عن موقع صحيفة السياسة الدولية
14 نونبر 2013
لا يمكن تخيل واقعنا المعاصر بدون دور التكنولوجيا الرقمية في أحداثه اليومية، وعلى مستويات تفاعلاته المختلفة، فقد خلقت ثورة الاتصالات واقعا معولما، قوامه شبكات التواصل وتبادل المعومات. وقد ظل تأثير هذا الواقع بعيدا عن تفاعلات العلاقات الدولية والنظام الدولي الحافل بالتغيرات، عبر عقدين من الحرب الباردة.غير أن ثورة الاتصالات فرضت على باحثي العلاقات الدولية أخيرا إعادة النظر في المفاهيم الواقعية الحاكمة للحقل، في ظل ما تفرضه من تحديات. ومن هنا، تأتي أهمية هذا الكتاب الذي يسعي لإعادة النظر في أطروحات السياسة الدولية التقليدية، في ظل تحديات ثورة الاتصالات الرقمية/ السيبرية.
مفهوم السياسات السيبرية:
ترى البروفيسور شكري أن الفضاء الإلكتروني – المتسم بالانتشار الفائق، والسيولة، وقوامه شبكات الإنترنت، ومئات الملايين من الأجهزة التي تربطها بالمؤسسات والشركات التي تقوم على هذه الشبكة، وترتبط بها، والخبرات التي يفرزها - قد خلق واقعا إنسانيا جديدا يمثل تحديا للنظرية المعاصرة في العلاقات الدولية، وكذلك على مستوي السياسات والممارسات.
هذه التحديات تمثلت في عناصر الوقت، وقدرة التكنولوجيا على الاختراق، والارتباط، والتشبيك. ومن ثم، ظهرت السياسات السيبرية أو الإلكترونية. وهي تشير إلي التداخل بين واقعين، يتمثل الأول في السياسة بمفهوم القوة القادرة على إحداث التأثير بين الفواعل، أي تحديد من يملك القدرة على إنفاذ إرادته، وحدود هذه القدرة، والواقع الآخر يشير إلي مجال جديد من التفاعلات الإنسانية بكل ما تحمله من شروط وتنافس.
ويحاول الكتاب ذو الفصول العشرة أن يستكشف أوجه تأثير السياسات السيبرية الصاعدة في العلاقات الدولية، والبدائل المستقبلية لهذا التأثير، وكذلك يسعي إلي وضع أسس لنظرية علاقات دولية جديدة نابعة من القضايا التي يطرحها الفضاء الإلكتروني. واستخدمت شكري في سعيها هذا مناهج وأدوات إمبريقية متعددة ترتكز حول مراجعة وملاحظة أثر الفضاء الإلكتروني على الأفراد، والدول، والفواعل من غير الدول على المستوي العابر للقوميات.
ويقع الكتاب في جزأين، يتناول الجزء الأول، الذي يتكون من ثلاثة فصول، الأطر النظرية، والسياقات الإمبريقية اللازمة للنظر في نظرية العلاقات الدولية المعاصرة. ويتناول الفصل الثاني التحديات التي يفرضها الواقع الافتراضي على المجالي، ويسعي هذا الفصل إلي توفير إطار مفاهيمي للدراسة، وأن يحدد العلاقة بين الواقع الافتراضي والواقع الحركي للنظام الدولي، وكذلك يمهد للقضايا التي يهتم بها باقي الكتاب.
ويعتمد هذا الفصل أساسا على تطوير التنظيرات الكلاسيكية للمدرسة الواقعية. ويطرح الفصل الثالث نماذج في تناول قضية الواقع الافتراضي، ويتناول قضية الاستقطاب الإلكتروني الثنائي بين الولايات المتحدة والصين، بحسبانه نمطا جديدا لتفاعلات العلاقات الدولية. ويسعي هذا الفصل إلي الإجابة على بعض الأسئلة من قبيل كثافة الولوج إلي الفضاء الإلكتروني، وإلى أي مدي تتوافق النظرة السيبرية للنظام الدولي مع المنظور الواقعي الحركي لهذا النظام.
الفضاء الإلكتروني .. مستويات مختلفة للفاعلية:
يهتم الجزء الثاني من الكتاب بتحليل المستويات المختلفة لتأثير الفضاء الإلكتروني، لعل أول هذه المستويات هو المستوي الفردي. وتري شكري أن الفضاء الإلكتروني عمل على تقوية فاعلية الفرد في مواجهة الدولة. وقد وصلت هذه الفاعلية، التي تقوم أساسا على إتاحة وصول الافراد إلى المعلومات والمعرفة، إلى الدرجة التي لا يمكن للدولة تجاهلها، فقد وضعت تكنولوجيا الأفراد العاديين من المستخدمين في وضع من يستطيع خلق شبكات متجاوزة للدول والقوميات، وهو ما أدي إلى مراكمة عناصر القوة التي حازها الأفراد. ومن ثم، أصبح لازما على منظري العلاقات الدولية الاهتمام بشكل كبير بالفرد كمستوي تحليلي أكثر مما هو في النظرية التقليدية.
