موقعيَّة الأساطير وتأثيرها في المعتقدات الدينية
ملاك عبدالله – مؤسسة الفكر الإسلامي المعاصر
يطلعنا التَّاريخ القديم والمعاصر على نماذج لشخصيَّاتٍ كاريزمَّية معيّنة كان لها الدّور الأبرز في إدارة العقل الجمعي الشَّعبي، وفي تحريك العاطفة والرّوح الجامعة نحو الهدف أو المبدأ “السّامي” الّذي تحمله تلك الشّخصية للنّاس، الّذين يرون فيها ضرورةً لتلبية حاجات نشر القيم نظراً لما تملكه من ملامح بطوليّة لا بدّ للزّمن أن يخلّدها. ولطالما اعتبر البعض أنَّ في الأبطال ما يميّزهم عن سائر المخلوقات في ما يكتنزون من قوى لا يمتلكها الإنسان العاديّ، وبالتّالي فإنَّ الله –بحسب المتديّنين- أو أنَّ الزّمن أو الظّروف –بحسب غير المتديّنين- قد اختصّهم بها دون سواهم، حتى يجسّدوا القيم وينشروها ويقودوا المجتمع من خلالها.
وإن كانت بعض المجتمعات قد أعلت من شأن شخصيّاتٍ معيّنة لتضفي عليها السّمة البطوليّة، فإنَّ مجتمعاتٍ أخرى سابقة قد مجّدت نماذج وهميّة حملت برأيهم كمال الفضائل بما لا يستطيع المخلوق العاديّ التّوصّل إليها.
وبقدر ما كانت صناعة تلك النّماذج “ضرورة نفسيّة” على حدّ تعبير الدّكتور علي شريعتي، فإنَّ غالبيّة قصص الأساطير عبر التّاريخ نشأت من الحاجة الإجتماعيّة للحصول على معطيات مادّيّة مفقودة، كمثل فقدان النّار، حيث تمَّ ردّ أصل وجودها عند بعض المجتمعات إلى إله النّار”بروميثيوس”، وهنا تبدأ الحكاية الميثولوجيّة الّتي تقول بأنَّ بروميثيوس إلهٌ كان يعيش مع زملائه الآلهة، إلا أنّه قام برحلة تضحية إلى الأرض بعد أن خطف النّار ليوهبها للّذين يعيشون في الظّلام ، أو لمن يعذّبه البرد القارس.
وعلى غرار بروميثيوس كانت أساطير فينوس ودزيوس وهرقل…
وكما ارتبطت ولادة الأساطير بحاجات إجتماعيّة، فإنّها كانت مادّة آمن بها الفكر الإنساني في محطّاتٍ تاريخيّة عديدة، وذلك في إطار تفسيره لبعض الظّواهر الكونيّة ولأسباب نشأة الخلق ووجود الإنسان. ففي بعض المجتمعات كان الإعتقاد مثلاً بأنَّ الأرض يتعاقب على حملها ثوران، حين يتعب أحدهما يحملها الآخر.
وهكذا تنوّعت المعتقدات الفكريَّة والفلسفية والدّينيّة مع تنوّع الأساطير واختلافها. والعكس جائزٌ أيضاً، بحيث أنَّ اختلاف الديانات وتعدّدها أدّت إلى تنوّع إنتاج الأساطير التي بات من المقبول إطلاق صفة الدينيّة عليها..
“الأسطورة الدّينيّة” … مصطلحٌ رافق إذاً مختلف الدِّيانات، ورافق مختلف الشُّعوب “المؤمنة” بتلك المعتقدات والدّيانات، حتّى كاد البعض يرى بأنّها من الأسس الّتي بنيت عليها الأديان، وأنّها مكوّنٌ أساسيٌّ لها. وللتّأكيد، تُضرب أمثال القصص الواردة في الكتب السماويّة، ويصار إلى التّعبير عنها في معظم الأحيان بمصطلح الأسطورة: فها هم اليهود يؤمنون مثلاً بأسطورة “الماسادا” وهي قلعة يهودية هاجمها الرّومان، ما اضطرّهم إلى إحراقها وقتل أنفسهم حتّى لا يصبحون أسارى قي يد العدوّ، وهذه الأسطورة إنّما تخلّد قيمة قتل النّفس من أجل حفظ الكرامة حسبما يرون. وذلك سفر التكوين في الإنجيل يروي لنا قصّة شمشون الّذي يقتل كلّ الكفرة بضربةٍ واحدة. أمّا في القرآن الكريم، فقصص الأنبياء عديدة، من تكليم النبي سليمان للحيوانات، ومن حادثة الإسراء والمعراج.. وغير ذلك من القصص التي تروي العديد من المعجزات. وما يراه المسلم معجزة، يرى فيه غير المسلم أسطورة دينية، فيما يراها آخرون خرافة من وجهة نظرهم.
