مارتن هايدجر والعلاقة ما بين الفلسفة والسياسة ـ سميرة اليوسف …
عن صحيفة انفاس
بقلم سميرة اليوسف
2ىنونبر 2013
لم يخلف الفيلسوف الالماني مارتن هايدجر مبحثا في علم السياسة. غير انه بسبب السياسة نفسها أمسى موضوع جدل لم ينقطع منذ ما يربو على نصف قرن. فهايدجر، وكما لا يخفر، كان نازيا، بل وعلى ولاء النازية لم يتورع بسببه عن الوشاية بزملاء له في الحقل الاكاديمي، وانكار فضل آخرين رعوه في مطلع حياته الفكرية واسبغوا عليه من الاهتمام ما يحتاجه كل ذي موهبة. ولم يكن انكار الهؤلاء او وشايته بأولئك الا لكونهم يهودا او لانهم لم يظهروا من الولاء “للامة الالمانية ” ما لم يتوان هو عن اظهاره.
واذ تسوغ هذا المفارقة امرا فإنها تسوغ النظر الى المسافة الفاصلة ما بين إعراض الفيلسوف عن الكتابة في علم السياسة على غرار ما ذهب اليه عدد كبير من الفلاسفة وما بين انضوائه عضوا في الحزب النازي، كمبعث جملة من الشكوك والتساؤلات لم تبرح تظهر كلما أشير إليه من قريب او بعيد: امن الاحق الربط ام الفصل ما بين الموقف السياسي لهايدجر وما بين فلسفته؟ فهل كان للسياسة موقع في فلسفته؟ وما طبيعتها وعلى اي وجه تكون وما اثرها العام على مشروعه الفلسفي، وهو، على ما يزعم، صاحب مشروع فلسفي راديكالى؟ ولم أعرض الفيلسوف عن وضع مؤلف في السياسة طالما انه لم يتوان عن الالتزام بحزب ساسي؟
سؤال الكون
والحق فإن الفيلسوف الالماني الكبير لم يستنكف من الكتابة في السياسة او في اي من حقول المعرفة الاخرى كتابة مستقلة الا لان في ذلك استباقا للسؤال الاساسي الذي شاء العودة اليه من جديد، أي سؤال معنى الكون، او ما ه معنى ان تكون؟
ولقد رأي هايدجر ان ثمة مفهوما لكون كافة الكائنات يكمن في مجمل ادراكنا للواقع. صير الى نسيانه عن قبل الفلسفة الغربية منذ افلاطون وارسطو والانشغال عنه بما ينشق عنه من اسئلة اخرى.وكان ارسطو قد ميز ما بين معان كثيرة للكون كثرة الكينونات المتوافرة بما اشارع الظن بأن الكون هو ان تكون هيوليا فضلآ على المقولات التسع الاخرى. التي ارسي الفيلسوف اليوناني القديم اسسها، والصفات الملازمة للهيولى. وعلى منوال ارسطو سارت الفلسفة الغربية متناسية البحث عن معنى موحد لكون سائر الكائنات.
وبخلاف الفلسفة الانطولوجية التقليدية التي سلمت بداهة بأن ما يعين او يعرف كون الشيء، او كيانه. هو جوهره الموضوع الثابت، رأى هايدجر ان ثمة تداخلأ ما بين الذات المفكرة والواقع. الموضوعي بما خلص به الى القول ان نظرنا هو الذي يعزو الدلالة الى الموضوع، ولكن شريطة ان يكون الموضوع قابلأ لحمل هذه الدلالة. فعلى هدى فلسفة علم الظهور (الفينومينولوجيا) التي امتاز بها استاذه ادموند هوسيرل.
جادل هايدجر ان الذات هي التي تمدنا بالشروط التي تشترط موضوعات التجربة والنظر. وعلى هذا فإن كون سائر الكائنات انما هو مرهون بالمعنى الذي نجنيه من خلال فعمنا او نظرنا اليها. غير ان هايدجر سرعان ما افترق عن هوسيرل افتراقه عمن سبقوه من الفلاسفة بسبب عزلهم الفلسفة عن التجربة اليومية المعاشة. فالنظر الى الذات، او الأنا، كذات مفارقة، على ما ذهب هوسيرل يغفل او يتناسى دور التجربة الفردية والشروط التاريخية التي تحكم وجود الذات. والمحقق ان هايدجر لم يكن قادرا على تجاهل حقيقة ان الصورة التي نتصورها لانفسنا قد تخضع في كثير من الاحيان لتأثير مصالحنا الشخصية وميولنا، فضلأ عن كونها مشروطة بشروط التاريخ عامة وبما يدل على ان “أنا” خالصة تكمن خلف سائر افعال الوجدان ليست من الحيادية والتعالي المنسوبين اليها من قبل سلفه هوسيرل.
