافية والمصارحة وقبول الاختلاف، والتعبير عن ذلك عمليا بأسلوب ديمقراطي نزيه وشفاف. وحينما ترفض الزعامات الآخر المختلف عنها في الرأي داخل الحزب، وتمارس التعتيم على مؤسساته وأعضائه، سيفوز خصوم الحزب وسيصبح هذا الأخير أكثر ضعفا، ما سيؤدي إلى خسارته قمة وقاعدة. وفي هذه الحالة، إذا أصرَّت الزعامات على التمسك بنهجها ولم تراجع ذاتها فيعني ذلك أنها مُصمِّمة على تقويض الحزب. ويعود ذلك إلى أن هذه الزعامات لا تستمد قوَّتها من فكرها وإنجازها أو قواعدها التنظيمية، وإنما من قوى من خارج أحزابها تريد أن تقرر في كل شيء عبر الحضور في كل مفاصل المجتمع وشرايينه. وهكذا ينكشف أن ممارسة الزعامات الحزبية للسلطوية على أجهزة الحزب وأعضائه هي مجرد امتداد للسلطوية التي تُمارس على المجتمع من قِبل القوى المهيمنة عليه، ما جعل هذه الزعامات مجرد أدوات لضبط الحزب… وهذا ما يستوجب تصحيح مجموعة من المفاهيم، حيث لم يعد ممكنا ولا مقبولا أن يوجد حزب بدون حرية واعتراف بشرعية الاختلاف، ولا دولة بدون أحزاب ديمقراطية، ولا وطن بدون حداثة وديمقراطية…
وخلاصة القول إن الاستبداد عدوُّ نفسه، لأنه يحمل في ذاته كل عوامل الاضطراب والفتن والشروط المُحدِثة للتفكك السياسي والاجتماعي. وبما أنه يقوم على هياكل تقليدية، فإنها لن تستطيع الصمود في وجه رياح الثورة المعلوماتية والعولمة وما ينجم عنهما من تحولات. وهذا ما يقتضي الاقتناع بالانخراط في روح العصر من أجل البناء الديمقراطي للدولة والمجتمع الذي هو سبيل الاستقرار.