في ظلّ هذا التّماهي الشّائك بين كلّ تلك المفردات، تطرح أسئلة بديهيّة عديدة من قبيل ما هو تعريف الاسطورة؟ وهل فعلاً أنّها تشكّل مكوّناً أساسيّاً من مكوّنات الدين؟ ما هي إيجابيّات أسطرة الدّين وما سلبياتها، وكيف بالإمكان الحدّ من تلك السّلبيّات إن وجدت؟
أسئلةٌ اختلفت الإجابة عنها باختلاف المفكّرين والباحثين، فكانت وجهات النّظر متقاربةً حيناً ومتباعدةً أحياناً.
تعريف الأسطورة:بحسب الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، فإنَّ كلمة أسطورة هي جمعٌ من الأفكار والمعتقدات والأحكام النّظريّة، وهي نسيجٌ مضطرب من الخيوط الّتي تقع خارج التّاريخ، وذلك لا يعني خروج الأسطورة من الواقع التّجريبي، ولكن بمعنى أنّها تتناقض معه، فتبدو وكأنّها تنشئ عالماً فانتازيّاً خارج دائرة التّموضع المكاني والزّماني الحادث.
وبحسب فراس سواح الذي درس الأسطورة بعمق، فهي حكاية أدبيّة يلعب الآلهة الأدوار الرّئيسيّة فيها، وما يميّزها عن الخرافة هو أنّها حكاية مقدّسة. ولذلك فإنَّ الإنسان –على حدّ اعتباره- أمكنه من خلال كلّ من الأسطورة والحكمة والدّين أن يواجه العالم بكلّيته، لا من خلال عقله فقط، على اعتبار بأنّض الإنسان حاضر بكلّيته في الأسطورة والحكمة والدّين.
أسطرة الدّين: مواقف إيجابيّة وأخرى سلبيّة
الدكتور خنجر حميةهذا الموقف الإيجابيّ الّذي اتخذه فراس سواح من الأسطورة تلاقى مع كلام الدكتور خنجر حميّة ، الذي رأى فيها إحياءً للعقل المتجاوز، ومساهمةً في تماسك العقل الجمعي. وعلى هذا الأساس “لا بدّ من أسطرة الدّين”. وحتّى يبرّر الدّكتور موقفه هذا، فإنّه يذهب ليعّرف الأسطورة بأنها حدث تاريخيّ يتمّ رفعه وتضخيمه إلى حدود القداسة، ويتمّ الإعلاء من شأنه إلى حدود متجاوزة وعابرة من أجل تأبيده، وهو بذلك يختلف عن المعجزة التي تعبّر عن “حدث ماورائي لا تاريخي”، وعن الخرافة التي تمثّل “شيئاً يتمّ ابتكاره دون أن يكون له أساسٌ تاريخي”. وإذ يبالغ الشيخ الدكتور في اتخاذ موقفه الدّاعم للأسطورة فيعتبرها “الحلم والأمل والإحساس بالذّات والهويّة والمعنى لحياة البشر، لأنَّ المغزى لا يجده البشر إلّا في المعاني الشّاملة في مقاصد حياتهم الكلّيّة”، لإنّه يردّ إليها وظيفة ربط الوجود الإنساني بأهداف مقاصديّة قيميّة. وبما أنَّ “العقل البشريّ لديه القابليّة على تضخيم الحدث، فإنّ الأسطرة تمثّل بذلك الإبداع في التّضخيم”. وإنها ضرورة من ضرورات الدّين. وهو يستدلّ على تلك الأهميّة من خلال اعتباره أنَّ جزءاً من تصويره الله سبحانه وتعالى للآخرة في القرآن الكريم هو نوع من الأسطرة التي تهدف إلى منح معنى للحياة الآخرة في نفوس المؤمنين..
بهذا المعنى يكون الدّكتور قد تبنّى مقولة أنَّ الاسطورة هي جزء أساسيّ من مكوّنات العقيدة الدينية، دون أن ينفي “إمكانيّة التّنقيب عنها طالما أنّها حدث تاريخي، وخصوصاً في ظلّ جو سائد يضفي صفة القداسة على كلّ شيء”.
