المذاهب الأربعة: الاختلاف النوعي الرحب.. في ظل الإجماع على الأصول

بقلم زين العابدين الركابي

 

ترددت كثيرا في الأيام القريبة الماضية كلمات (التجديد) و(التغيير) وأمثالهما، وذلك من خلال التعليق على القرارات التي أصدرها الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، وشملت غير منصب وغير موقع، ولا سيما موقع هيئة كبار العلماء السعوديين التي أعيد تكوينها. وفي هذا السياق نفسه تكرر – أيضا – الحديث عن المذاهب الأربعة الفقهية المشهورة.

وفي حقيقة الأمر إن هذا المقال مؤجل من الأسبوع الماضي، بمعنى أنه جرى تأجيله لكي يتفرغ المكان والزمان لمقال الأسبوع الماضي الذي تعاضدت الأحداث على تقديمه، وإيلائه الأولوية.

وسينتظم هذا المقال قضيتين اثنتين هما: قضية المذاهب الأربعة الفقهية المشهورة، وقضية (التجديد).

أولا: المذاهب الأربعة. وتتطلب هذه القضية: التعريف الموضوعي الموجز – بقدر الإمكان – بأصول المذاهب الأربعة، أي الأصول التي (تجمع) عليها هذه المذاهب، ثم الفروع أو المسائل الجزئية التي تنوعت فيها آراء أئمة المذاهب تنوعا امتاز بالرحابة والسماحة والخصوبة وعظمة وشجاعة الاستقلال بالرأي.

إن أئمة المذاهب الأربعة قد انعقد (إجماعهم) على الأصول الكبرى لديانة الإسلام، وهذه الأصول هي:

1- وجود الله ووحدانيته: ذاتا وأسماء وصفات.

2- عصمة القرآن من التحريف.

3- ختم النبوات والرسالات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

4- أركان الإيمان، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.

5- أركان الإسلام، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا.

هذه هي العقيدة الجامعة التي أجمع عليها الأئمة الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل. ومن يقرأ هذه المسائل العقدية الكبرى التي حررها هؤلاء الأئمة أو كبار تلامذتهم.. من يقرأ ذلك يتبدى له أن (لجنة مشتركة من هذه المذاهب قد تولت صياغة هذه العقيدة الجامعة)- وهذا لم يحدث وإنما هو التطابق العلمي- فالمصدر هو ذات المصدر.. والمنهج هو ذات المنهج.. واليقين هو ذات اليقين بالثوابت القطعية.. بل إنك لتجد تطابقا في (العبارة) واللفظ.. فعقيدة أبي حنيفة هي التي حررها إمام حنفي معروف هو أبو جعفر الطحاوي، الذي قال في مقدمته: هذه عقيدة مشايخي أبي حنيفة وأبي يوسف والشيباني.. والعقيدة ذاتها حررها القيرواني المالكي في (الرسالة)، وهي التي حررها الشافعي ثم تلامذته، وهي نفسها التي كتبها الإمام أحمد بن حنبل ونقلها اللالكائي – مثلا – في (أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، وهو من علماء القرنين الرابع والخامس الهجري.

ظاهرة الإجماع على الأصول العقدية القطعية هذه اقترنت بظاهرة أخرى، وهي أن الأئمة الأربعة لم (يجمعوا) على شيء من الجزئيات تقريبا، بل اختلفوا في معظم الفروع اختلافا واسعا جدا. ومن هنا أُلفت كتب ذات عناوين مثل (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة) على سبيل المثال، وهو كتاب لعالم شافعي هو أبو عبد الله بن عبد الرحمن الشافعي، من علماء القرن الثامن الهجري.. والمقصود بـ(الرحمة) في اختلاف الأئمة هو: السعة والسماحة والتنوع المفيد للناس، في حياتهم الخاصة والعامة. ولذا صدّر هذا العالم الجليل كتابه بالحديث النبوي: «من يرِد الله به خيرا يفقّهه في الدين».

وهذه نماذج من اختلاف الأئمة فيما دون الأصول العقدية الكبرى:

أ- الماء المستعمل في فرض الطهارة: طاهر – أي في نفسه- غير مطهر (لغيره) على المشهور من مذهب أبي حنيفة، والأصح من مذهب الشافعي وأحمد، ومطهر عند مالك، ونجس في رواية عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف.

ب- واختلف الأئمة في قراءة المأموم فاتحة الكتاب في الصلاة الجهرية، فمنهم من أوجبها، ومنهم من عدها سُنّة، ومنهم من لم يرَ قراءتها.

