في وصف حالتنا

  د. عبدالاله بلقزيز

كم سيكون حُكم التاريخ قاسياً على عرب هذا الزمان حين يُكتب تاريخ هذه الحقبة العجفاء غداً، حين يقال إنهم لم يعجزوا فقط عن إحراز أسباب النهضة والتقدم، أسوة بغيرهم من أمم الكرة الأرضية، ولا عن بناء وحدتهم القومية ورتق فتوق التجزئة في جسمهم الكياني،

 

وإنما هم عجزوا أيضاً، وأساساً، عن افتكاك فلسطين من الأسر الصهيوني الذي امتد في الزمان لثلثي قرن. إنهم لا يشبهون أجدادهم – الأقربين قبل الأبعدين- الذين صنعت نخبهم فصولاً من النهضة الفكرية والأدبية، في القرن التاسع عشر، وفصولاً من الكفاح الوطني والقومي ضد الاستعمار الأجنبي الغربي – وقبله ضد الاحتلال العثماني- قاد إلى نيل الاستقلال الوطني وبناء الدولة، كأنهم لم يولدوا من أصلاب السابقين، كأنهم لا يحملون ذاكرة تاريخية مكتنزة بالقيم الحضارية، كأنهم استمرأوا الكسل والاتكالية والسلبية، وارتضوا الخنوع والاستسلام وتجردوا من الهمم والنخوة.

 

 

 

 

 

فشل عرب هذا الزمان في امتحان تاريخي: أن يكونوا على مستوى اسمهم، أن يحفظوا ميراث أجدادهم من التبديد والتبدد، وما أبعدهم عن أن يستأنفوا حركتهم الحضارية. ليس هذا جلداً للذات، أن يستأنفوا في باب الاعتراف الموضوعي يقع، وفي قلب الواقعية المتجردة من الأهواء والمكابرة يتحرك، وإلى أخلاق النقد الذاتي ينتمي، ومن يجحد هذا، أو يجادل، فهو إنما مكابر يرضيه أن يخفي رأسه في الرمل ظناً أنه يخفي الحقيقة، والحري به أن يدعو أهله – عرب هذا الزمان- إلى محاسبة النفس على ما أتت من أخطاء، وما سلكت من مسالك مسدودة، قبل أن يحاسبها التاريخ: ذو الحساب العسير.

 

 

 

لسنا نستثني أحداً، أو جهةً، في هذا الحكم على عرب اليوم، ولسنا نرْكب السهل فنلقي التبعة على الدول والحكومات في ما وصلت إليه أحوالنا من المصاب الجلل، إذ الجميع مسؤول – وإن بتفاوت في درجات المسؤولية- عن مآلاتنا المريضة: الدول والحكومات، والأحزاب السياسية، والنخب الثقافية، ورجال المال والأعمال، والمؤسسات الاجتماعية، والشعب.. فهؤلاء جميعاً مسؤولون – وإن اختلفت المقادير- عن أحوالنا التي نعانيها اليوم: من ذلة أمام الاحتلال الصهيوني والهيمنة الكولونيالية المتجددة، ومن تبعية صارخة تشدّ اقتصاداتنا إلى بلدان الميتروبول الرأسمالي، ومن تفاوت طبقي صارخ بين أهل الغنى الفاحش – وهم قلة- وبين أهل الفقر والحرمان المدقع – وهم الكثرة الكاثرة- ومن انهيار مخيف للأمن القومي المستباح، ومن فقدان متزايد للأمن الغذائي والأمن المائي، ومن ميز فاضح بين الجنسين في الحقوق، ومن حروب أهلية طائفية ومذهبية، ومن عنف اجتماعي وسياسي يمزق النسيج الوطني والروابط المجتمعية، ومن نزعات تكفير تدق الأسافين بين شركاء الوطن والدين.. الخ.

 

 

 

الجميع مسؤول عما وصلنا إليه مما يطول ذكره وعرضه، أي مما جعل البلاد العربية تتذيّل في قوائم الأمم المتحدة في مجالات التنمية والبحث العلمي والحريات وتوزيع الثروة.. الخ. والجميع مسؤول – بالتالي- عن تصحيح هذه الوضعية الشاذة، وإيقاف نزيفها قبل السقوط النهائي المدوّي: كل من موقعه وبحسب إمكاناته وما لديه من تكليف سياسي أو اجتماعي. وليس يمكن ذلك إلا بإعادة النظر في مجمل المرحلة السابقة، ومواطن الخطأ والخلل فيها، سواء في سياسات الدول في التنمية وتوزيع الثروة، وتوفير الأمن والغذاء، ومواجهة الخطر الصهيوني، ومقاومة مفاعيل التجزئة، وتحقيق الحريات، ومحاربة الفساد، ومساءلة مرتكبيه، ومواجهة العنف الداخلي والانقسامات الأهلية.. الخ. أو في سياسات الأحزاب واستراتيجيات المشاركة في السلطة، وركوبها العصبيات، أو التكفير، أو الرأي المطلق، أو المنزع الاحتكاري الشمولي، أو توسل الشعبوية السهلة.. الخ، أو في سياسات المعارضات واستسهال بعضها محالفة الأجنبي لإسقاط أنظمتها، أو في خطابات المثقفين وأولوياتها ويقينياتها المطلقة، أو في مشروعات المال والأعمال وطغيان الثقافة الطفيلية غير المنتجة فيها، والمشدودة فقط إلى هدف تحقيق الربح السريع، وفي غير تلك من سياسات ومسلكيات الجهات الكثيرة المسؤولة عن نكبتنا.

 

 

 

إذا كان في الدول خَلَل، ففي المجتمعات خَلَل من دون شك، فليس في الصورة ملائكة مقابل شياطين كما يحلو لعقل كسول مغلَق أن يصور الأمور. ينبغي لنقد الدولة أن يقترن بنقد المجتمع حتى يكون نقداً هادفاً ومنتجاً. هذه هي القاعدة الذهبية في أي محاسبة ذاتية تقوم بها أمةٌ لتبني عليها مشروعاً للنهضة.

…..

عن صحيفة التجديد العربي

الثلاثاء, 26 نوفمبر 2013

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…