الأب الدكتور مشير عونهذا التَّبني تقاطع مع ما قاله الدّكتور مشير عون الّذي رأى أنَّ الأسطورة ” تدخل في صلب بناء المنظومة الدينية المبنيَّة على تصوّرات معيّنة”، إلّا أنَّ معضلة تفسير مصطلح الأسطورة بدت جليّة حين برز الإختلاف بينه وبين الدّكتور حميّة في التعريف. فالدكتور عون يعرفها بأنها كل ما يخالف العقل، وبأنها شحنة وجوديّة روحيّة تحاول تبرير غاية الوجود دون أن يكون لها أساس علميّ مثبت. وإذ لا ينكر حضرته الدّور الإيجابيّ الّذي تلعبه الأسطورة في تزخيم الحياة بمعنى روحيّ وتعزيز الإنسانية، فإنّه ينتقد كونها تساهم في منع التّفكير العقلاني الحرّ من الإنتشار.
الدكتور محمّد محفوظيختلف موقف الدّكتور محمّد محفوظ عن الموقفين السّابقين، فهو يرى بأننا ” لو اعتبرنا أنَّ الدين يمثّل منظومة قيميّة متكاملة، فإنَّ الأسطورة بذلك لا تمثّل جزءاً من تلك المنظومة”. لكنّه يعود ليوضح: “لا بدّ من التمييز بين الدّين المعياري والدّين كما هو معيوش بين النّاس، ففيما يتعلّق بالإسلام مثلاً، لدينا الإسلام المعياري والإسلام التّاريخي الّذي تطوّرت الأسطورة فيها وضُخّمت واستخدمت لإثبات المقدّس أو الذّات الميتافيزيقيّة”، وهو يردّ هذا التّطوّر إلى البعد الإجتماعي، بحيث أنَّ “المجتمعات المظلومة من النّاحية السوسيولوجيّة توسّع بطبيعتها من دائرة المقدّس كوسيلة من وسائل سدّ النّقص المجتمعي، لأن العقل الإجتماعي هو عقل احتياطيّ يلجأ إلى خطوط دفاع من خلال توسيع دائرة المقدّس حتى لا يسقط المقدّس الأصلي”. ويعقّب في هذا الإطار ليقول :” ولهذا السّبب فإننا نجد بأن المقدّس اليوم هو أضعاف مضاعفة عمّا كان عليه من قبل”. من هذا المنطلق فإن الأستاذ محفوط اتّخذ موقفاً سلبياً من الاسطورة، لأنها برأيه خلافاً للنواميس الطبيعية، ومساهمةً في إلغاء الفكر السّنني كما وإلغاء الإمكان الإنساني من الإقتداء بأبطال القصص البطوليّة.
الدكتور حبيب فيّاض: يشاطر الدّكتور حبيب فياض الدكتور محفوظ الرّأي القائل بأن لا وجود للأسطورة داخل الدّين، إلّا أنّها تتمظهر في هذا الأخير من خلال المعجزة والكرامة. وللتوضيح، يعتبر الدّكتور حبيب أنَّ الأسطورة بحسب تعريفها هي عبارة عن “خيال يصبّ في إطار سياقٍ تاريخي يقوم على عناصر روائية ليست واقعيّة، بل هي خياليّة يُراد من خلالها إيصال رسالة محدودة غالباً ما تنطوي على حكمة معيّنة”، ولهذا فإنه يشير إلى أنَّ الّذين يعتبرون أنَّ الأسطورة هي جزء من مكوّنات الفكر الدّيني، أو أنّها ضروريّة لخدمة ووظيفة الدّين ينطلقون من معطيات وضعيّة خارج دينيّة، لأنَّ ما يقال له أسطورة خارج الإطار الدّيني هو عبارة عن معجزة أو كرامة أو مقدّس داخل ذاك الإطار. والأسطورة إذ تمثّل خيالاً ليس بالإمكان تبريره عقليّاً، فإن الدين بإمكانه تبرير المعجزة وإدخال اللاعقلاني في إطار عقلي غير مباشر عن طريق تبريره من خلال العَرَض لا من خلال الذّات.
وفي حين يعتبر الدّكتور بأن المعجزة في الإطار الدّيني هي عبارة عن تدخّل إلهي محدود يناسب حركة الدّعوة، فإنه يدعو إلى تقديم الدين من خلال العقل لا من خلال الأسطورة، “لأننا كلّما قدّمنا القدوة في إطار الصّفات الإنسانيّة وابتعدنا عن الإطار الإعجازي، كلّما كنا أقرب إلى الفضيلة، بينما قد نساهم في ضرب الرّسالة في حالة الأسطرة.
عاشوراء: حدث بطوليّ أم أسطورة تاريخيّة:تتجدّد في كلّ سنة من شهر محرّم شعائر ذكرى عاشوراء المتعلّقة بمناسبة استشهاد الإمام الحسين. والحسين حفيد رسول الله من ابنته فاطمة الزهراء،وهو ثالث الأئمة المعصومين بحسب المذهب الشيعي الإثني عشري.