وبما انه من الوارد ان تكون الظاهرة المعاشة مألوفة عندنا، حتى وان لم تكن مفهومة حق الفهم، فلقد اتخذ هايدجر من ميزة الحياة اليومية للكائنات الانسانية نقطة انطلاق فلسفته. ولهذا، وخلافا لبقية اسلافه، فإنه لم يعمد الى القفز فوق الصلات الوثيقة التي تربط البشر بالعالم متحاشيا بذلك تبوء موقع الفيلسوف المطلع على الامور من موقع نظري منفصل. الى ذلك فلقد نظر هايدجر الى التحريفات التي تخترق حياتنا اليومية كموضوع تحليله الظاهراتي (الفينومينولوجي)معتبرا ان مهمة تحليله كشف الظواهر التي يصار ال طمرها او سترها املأ في اطلاقها واظهارها عارية على ما هي عليه.
وان هذا التصور نفسه ليشكل خلفية نظرية الحقيقة بما هي انعدام الخفاء والنظر كوجه من الاحالة والكشف عنده. في غرض الوصف الظاهراتي لحياة كل يوم الآ استجلاء البنية الاساسية الراسخة تحت نظرنا المسبق لما هو فعلي ولما هو موضوع بحث ودراسة مختلف ميادين العلوم. بما ان فقهنا للكون يتم من خلال افشاء سر ما هو كائن، او “دازاين ” بحسب المصطلح الهايدجري الشهير، في العالم، فإن تحليلآ لهذا الـ”دازاين ” لا مناص من ان يستبق اي ضرب من النظر الانطولوجي الاساسي، او الاصولي.
ولئن قاده هذا الاعتبار الى نبذ مفهوم هوسيرل للذات كأنا مفارقة، فلقد أفضى به في النهاية الى طرح منهج سلفه الداعي الى تعليق العالم الطبيعي في سبيل بلوغ الحقيقة الراسخة. فهايدجر الرامي الى تحليل صلاتنا بالعالم وببعضنا البعض ككائنات في العالم يخشى مغبة سبيل تجريدي لاختبار “دازاين ” للعالم بما يؤدي الى نسف ظاهرة كياننا. فالعالم هو النطاق المعين الذي نلتقي بين تخومه بأنفسنا وبالكائنات الاخري، وانه لمن خلال هذا اللقاء يتحدد جوهر فعمنا لانفسنا وللاشياء الاخري. وما تحليل هايدجر للبنية «الماقبلية ” لحيازتنا العالم الا ذاك الذي يتشكل من خلال استعراض الطريقة التي نتعاطي بها مع العالم والكينونات المقيمة فيه على الوجه الذي نلتقي بها في وجودنا الفعلي.
وليس الخلوص الى رؤية جديدة للعالم هو الامل المعقود من إتباع ضرب من التحليل كهذا، وانما اقتفاء السبيل الذي يقيض لنا من خلاله فهم ما نحن بصدد التعامل معه. فأن تكون مفهوما هو ان تكون مفهوما كشيء او كأمر ما، وهذا ما يملي تحقيقا شاملا لسائر اشكال فهمنا المتباينة الكامنة في تعاطينا مع العالم. ولعل هذا ما يدل على اهمية التأويل عند هايدجر. ففي تأويلنا لانشطتنا المختلفة انما نميل الى ادراك ضمني شامل للاشياء من دون ان نكون على دراية تامة بالامر. وبما ان هذا الفهم الضمني لهو السمة العامة التي تسم الفهم البشري عامة فلقد كان من الطبيعي ان يكون هناك فهم غامض لسؤال الكون (اي ما معنى ان تكون) بل وتكاد اهمية مشروع هايدجر الفلسفي ان تقتصر على سعيه الدائب الى تفسير ضمور هذا السؤال ونسيانه.
وبحسب هايدجر فإن نسيان سؤال الكون ليتجلى على وجهين: فهناك اولأ النسيان الكامن في فهم حياة كل يوم من حيث انه ضرب من الفهم لا يسعى المرء معه الى اكتساب أية احاطة اصيلة بالكون وانما ترده يتقبل التأويلات الجاهزة الصنع في بيئته. وهذا على ما يرى هايدجر وجه من النسيان مبرر، ان لم نقل طبيعي طالما انه بمثابة اعراب عن استغراقنا في العالم. غير ان الوجه الآخر هو ذاك الذي لا يبدو طبيعيا او مبررا. وما هذا الأ النسيان الذي ركن اليه الفلاسفة الغربيون منذ افلاطون محجمين عن طرح السؤال المنوط بهم طرحه.
اما ان الامر يستدعي اعادة طرح سؤال الكون، فإن ذلك لا يعني الانكفاء الى اصل او بداية لم يطاولها اثر النسيان، اي انه ليس بسؤال يستدعي العودة الى الايام التي كان فيها السؤال حيا كما لو ان في وسع المرء القفز الى الخلف طاويا التأريخ المنبسط. ولا هو بالامر الذي يستدعي ندب نعيم ايديولوجي وانما الاقرار بالسؤال بما يتعلق بطمر او نسيان سؤال الكون. او للدقة السؤال الذي يستوى على اساس الطمس الذاتي. فليس تاريخ الطمس الذاتي الأ تاريخ الميتافيزيقيا الغربية، ولذا فإن الالتفات الى هذا السؤال عند هايدغر لا يقتصر فحسب على تأويل معنى الكون من خلال تحليل “دازاين ” وانما من خلال “تدمير”. او بلغة اليوم «تفكيك ” تاريخ الانطولوجيا ايضا. فلا يمكن تفكير السؤال ما لم يصر الى دراسة تاريخية لعملية طمس هذا السؤال.
