بين الكنيسة والإمبراطور: التأصيل الديني لمفهوم العلمانية في الغرب
يتحدث الباحثون الأوروبيون عن ظهور فكرة “العقد الاجتماعي”، بصورة أو بأخرى، في العصور القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد، عند الفيلسوف الصيني “موتزو” وعند “السوفسطائيين” اليونانيين، ثم عند “الأبيقوريين” في القرن الثالث قبل الميلاد، ثم عند الرومان وعند “شيشيرون” خاصة، في القرن الأول ق.م. ويشيرون إلى أنه كان لها صدى في القانون الروماني يعود إلى التقليد الروماني القديم الخاص بـ “الوفاق الشعبي”، بينما يبحث بعضهم عن أصول لها في النصوص المقدسة فيجدون في “العهد القديم” عددا من الأمثلة على “العقد الاجتماعي”، على رأسها “ميثاق بني إسرائيل”، بينهم وبين يهوه (الله)، والعقد الذي أبرموه مع الملك سليمان.
ويتتبع المؤرخون فكرة العقد الاجتماعي في القرون الوسطى المسيحية، ويجد بعضهم نموذجا عمليا لـ”عقد الاجتماع” في “ميثاق الاتحاد (Pactum Unions) الذي اتفق عليه الآباء المهاجرون الذي رحلوا عن إنجلترا لينشئوا أول مستعمرة في “نيوإنجلند” بالولايات المتحدة الأميركية عام 1620، حيث أعلنوا أنهم يتعهدون على أن يتجمعوا ويعيشوا معا في مجتمع مدني واحد. أما “عقد الحكومة” أو عقد الرعية مع الحاكم (Pactum Subjectionis) فقد وجد المؤرخون له أمثلة في العقود التي أبرمت، ابتداء من القرن الخامس، وفي عدد من المملكات الجرمانية، بين الملوك ورعاياهم. أما النموذج والمثال لهذا النوع من العقد فيجده هؤلاء المؤرخون في “الميثاق الأعظم” Magna Carta الذي وقعه الملك جون عام 1215 ورضخ فيه لثورة النبلاء وقبل شروطهم.
ومع ذلك، فنحن نرى أن هذه الأمثلة والنماذج كانت تقع خارج ما نعتبره هنا “ما قبل تاريخ” فكرة العقد الاجتماعي، فليست هناك أية علاقة بين هذه الأمثلة التاريخية، الفكرية والعملية، وبين فكرة العقد الاجتماعي كما ظهرت في القرن السابع عشر. ذلك أن فكرة التعاقد بين الحاكم والمحكومين (عقد الحكومة) لم تصبح ذات شأن في التاريخ الأوروبي إلا حين اشتد الصراع بين الإمبراطورية وبين الكنيسة البابوية ولجأت هذه الأخيرة إلى تبرير تدخلها بإقحام فكرة “العقد”. لقد ادعت الكنيسة لنفسها الحق في عزل الملوك الطغاة مستندة في ذلك إلى أن البابا يملك السلطة الروحية، الشيء الذي يعني أنه المسؤول عن السعادة الروحية للشعب، وبالتالي فمن حقه أن يحرر هذا الشعب الذي يعاني ماديا وروحيا من استبداد الملوك المستبدين، وذلك بجعله في حل من الالتزام الذي يوجبه ذلك “العقد” إزاء صاحب السلطة الزمنية: الملك.
كان ذلك على عهد البابا “غريغوار” السابع (1073-1085) الذي خاض صراعا مريرا مع الإمبراطور “هنري” الرابع فانتصر عليه وسن عدة قوانين كهنوتية في إطار ما عرف بـ “الإصلاح الغريغوري”. لقد بنى هذا البابا إصلاحه في هذا المجال على فكرة أن سلطة الملوك مستمدة من الشعب بينما سلطة البابا مستمدة من الله. وهذا ينتج عنه أن سلطة البابا أسمى وأشرف من سلطة الملك، وأن سلطة هذا الأخير تفقد شرعيتها إذا مارس الطغيان والاستبداد على الشعب الذي إنما يحكمه بموجب عقد قوامه الحكم بالعدل والعمل لصالح السعادة المادية للرعية، جنبا إلى جنب مع البابا المكلف بتوفير السعادة الروحية لنفس الرعية. فالحاكم الزمني ليس حاكما مطلقا بل له شريك أسمى منه هو البابا.
والحال فقد أخذت الفكرة تشق طريقها لتنخرط في هذا الإطار الأخير وتصبح فاعلة فيه. وهكذا ركز بعض المنظرين للمذهب “الغريغوري” على كون الشعب هو الذي ينصب الملوك حكاما عليه وأنه إنما يفعل ذلك بهدف حماية نفسه من طغيان الطغاة، الشيء الذي يعني أن الملك إنما يحكم بموجب “عقد مشروط” بينه وبين الرعية. ومن هنا خطا بعض أنصار المذهب “الغريغوري” خطوة أخرى فقالوا: إن خرق الملك للعقد الذي بينه وبين الرعية يجعل هذه الأخيرة في حل من الالتزام بطاعته، وإن تدخل البابا إنما هو عبارة عن إضفاء الصبغة العملية على ما استوجبه طغيان الأمير. وهكذا فبعد أن كانت فكرة “العقد” تُبَرِّرُ تدخل البابا لتحرير الشعب أصبحت تبرر ثورة الشعب، أما دور البابا فقد تقلص ليصبح محصورا في مجرد إضفاء الشرعية على أمر واقع هو ثورة الشعب.