وفي كنه تلك الحادثة، فإنها ثورة قام بها لتحقيق الإصلاح وإقامة العدالة والأمر بالمعروف من القيم والفضائل، في وقت كان الحاكم “يزيد” رجل ظالم قاتل الأنفس المحترمة: “إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر”.. وبالتالي يمكن القول بأنها ثورة العدالة في وجه الظّلم، وهي بهذا المعنى ثورةٌ إنسانيةٌ بعبرها وقيمها، بالإمكان أن تستفيد منها كلّ الأجيال المسلمة وغير المسلمة، المتدينة وغير المتدينة، كونها ثورة قيم والقيم سابقة على الأديان، أي أنّها تملك من العناصر والحيثيّات والسيرة ما يكفي لكي تكون ملهمة الشّعوب على مرّ الأزمان. وليس غريباً في هذا الإطار أن نسمع غاندي يقول : “تعلّمت من الحسين أن أكون مظلوماً فأنتصر”، أو أن ينظم بولس سلامة الشعر ليقول : “أنا المسيحي أبكاني الحسيين وقد شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي”.
وإنما يحيي أتباع الحسين هذه الذّكرى حتى تبقى نابضةً بعبرها وقيمها ودروسها في عقول المؤمنين بها وفي وجدانهم، حتى يكونوا الأقدر على رفض الظّلم في مواقعه، وعلى الأمر بالمعروف عندما يُعمل بالمنكر، وعلى التضحية بالنفس حينما يستلزم الموقف.
ولكن المعضلة ليست هنا.. سؤالٌ ملحٌّ يُطرح في هذا المجال: هل تحتاج تلك الحادثة البطوليّة إلى “أسطرة” حتى تستمر وتخلد وتنتشر بشكل أسرع إلى المجتمعات وعبر الأزمان؟ وهل تخدم الأسطورة الفكر العاشورائي ؟
لو انطلقنا من التعريف القائل بأن الأسطورة ليست خرافة، وبأنها حدثٌ تاريخيّ يُصار إلى تضخيمه لتأبيده، فعلينا أن نناقش في معنى كلمة “تضخيم” التي قد توحي بإعطاء صورة غير دقيقة أو صحيحة عن الحدث، وبالتالي قد ندخل في إشكاليّة عدم صحّة الكلام أو الكذب في الكلام.. وإذا أخذنا بعين الإعتبار التعريف القائل بأنها شحنة روحيّة وجوديّة تخالف العقل، أو بأنها خيال يصبّ في إطار سياق تاريخيّ يقوم على عناصر روائيّة، فإن ثورة الحسين في هذا الإطار هي ثورةٌ عقلانيّة بامتياز، واقعيّة بوضوح، نموذجيّةٌ بلا جدال.
إنَّ المعنى الشعبي المتداول لكلمة الأسطورة يأخذ طابع القصّة الخياليّة البطولية، وانطلاقاً من هذا المعنى أمكننا القول أنّ حادثة عاشوراء حادثة بطوليّة واقعيّة بعيدة كلّ البعد عن نماذج الأساطير التي رُويت وتُروى، لكن الواقع لا يعكس هذه المقولة:
“إنّ الأغلبية العظمى من الأفكار والوقائع الدينيّة بات يغلب عليها الطابع الأسطوري، وهذا ما يؤدي إلى تزايد رقعة المقدّسات والخرافات” حسبما قال الشيخ حيدر حب الله…
القضيّة هي أنَّ الكثير من قرّاء العزاء يتبارون في التفتيش في كتابٍ هنا أو روايةٍ هناك عن حادثةٍ أسطوريّةٍ غريبة يجري حشرها في الواقعة، كأن يتكلّم رأس الحسين أو فرسه، وكأن تمطر السّماء دماً… كما يجري التنافس في من يُبكي الناس أكثر لتُحجَّم قضية الحسين في دمعة لا في رسالة، وبالتَّالي فكل خرافة تؤدي إلى تزخيم الدموع هي حسنة مهداة!!!
والخطورة في الأمر تكمن في أن الوعي الشعبيّ أو حتى العلمائيّ – إن أردنا اعتبار قراء العزاء علماء- لا يتقبّل النّقد العلمي لتلك الأساطير/الخرافات، لأنَّ في ذلك هتك للعقيدة برأيهم، والمعنى أنّ الأسطورة/الخرافة باتت في صلب العقائد، او أنّ العقائد وُلدت من رحم الأساطير، وهذا ما لا يمتّ إلى الرسالات الدينيّة والسماوية بصلة.