وتعد الدولة، على الرغم من تغيرات الواقع الدولي، أحد أهم الفواعل ومتساويات تحليل الواقع الدولي. وبالإضافة إلى عناصر القوة التقليدية المتمثلة في القدرات الاقتصادية، والعسكرية، والموارد، والسكان، أصبحت القوة التكنولوجية أحد عوامل مضاعفة قوة فاعلية الدولة في النظام الدولي.
وفي الفصل الخامس، تقدم شكري تصنيفات لدول العالم، حسب إفادتها من القوة التكنولوجية، وقدرتها على دمج هذه القوة الذكية في أجهزة الدولة، واستخدامها في تفعيل وجودها على الساحة الدولية، والإفادة من موارد العالم، والتأثير في بناء النظام الدولي. ويسعي هذا الفصل إلي الإجابة على مدي فاعلية الحكومة الإلكترونية، والمشاركة الإلكترونية كشكل من استخدام قوة الفضاء السيبري.
ويحاول الفصل السادس من الكتاب أن يتناول الصراعات الدولية السيبرية، ويري أنها تنقسم إلي ثلاثة أنواع، الأول يدور حول التحكم في الفضاء الإلكتروني الدولي، والثاني حول تحويل القوة الافتراضية إلي مميزات استراتيجية، والثالث متعلق بالصراعات الإلكترونية التي تهدد الأمن القومي للدول ذات السيادة.
وهنا، تبرز ظواهر جديدة مثل عسكرة الفضاء الإلكتروني، وشن الحرب الإلكترونية، والأخطار الإلكترونية على البنية التحتية للدولة. وتعد هذه الظواهر انقلابا في موازين العلاقات الدولية، إذ كثيرا ما رأت أن التكنولوجيا وما يتعلق بها من ظواهر اتصالية من السياسات الدنيا، فإذا بها تهدد السياسات العليا للدول. أما الفصل السابع، فيحاول أن يستكشف أنماط التعاون الدولي حول تنظيم الفضاء الإلكتروني.
لقد تخطي النظام الدولي حدود الدول القومية، واتسعت مراكز اتخاذ القرار فيه لتتجاوزها، وتشمل مؤسسات وهيئات من غير الدول. هذا ما يرتكز عليه الفصل الثامن من الكتاب، الذي يوضح أن تعدد الفاعلين الدوليين وتنوعهم قد خلق حالة من تغير قواعد اللعبة الدولية من أجل حيازة القوة وممارستها. وقد أصبح استقرار النظام الدولي أكثر اعتمادية على الممارسات التي يقوم بها الفاعلون حتى لو كانوا من الأفراد من خلال الفضاء الإلكتروني. وتري شكري أن مفهومي “الاستمرارية والتلاقي” أصبحا حاكمين لتفاعلات النظام الدولي، بعد صعود قوة الفضاء الإلكتروني في فاعلياته.
ويوضح الفصل التاسع سبل تدعيم هذين المبدأين، خاصة في حالة الدول النامية، التي رغم دمجها في النظام المعلوماتي الكوني، فإنها لا تزال تجد صعوبات وعقبات في الوصول إلي المعلومات، وتحويلها إلي موارد قوة وفاعلية. وتحاول شكري في هذا الصدد طرح مقترحات لتمكين الولوج إلي المعرفة الإلكترونية.
ويمثل الفصل العاشر والأخير مجموعة من الاستنتاجات التي توصلت إليها شكري، ومن أهمها أن الولوج المتزايد إلي الفضاء الإلكتروني قد مكن أصواتا جديدة من التواصل، وأن يكون لها موقع على الشبكات العالمية، وأنها سهلت تطوير محتوي ومعرفة بشرية جديدة، ووفرت ساحات جديدة لمطالب جماعية بحل أزمات ومشكلات إنسانية مشتركة من ناحية، ومن ناحية أخرى ساعدت المؤسسات الدولية على الاستجابة لهذه الأزمات.
لقد أشارت النقاشات، التي أثارها الكتاب عبر فصوله، إلي العديد من التحولات الحادثة على مستوى النظام الدولي، وفي حقل نظرية العلاقات الدولية. وتري شكري أن هذه التحولات ستتعمق أكثر، مع اتساع استخدام الفضاء الإلكتروني، وهيمنته على التفاعلات الإنسانية. ولا يكتفي الكتاب في خاتمته برصد التحولات الواقعة حاليا، فيقدم استشرافا لها ،مركزا على التنافسات المحيطة بالسياسات السيبرية في العلاقات الدولية.