ج- وفي البيوع اختلف الأئمة، ومثال ذلك: أن (التسعير) يحرم عند أبي حنيفة والشافعي، وعن مالك أنه قال: إذا خالف واحد من أهل السوق بزيادة أو نقصان يقال له: إما أن تبيع بسعر أهل السوق أو تنعزل عنهم. فإن سعّر السلطان على الناس فباع رجل متاعه وهو لا يريد بيعه بذلك كان مكرها. وقال أبو حنيفة: إكراه السلطان يمنع صحة البيع، وإكراه غير لا يمنع.

د- واختلف العلماء في تفسير الآيات ذات الدلالة الظنية، وهي كثيرة جدا، ولذلك تعددت تفاسير القرآن وتنوعت، ولذلك – أيضا – لم يكتفِ المسلمون بتفسير واحد في أي عصر من عصور تاريخهم.

هـ- واختلف العلماء في شرح الأحاديث أو السنّة النبوية، ولم يقُل أحد إن كتابا واحدا – في شرح السنة – يكفي ويغني ويجزئ. وبانتفاء هذا القول – عقلا وعلما – استفاضت مراجع ومؤلفات شرح السنّة.

وبسبب هذه الخلافات والتنوعات سُميت (مذاهب)، بمعنى أن كل إمام (ذهب) في اتجاه ما، وفق ما يمليه عليه علمه واجتهاده في تحري مقاصد الشريعة، وتحقيق مصالح الناس، ومن ثم فهي (مذاهب) تنشأ وتتغذى من مصادر الإسلام ومنابعه في حرية النظر والاجتهاد والتجديد.

ثانيا: نصل ها هنا إلى القضية الثانية: قضية (التجديد). فـ(التجديد) في الإسلام ليس مجرد (هواية) يهواها امرؤ من الناس لتلبية رغبته ثم يتركها متى يهوى.. وإنما التجديد في منهج الإسلام (سُنة نبوية مؤكدة)، ليس مرة واحدة في العمر، بل هي سُنة (دورية مطردة) في الزمن كله، منذ بلّغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الرسالة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فلقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجدد لها دينها». واستنادا إلى هذا الحديث وإلى نصوص كثيرة في الإسلام، صُبّ الذم صبّا على الجمود والتحجر والتقليد المعيب، الملغي لحرية الفكر وحق النظر والاجتهاد.

ومن الحق الصراح ذم التقليد والدمدمة على التحجر والجمود، وهمود الفكر، وتعطيل العقل، وإغماض العين عما ينبغي أن تحدق فيه. فما تعطلت مصلحة، ولا وقع المسلمون في الحرج (الفردي أو الجماعي)، بينهم هم أنفسهم أو بينهم وبين الأمم الأخرى، ما حصل ذلك إلا بالتقليد والجمود ومخالفة سُنة النبي (في التجديد الدوري).

ومن المفارقات أن التقليد مُورِس مع الثورة العلمية التجديدية التي تركها الأئمة المجددون! أي أن التقليد حصل مخالفة ومراغمة لمنهج المجددين الذين قلدهم من بعدهم!! يقول ابن تيمية: وأما أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم، فليس حجة لازمة ولا إجماعا باتفاق المسلمين، بل قد ثبت عنهم – رضي الله عنهم – أنهم نهوا الناس عن تقليدهم، وأمروا إذا رأوا قولا في الكتاب والسنّة أقوى من قولهم أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنّة ويدعوا أقوالهم. ولهذا كان الأكابر من أتباع الأئمة الأربعة لا يزالون إذا ظهر لهم دلالة الكتاب أو السنّة – على ما يخالف قول متبوعهم – اتبعوا ذلك، مثل مسافة القصر، فإن تحديدها بثلاثة أيام أو ستة عشر فرسخا، لما كان قولا ضعيفا، كانت طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم ترى قصر الصلاة في السفر الذي هو دون ذلك، كالسفر من مكة إلى عرفة، فإنه ثبت أن أهل مكة قصروا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وعرفة.. وقد قال الإمام الشافعي: «إذا صح خبر يخالف مذهبي فاتبعوه واعلموا أنه مذهبي»، وقد جرت عبارات مشابهة على ألسنة الأئمة الآخرين.

ولئن كانت العصور الخوالي قد احتاجت إلى (التجديد) فإن عصرنا هذا أشد حاجة؛ نظرا لكثرة القضايا والمشكلات والحاجات والاختراعات الجديدة.

 

عن صحيفة الشرق الاوسط

23 نونبر 2013

 

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…