من وجهة نظرٍ خاصّة، بات من الضّروري نقد الوعي القائم للمعتقد الدّيني وخلق عقليّة علمية من أجل التّعامل مع القضايا الدّينيّة بشكل علميّ واقعيّ، لأنَّ في ذلك سبيل إلى توسيع دائرة القضايا الدينية إلى المستوى الإنساني الشّامل، ومما لا شكّ فيه أننا بتتنا بحاجة إلى تغليب الفكر الديني على الطّابع الأسطوري السّائد، لأنَّ الأسطورة تساهم في زيادة رقعة الخرافات والمقدّسات، وفي تقزيم القضيّة وربطها في جماعة من البشر دون سواهم، في حين أن الفكر العلميّ الرّساليّ الديني يمتدّ إلى كافّة مساحة العالم ليصل إلى كلّ المجتمعات والشّعوب ليصلحها، وتلك هي غاية الأديان والقضايا والقصص الدّينيّة.
وبقدر ما كانت صناعة تلك النّماذج “ضرورة نفسيّة” على حدّ تعبير الدّكتور علي شريعتي، فإنَّ غالبيّة قصص الأساطير عبر التّاريخ نشأت من الحاجة الإجتماعيّة للحصول على معطيات مادّيّة مفقودة، كمثل فقدان النّار، حيث تمَّ ردّ أصل وجودها عند بعض المجتمعات إلى إله النّار”بروميثيوس”، وهنا تبدأ الحكاية الميثولوجيّة الّتي تقول بأنَّ بروميثيوس إلهٌ كان يعيش مع زملائه الآلهة، إلا أنّه قام برحلة تضحية إلى الأرض بعد أن خطف النّار ليوهبها للّذين يعيشون في الظّلام ، أو لمن يعذّبه البرد القارس.
وعلى غرار بروميثيوس كانت أساطير فينوس ودزيوس وهرقل…
وكما ارتبطت ولادة الأساطير بحاجات إجتماعيّة، فإنّها كانت مادّة آمن بها الفكر الإنساني في محطّاتٍ تاريخيّة عديدة، وذلك في إطار تفسيره لبعض الظّواهر الكونيّة ولأسباب نشأة الخلق ووجود الإنسان. ففي بعض المجتمعات كان الإعتقاد مثلاً بأنَّ الأرض يتعاقب على حملها ثوران، حين يتعب أحدهما يحملها الآخر.
وهكذا تنوّعت المعتقدات الفكريَّة والفلسفية والدّينيّة مع تنوّع الأساطير واختلافها. والعكس جائزٌ أيضاً، بحيث أنَّ اختلاف الديانات وتعدّدها أدّت إلى تنوّع إنتاج الأساطير التي بات من المقبول إطلاق صفة الدينيّة عليها..
“الأسطورة الدّينيّة” … مصطلحٌ رافق إذاً مختلف الدِّيانات، ورافق مختلف الشُّعوب “المؤمنة” بتلك المعتقدات والدّيانات، حتّى كاد البعض يرى بأنّها من الأسس الّتي بنيت عليها الأديان، وأنّها مكوّنٌ أساسيٌّ لها. وللتّأكيد، تُضرب أمثال القصص الواردة في الكتب السماويّة، ويصار إلى التّعبير عنها في معظم الأحيان بمصطلح الأسطورة: فها هم اليهود يؤمنون مثلاً بأسطورة “الماسادا” وهي قلعة يهودية هاجمها الرّومان، ما اضطرّهم إلى إحراقها وقتل أنفسهم حتّى لا يصبحون أسارى قي يد العدوّ، وهذه الأسطورة إنّما تخلّد قيمة قتل النّفس من أجل حفظ الكرامة حسبما يرون. وذلك سفر التكوين في الإنجيل يروي لنا قصّة شمشون الّذي يقتل كلّ الكفرة بضربةٍ واحدة. أمّا في القرآن الكريم، فقصص الأنبياء عديدة، من تكليم النبي سليمان للحيوانات، ومن حادثة الإسراء والمعراج.. وغير ذلك من القصص التي تروي العديد من المعجزات. وما يراه المسلم معجزة، يرى فيه غير المسلم أسطورة دينية، فيما يراها آخرون خرافة من وجهة نظرهم.
في ظلّ هذا التّماهي الشّائك بين كلّ تلك المفردات، تطرح أسئلة بديهيّة عديدة من قبيل ما هو تعريف الاسطورة؟ وهل فعلاً أنّها تشكّل مكوّناً أساسيّاً من مكوّنات الدين؟ ما هي إيجابيّات أسطرة الدّين وما سلبياتها، وكيف بالإمكان الحدّ من تلك السّلبيّات إن وجدت؟
أسئلةٌ اختلفت الإجابة عنها باختلاف المفكّرين والباحثين، فكانت وجهات النّظر متقاربةً حيناً ومتباعدةً أحياناً.
