كيف يكون الوفاء لياسر عرفات … في ذكرى غيابه؟
قبل تسع سنوات، غاب ياسر عرفات. في ذكرى رحيل الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، برز مجددا في السنة 2013 الكلام عن أنّ الرجل قضى بالسمّ الذي دسّ له في اثناء فترة الحصار التي قضاها في رام الله. قد يكون هذا الكلام صحيحا، خصوصا أن التحليلات الطبية التي أجريت في سويسرا رجحت ذلك. لكنّ ما قد يكون أهمّ من هذا الكلام، الظروف التي رافقت وضع «أبو عمّار» ابتداء من أواخر السنة 2001 في الاقامة الجبرية في «المقاطعة». مؤسف أن ذلك حصل ذلك فيما العالم، بمن فيه العالم العربي، يتفرّج.
كان هناك، على سبيل المثال، بعض العرب المتواطئين مع الاسرائيليين لمنع عرفات من الظهور، حتى بالصوت والصورة، في قمة بيروت التي انعقدت في آذار- مارس 2002. من يتذكّر وقتذاك كيف منعت السلطات اللبنانية، التي كانت تحت الوصاية السورية، الزعيم الفلسطيني من توجيه خطاب الى القمة عبر الاقمار الاصطناعية، وذلك بحجج واهية؟
جاء هذا التطوّر الجديد المتمثل في وجود اثباتات معيّنة ترجح تسميم «أبو عمار»، في وقت بات معروفا أنّ المؤسسة العسكرية والامنية والسياسية الحاكمة في اسرائيل، بكلّ اتجاهاتها تقريبا، راحت تعتبر ابتداء من بداية السنة 2001 أن وجود ياسر عرفات في رام الله بات عبئا. أصبح هناك شبه اجماع اسرائيلي على أنّه لم يعد ممكنا التعاطي معه بأي شكل.
كان مفروضا في البدء اعدام «أبو عمّار» سياسيا. وهذا ما حصل بالفعل. ظهر هذا الموقف جليا من خلال المؤتمر الذي ينعقد مطلع كلّ سنة في منتجع هرتسيليا، غير البعيد عن الحدود اللبنانية. تشارك في هذا المؤتمر شخصيات اسرائيلية نافذة تمثّل معظم مراكز القوى والاتجاهات والمؤسسات في دولة تمتلك قوة عسكرية كبيرة ولا تزال تعتقد أنّ في استطاعتها تكريس الاحتلال للارض الفلسطينية، خصوصا لجزء من الضفة الغربية والقدس الشرقية.
تبلور الموقف الاسرائيلي الجديد من «أبو عمّار» نتيجة فشل قمة كامب ديفيد صيف العام 2000، وهي القمة التي ضمّت الزعيم الفلسطيني الراحل والرئيس بيل كلينتون، الذي كان في الشهور الاخيرة من ولايته الثانية، وايهود باراك، رئيس الوزراء الاسرائيلي وقتذاك.
لم يقبل ياسر عرفات، في تلك القمة، ما كان مطلوبا أن يقبل به. في الواقع، لم يكن العرض الذي قدّمه باراك واضحا الى درجة يمكن القاء اللوم في فشل القمّة على «أبو عمّار». على الرغم من ذلك، جرى الترويج أميركيا واسرائيليا لمقولة ان ما قدّمه الجانب الاسرائيلي كان تنازلات كبيرة لم تحظ بلفتة من الزعيم الفلسطيني…
لا شكّ أن الظروف التي تلت تلك المرحلة لم تخدم الزعيم الفلسطيني الذي ارتكب خطأين فادحين في اسابيع ما بعد القمة. يتمثّل الخطأ الاوّل في رفضه الاطار العام للتسوية الذي عرضه كلينتون في الايام الاخيرة من السنة 2000 والآخر في ما سمّي «عسكرة الانتفاضة». لم يضع «أبو عمار» في حساباته أن الرئيس الاميركي سيوصي خليفته جورج بوش الابن بوقف التعاطي معه بعدما خذله. والحقيقة أن بوش الابن لم يكن حتى في حاجة الى مثل هذه النصيحة كي يسير فيها وكي يرفع الغطاء الاميركي عن «أبو عمّار». ساعده في ذلك العمل الارهابي الذي أقدمت عليه «القاعدة» في الحادي عشر من سبتمبر 2001 والذي جعل الاولوية الاميركية لما سمّي «الحرب على الارهاب».