ويأتي القديس “توما الأكويني” ( 1225-1275)، وهو من أكبر فلاسفة اللاهوت المسيحي إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق، ليناقش المسألة في إطار اهتماماته الفكرية الخاصة التي كانت مركزة حول التوفيق بين الفلسفة واللاهوت. كان “الأكويني” من شراح “أرسطو” وقد تأثر إلى حد كبير بآراء ابن رشد في مسألة ترتيب العلاقة بين الدين والفلسفة فضلا عن أخذه برأيه في مسألة العقل والنفس، كما هو معروف عند المختصين. وما يهمنا إبرازه هنا هو أن “الأكويني” تبنى وجهة النظر “الأرسطية” في أصل الاجتماع ومنشأ الدولة فقرر أن الاجتماع الإنساني أمر طبيعي كاجتماع النمل والنحل، مع هذا الفارق وهو أن الاجتماع الحيواني يخضع للغريزة، أما الاجتماع الإنساني فيقوم على الإرادة ويدبره العقل، وبالتالي فهو اجتماع تعاقد لا اجتماع فطرة وغريزة.
ويميز “توما الأكويني” بين الإنسان كحيوان اجتماعي والإنسان كحيوان مؤمن. فمن ناحية: “الإنسان حيوان اجتماعي” بوصفه كائنا يخضع لقوانين الطبيعة التي تفرض عليه التعاون مع بني جنسه ليستقيم أمره، ومن ناحية أخرى هناك “الإنسان- المؤمن”، وهو يتميز بانتمائه إلى نوع من الاجتماع خاص هو الكيان الروحي الذي تشكله الكنيسة.
هنا سيوظف “الأكويني” التمييز بين السبب الأول والأسباب الثواني -وهو تمييز يرجع إلى أرسطو وقد انتشر في الفكر الفلسفي في الإسلام- سيوظفه في مجال السياسة والحكم. لقد اعتبر أرسطو السبب الأول (المحرك الأول، الله) مبدأ لكل شيء، ولكنه جعله لا يتدخل كل مرة وفي جميع الجزئيات، بل هناك الطبيعة وقوانينها التي تشكل الأسباب الثواني، وهي المسؤولة عما يجري في الكون من حوادث جزئية. كان الفارابي وابن سينا قد اتجها بالفكرة اتجاها آخر فاعتبرا العقول السماوية (الملائكة) فائضة عن العقل الأول (الله) وجعلوها هي الأسباب الثواني. أما ابن رشد فقد احتفظ بفكرة أرسطو كما هي: المحرك الأول هو السبب الأول وهو الله، ثم المحركات الأخرى (الأجرام السماوية) التي رتب الله حركتها وتأثيرها لتشكل ما نسميه القوانين الطبيعية، وهي الأسباب الثواني. وفي هذا الاتجاه سار “توما الأكويني” فشيد رؤية جديدة لثنائية الزمني والروحي، إذ ربط الزمني بالأسباب الثانوية والروحي بالسبب الأول.
في إطار هذه الرؤية الجديدة لثنائية الزمني والروحي يقرر “توما الأكويني” أن سلطة الحاكم، وبالتالي الدولة، ليست نتيجة تدخل مباشر من السبب الأول (الله) بل هي ترجع إلى “الأسباب الثواني”، أي إلى القوانين الطبيعية التي بفعلها تم الاجتماع ونصبت الدولة، ولا يكون حكم الحاكم مشروعا إلا إذا كان متوافقا مع القوانين الطبيعية أي مع العقل، لأن العقل ليس شيئا آخر غير إدراك الأسباب كما يقول “أرسطو” وكرر ذلك ابن رشد مرارا وتكرارا. فبدون الاهتداء بالعقل والعمل بموجب قوانينه، التي هي من قوانين الطبيعة التي خطتها الإرادة الإلهية، تكون سلطة الأمير ظلما فاحشا. ذلك أن غاية الاجتماع ليست في حصول الإنسان على المتعة والشهوة بل الغاية منه حصول الفرد البشري على كماله الإنساني. ومهمة الدولة تكمن في مساعدته على ذلك خصوصا فيما لا تطاله قواه الخاصة من الأمور التي تنتمي إلى عالم المادة، بما في ذلك الحياة الاجتماعية ومقتضياتها. أما الناحية الروحية، الدينية الخلقية، فتتكفل بها الكنيسة.
يمكن اعتبار هذا الفصل الذي أقامه القديس “توما الأكويني” بين الدولة والكنيسة بذرة البذور لما سيعرف في العصر الحديث بـ”العلمانية”، كما يذهب إلى ذلك بعض المحللين. لن نخوض في هذا الموضوع الآن. المهم بالنسبة لموضوعنا هو أن نسجل أن الترويج لمثل هذه الأفكار في القرن الثالث عشر الميلادي من طرف الكنيسة كان من الناحية التاريخية، أعني من ناحية النتيجة، بمثابة إشعال النار في حقل الحكم الإمبراطوري الإقطاعي.
# نشر هذا المقال في جريدة الإتحاد الإماراتية
الحوار المتمدن-العدد: 1598 – 2006 / 7 / 1
نقل عنه يومه الخميس 28 نونبر 2013