تعريف الأسطورة:بحسب الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، فإنَّ كلمة أسطورة هي جمعٌ من الأفكار والمعتقدات والأحكام النّظريّة، وهي نسيجٌ مضطرب من الخيوط الّتي تقع خارج التّاريخ، وذلك لا يعني خروج الأسطورة من الواقع التّجريبي، ولكن بمعنى أنّها تتناقض معه، فتبدو وكأنّها تنشئ عالماً فانتازيّاً خارج دائرة التّموضع المكاني والزّماني الحادث.
وبحسب فراس سواح الذي درس الأسطورة بعمق، فهي حكاية أدبيّة يلعب الآلهة الأدوار الرّئيسيّة فيها، وما يميّزها عن الخرافة هو أنّها حكاية مقدّسة. ولذلك فإنَّ الإنسان –على حدّ اعتباره- أمكنه من خلال كلّ من الأسطورة والحكمة والدّين أن يواجه العالم بكلّيته، لا من خلال عقله فقط، على اعتبار بأنّض الإنسان حاضر بكلّيته في الأسطورة والحكمة والدّين.
أسطرة الدّين: مواقف إيجابيّة وأخرى سلبيّة
الدكتور خنجر حميةهذا الموقف الإيجابيّ الّذي اتخذه فراس سواح من الأسطورة تلاقى مع كلام الدكتور خنجر حميّة ، الذي رأى فيها إحياءً للعقل المتجاوز، ومساهمةً في تماسك العقل الجمعي. وعلى هذا الأساس “لا بدّ من أسطرة الدّين”. وحتّى يبرّر الدّكتور موقفه هذا، فإنّه يذهب ليعّرف الأسطورة بأنها حدث تاريخيّ يتمّ رفعه وتضخيمه إلى حدود القداسة، ويتمّ الإعلاء من شأنه إلى حدود متجاوزة وعابرة من أجل تأبيده، وهو بذلك يختلف عن المعجزة التي تعبّر عن “حدث ماورائي لا تاريخي”، وعن الخرافة التي تمثّل “شيئاً يتمّ ابتكاره دون أن يكون له أساسٌ تاريخي”. وإذ يبالغ الشيخ الدكتور في اتخاذ موقفه الدّاعم للأسطورة فيعتبرها “الحلم والأمل والإحساس بالذّات والهويّة والمعنى لحياة البشر، لأنَّ المغزى لا يجده البشر إلّا في المعاني الشّاملة في مقاصد حياتهم الكلّيّة”، لإنّه يردّ إليها وظيفة ربط الوجود الإنساني بأهداف مقاصديّة قيميّة. وبما أنَّ “العقل البشريّ لديه القابليّة على تضخيم الحدث، فإنّ الأسطرة تمثّل بذلك الإبداع في التّضخيم”. وإنها ضرورة من ضرورات الدّين. وهو يستدلّ على تلك الأهميّة من خلال اعتباره أنَّ جزءاً من تصويره الله سبحانه وتعالى للآخرة في القرآن الكريم هو نوع من الأسطرة التي تهدف إلى منح معنى للحياة الآخرة في نفوس المؤمنين..
بهذا المعنى يكون الدّكتور قد تبنّى مقولة أنَّ الاسطورة هي جزء أساسيّ من مكوّنات العقيدة الدينية، دون أن ينفي “إمكانيّة التّنقيب عنها طالما أنّها حدث تاريخي، وخصوصاً في ظلّ جو سائد يضفي صفة القداسة على كلّ شيء”.
الأب الدكتور مشير عونهذا التَّبني تقاطع مع ما قاله الدّكتور مشير عون الّذي رأى أنَّ الأسطورة ” تدخل في صلب بناء المنظومة الدينية المبنيَّة على تصوّرات معيّنة”، إلّا أنَّ معضلة تفسير مصطلح الأسطورة بدت جليّة حين برز الإختلاف بينه وبين الدّكتور حميّة في التعريف. فالدكتور عون يعرفها بأنها كل ما يخالف العقل، وبأنها شحنة وجوديّة روحيّة تحاول تبرير غاية الوجود دون أن يكون لها أساس علميّ مثبت. وإذ لا ينكر حضرته الدّور الإيجابيّ الّذي تلعبه الأسطورة في تزخيم الحياة بمعنى روحيّ وتعزيز الإنسانية، فإنّه ينتقد كونها تساهم في منع التّفكير العقلاني الحرّ من الإنتشار.