أمّا الخطأ الآخر فتمثّل في أنّ الزعيم الفلسطيني لم يفرّق بين وضع الضفة الغربية ووضع جنوب لبنان الذي انسحب منه الاسرائيلي في مايو 2000. ظنّ ان مجرّد اندلاع انتفاضة جديدة يستخدم فيها السلاح وقتل بضع عشرات من الجنود الاسرائيليين، سيجعلان اسرائيل تنسحب من الضفة الغربية.
لم يفطن الى مدى تعلّق اسرائيل باحتلال جزء من الضفة من منطلق انها «أرض متنازع عليها»، فيما كانت مستعدة في كلّ وقت للانسحاب من جنوب لبنان، بموجب القرار 425، لقاء ضمانات معيّنة لم تحصل عليها عمليا الاّ بعد حرب صيف 2006 وصدور القرار الرقم 1701 الذي وافق «حزب الله»، الذي كان يقود «المقاومة»، على كلّ حرف فيه.
المهمّ الآن، ألا تطغى قضية تسمّم ياسر عرفات على التفكير في المستقبل. لا يختلف عاقلان على أن قضية التسمّم مهمّة وأن هناك مصلحة عربية وفلسطينية في كشف المجرم، خصوصا أن ارييل شارون خلف باراك في رئاسة الوزارة في فبراير 2001… وكان لشارون حساب ذو طابع شخصي يودّ تصفيته مع الرجل الذي وضع فلسطين على الخريطة السياسية للشرق الاوسط.
ماذا يمكن أن يعني التفكير في المستقبل في ظلّ الانسداد السياسي التام في المفاوضات الهادفة، الى اقامة دولة فلسطينية مستقلّة «قابلة للحياة» عاصمتها القدس الشرقية؟ كيف يتصرّف الفلسطينيون في ضوء الرغبة الاسرائيلية في متابعة الاستيطان وقضم الارض الفسطينية؟
يفترض في الفلسطينيين أن يطرحوا على أنفسهم مثل هذا النوع من الاسئلة في حال كانوا يريدون البقاء أوفياء لذكرى ياسر عرفات الذي عاد الى فلسطين بفضل اتفاق أوسلو، بايجابياته وسلبياته، وهو يطرق الآن أبواب القدس يوميا من حيث ووري الثرى في رام الله.
لا شكّ أن «أبو عمّار» استطاع تحقيق الكثير على طريق انجاز المشروع الوطني الفلسطيني. لا شكّ أنّه لم يستطع استكمال المسيرة لاسباب كثيرة تحتاج الى بحث مخصص لهذا الموضوع. ولكن، من يريد أن يكون وفيّا له يعمل أوّلا من أجل ألا تكون الضفة الغربية أرضا طاردة لاهلها، استمرّت المفاوضات الدائرة مع اسرائيل بناء على رغبة أميركية، أم لم تستمرّ. ذلك هو التحدي المطروح، وهو تحدّ يمكن أن يساهم في صمود الشعب الفلسطيني الذي يمتلك سلاحا في غاية الاهمّية. انّه شعب استطاع المحافظة على هويته الوطنية برغم كلّ الظلم الذي تعرّض له…طوال قرن من الزمن!
لا يمكن شطب شعب صمد كلّ هذه السنوات من خريطة الشرق الاوسط بغض النظر عن مرحلة المخاض التي تمرّ فيها المنطقة والتي جعلت ترتيب الاولويات العربية ينقلب رأسا على عقب.
*نقلا عن “الرأي العام” الكويتية
…..عن قناة العر بية نيت