الدكتور محمّد محفوظيختلف موقف الدّكتور محمّد محفوظ عن الموقفين السّابقين، فهو يرى بأننا ” لو اعتبرنا أنَّ الدين يمثّل منظومة قيميّة متكاملة، فإنَّ الأسطورة بذلك لا تمثّل جزءاً من تلك المنظومة”. لكنّه يعود ليوضح: “لا بدّ من التمييز بين الدّين المعياري والدّين كما هو معيوش بين النّاس، ففيما يتعلّق بالإسلام مثلاً، لدينا الإسلام المعياري والإسلام التّاريخي الّذي تطوّرت الأسطورة فيها وضُخّمت واستخدمت لإثبات المقدّس أو الذّات الميتافيزيقيّة”، وهو يردّ هذا التّطوّر إلى البعد الإجتماعي، بحيث أنَّ “المجتمعات المظلومة من النّاحية السوسيولوجيّة توسّع بطبيعتها من دائرة المقدّس كوسيلة من وسائل سدّ النّقص المجتمعي، لأن العقل الإجتماعي هو عقل احتياطيّ يلجأ إلى خطوط دفاع من خلال توسيع دائرة المقدّس حتى لا يسقط المقدّس الأصلي”. ويعقّب في هذا الإطار ليقول :” ولهذا السّبب فإننا نجد بأن المقدّس اليوم هو أضعاف مضاعفة عمّا كان عليه من قبل”. من هذا المنطلق فإن الأستاذ محفوط اتّخذ موقفاً سلبياً من الاسطورة، لأنها برأيه خلافاً للنواميس الطبيعية، ومساهمةً في إلغاء الفكر السّنني كما وإلغاء الإمكان الإنساني من الإقتداء بأبطال القصص البطوليّة.
الدكتور حبيب فيّاض: يشاطر الدّكتور حبيب فياض الدكتور محفوظ الرّأي القائل بأن لا وجود للأسطورة داخل الدّين، إلّا أنّها تتمظهر في هذا الأخير من خلال المعجزة والكرامة. وللتوضيح، يعتبر الدّكتور حبيب أنَّ الأسطورة بحسب تعريفها هي عبارة عن “خيال يصبّ في إطار سياقٍ تاريخي يقوم على عناصر روائية ليست واقعيّة، بل هي خياليّة يُراد من خلالها إيصال رسالة محدودة غالباً ما تنطوي على حكمة معيّنة”، ولهذا فإنه يشير إلى أنَّ الّذين يعتبرون أنَّ الأسطورة هي جزء من مكوّنات الفكر الدّيني، أو أنّها ضروريّة لخدمة ووظيفة الدّين ينطلقون من معطيات وضعيّة خارج دينيّة، لأنَّ ما يقال له أسطورة خارج الإطار الدّيني هو عبارة عن معجزة أو كرامة أو مقدّس داخل ذاك الإطار. والأسطورة إذ تمثّل خيالاً ليس بالإمكان تبريره عقليّاً، فإن الدين بإمكانه تبرير المعجزة وإدخال اللاعقلاني في إطار عقلي غير مباشر عن طريق تبريره من خلال العَرَض لا من خلال الذّات.
وفي حين يعتبر الدّكتور بأن المعجزة في الإطار الدّيني هي عبارة عن تدخّل إلهي محدود يناسب حركة الدّعوة، فإنه يدعو إلى تقديم الدين من خلال العقل لا من خلال الأسطورة، “لأننا كلّما قدّمنا القدوة في إطار الصّفات الإنسانيّة وابتعدنا عن الإطار الإعجازي، كلّما كنا أقرب إلى الفضيلة، بينما قد نساهم في ضرب الرّسالة في حالة الأسطرة.
عاشوراء: حدث بطوليّ أم أسطورة تاريخيّة:تتجدّد في كلّ سنة من شهر محرّم شعائر ذكرى عاشوراء المتعلّقة بمناسبة استشهاد الإمام الحسين. والحسين حفيد رسول الله من ابنته فاطمة الزهراء،وهو ثالث الأئمة المعصومين بحسب المذهب الشيعي الإثني عشري.
وفي كنه تلك الحادثة، فإنها ثورة قام بها لتحقيق الإصلاح وإقامة العدالة والأمر بالمعروف من القيم والفضائل، في وقت كان الحاكم “يزيد” رجل ظالم قاتل الأنفس المحترمة: “إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر”.. وبالتالي يمكن القول بأنها ثورة العدالة في وجه الظّلم، وهي بهذا المعنى ثورةٌ إنسانيةٌ بعبرها وقيمها، بالإمكان أن تستفيد منها كلّ الأجيال المسلمة وغير المسلمة، المتدينة وغير المتدينة، كونها ثورة قيم والقيم سابقة على الأديان، أي أنّها تملك من العناصر والحيثيّات والسيرة ما يكفي لكي تكون ملهمة الشّعوب على مرّ الأزمان. وليس غريباً في هذا الإطار أن نسمع غاندي يقول : “تعلّمت من الحسين أن أكون مظلوماً فأنتصر”، أو أن ينظم بولس سلامة الشعر ليقول : “أنا المسيحي أبكاني الحسيين وقد شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي”.
وإنما يحيي أتباع الحسين هذه الذّكرى حتى تبقى نابضةً بعبرها وقيمها ودروسها في عقول المؤمنين بها وفي وجدانهم، حتى يكونوا الأقدر على رفض الظّلم في مواقعه، وعلى الأمر بالمعروف عندما يُعمل بالمنكر، وعلى التضحية بالنفس حينما يستلزم الموقف.
ولكن المعضلة ليست هنا.. سؤالٌ ملحٌّ يُطرح في هذا المجال: هل تحتاج تلك الحادثة البطوليّة إلى “أسطرة” حتى تستمر وتخلد وتنتشر بشكل أسرع إلى المجتمعات وعبر الأزمان؟ وهل تخدم الأسطورة الفكر العاشورائي ؟
لو انطلقنا من التعريف القائل بأن الأسطورة ليست خرافة، وبأنها حدثٌ تاريخيّ يُصار إلى تضخيمه لتأبيده، فعلينا أن نناقش في معنى كلمة “تضخيم” التي قد توحي بإعطاء صورة غير دقيقة أو صحيحة عن الحدث، وبالتالي قد ندخل في إشكاليّة عدم صحّة الكلام أو الكذب في الكلام.. وإذا أخذنا بعين الإعتبار التعريف القائل بأنها شحنة روحيّة وجوديّة تخالف العقل، أو بأنها خيال يصبّ في إطار سياق تاريخيّ يقوم على عناصر روائيّة، فإن ثورة الحسين في هذا الإطار هي ثورةٌ عقلانيّة بامتياز، واقعيّة بوضوح، نموذجيّةٌ بلا جدال.
إنَّ المعنى الشعبي المتداول لكلمة الأسطورة يأخذ طابع القصّة الخياليّة البطولية، وانطلاقاً من هذا المعنى أمكننا القول أنّ حادثة عاشوراء حادثة بطوليّة واقعيّة بعيدة كلّ البعد عن نماذج الأساطير التي رُويت وتُروى، لكن الواقع لا يعكس هذه المقولة:
“إنّ الأغلبية العظمى من الأفكار والوقائع الدينيّة بات يغلب عليها الطابع الأسطوري، وهذا ما يؤدي إلى تزايد رقعة المقدّسات والخرافات” حسبما قال الشيخ حيدر حب الله…
القضيّة هي أنَّ الكثير من قرّاء العزاء يتبارون في التفتيش في كتابٍ هنا أو روايةٍ هناك عن حادثةٍ أسطوريّةٍ غريبة يجري حشرها في الواقعة، كأن يتكلّم رأس الحسين أو فرسه، وكأن تمطر السّماء دماً… كما يجري التنافس في من يُبكي الناس أكثر لتُحجَّم قضية الحسين في دمعة لا في رسالة، وبالتَّالي فكل خرافة تؤدي إلى تزخيم الدموع هي حسنة مهداة!!!
والخطورة في الأمر تكمن في أن الوعي الشعبيّ أو حتى العلمائيّ – إن أردنا اعتبار قراء العزاء علماء- لا يتقبّل النّقد العلمي لتلك الأساطير/الخرافات، لأنَّ في ذلك هتك للعقيدة برأيهم، والمعنى أنّ الأسطورة/الخرافة باتت في صلب العقائد، او أنّ العقائد وُلدت من رحم الأساطير، وهذا ما لا يمتّ إلى الرسالات الدينيّة والسماوية بصلة.
من وجهة نظرٍ خاصّة، بات من الضّروري نقد الوعي القائم للمعتقد الدّيني وخلق عقليّة علمية من أجل التّعامل مع القضايا الدّينيّة بشكل علميّ واقعيّ، لأنَّ في ذلك سبيل إلى توسيع دائرة القضايا الدينية إلى المستوى الإنساني الشّامل، ومما لا شكّ فيه أننا بتتنا بحاجة إلى تغليب الفكر الديني على الطّابع الأسطوري السّائد، لأنَّ الأسطورة تساهم في زيادة رقعة الخرافات والمقدّسات، وفي تقزيم القضيّة وربطها في جماعة من البشر دون سواهم، في حين أن الفكر العلميّ الرّساليّ الديني يمتدّ إلى كافّة مساحة العالم ليصل إلى كلّ المجتمعات والشّعوب ليصلحها، وتلك هي غاية الأديان والقضايا والقصص الدّينيّة.
……………………………………….
عن موقع افاق .. الخميس 28 نونبر 2013