ويقضي التدمير المنشود تحليلأ يكشف عن لحظات «الانزياح ” في تأريخ الانولوجيا التقليدية لاسيما وفق ما تتجلى عليه في فلسفة ارسطو وديكارت وكانط تجليا يبين سطوة انطولوجيا “الحدوث ” او “الحضور”، اي اعتبار الكون مثابة حضور الهيولى الازلي او حدوثه المتصل، بما ادى الى نسيان سؤال الكون باعتباره اعم العموميات او البدائه. ولعل من اظهر عواقب سطوة الانطولوجيا التقليدية اختزال حقيقة كون الشيء كائنا الى “واقع ” مادي محدد او حتى الى “شيء”.
وهذا انما صور العالم بمثابة مجموعة من الكينونات المستقلة عن بعضها البعض والقابلة لان تكون موضوع معرفة الذات المدركة ما امكن لها سبيل إلتقائها. وما كان هذا الا من قبيل الجنوح الى “مركزية ذاتية ” مردها الصعوبات المألوفة التي واجهها الفلاسفة المذكورون حيال هذا الضرب من الانطولوجيا حيث لبث السؤال حول امكانية الاتصال ما بين الذات المفكرة والموضوع المدرك ذي الوجود الموضوعي من دون اجابة وافية. ومن ثم فقد صير الى التسليم بأن الهيولى المستقلة والثابتة لهي البنية الاساسية للواقع. وان هذه البنية ما برحت مستقلة عن الذات المدركة.
ولان المستوى النظري هو المستوى الوحيد الذي أعتبر جديرا باهتمام الفيلسوف. فإن اي سبيل آخر لفهم كيان الاشياء، لم يعر أدنى اهتمام. على ان هايدجر يوصي بأن يحمل هذا الضرب من النظر الاشتقاقي من حيث انه يعامل البشر كذوات لا عالم لها رغم قدرتها على تأسيس اتصال بالاجسام المنفصلة، على كونها رؤية خاصة لسبيل اشد جذرية لفهم انفسنا ككائنات ذات عالم ومتميزة بكونها بين او منضوية في عالم متناول اليد.
تحليل دازاين
ولئن اصر هايدجر على ان كيان الكائن انما هو كيان في العالم لا انفصال فيه ما بين ذات مدركة وعالم موضوعي، فإنه لا ينكر صحة الافتراض بأن بحثا نظريا في مسائل مثل موضوعية الوجود او العلاقة ما بين العقل والجسد او غيرهما من المسائل لا يمكن ان يصار الى حلها الأ من خلال افتراض ثنائية من هذا القبيل. بيد ان ما يأخذه على التقليد الفلسفي الغربي هو النظر من منظار الثنائية هذه وكأنه المنظار النهائي. فلا ينكر هايدجر اهمية التساؤل حول اسبقية العقل او موضوعية العالم وامكانية المعرفة وطبيعتها وكل ما يتصل بهذا الشأن، غير انه يرى بأنها مشتقة من السؤال الأعم “ما معنى الكون؟”
واذا ما توخينا تعيين المسألة في سياق حصوي جاز القول ان هايدجر افلح في تجاوز، او لعله من الادق القول في تعليق الجدل في هذه المسائل بأن اتبع مسلك كانط في القول بأن العالم ليس معطى موضوعيا سابقا وانما هو قائم بما يتوافق مع شروط العقل. غير انه سرعان ما انشق عن السبيل الكانطي موقنا بأن العقل ايضا ليس معطى جاهزا، وان نقطة البدء لهي سابقة على اية لحظة تأمل فلسفية تتجلى من خلال التصوير الذاتي في غمرة مشاغلنا اليومية وقبل بلوغ لحظة الدهشة او بالضرورة التساؤل حول اسبقية العقل وطبيعة الوجود.
وان النظر الى العالم كموضوع قائم هناك، أكان ذلك من سبيل العلوم ام الفلسفات ذات المنحى الطبيعي، ام كان من طريق الفلسفة الظاهراتية التي اوصت بتعليق كافة الاحكام الطبيعية النزعة بغية التوصل الى المعرفة الراسخة، انما هو استغراق فيما هو نظري يميز ما بين العالم كموضوع معرفة والذات كعارفة بما يصار الى القفز مباشرة الى ما هو «حاضر الى الذهن ” وتجاهل حقيقة ان انهماكنا في الحياة اليومية التي تتسم بكونها “في متناول اليد”.
فنحن في حياتنا المعتادة انما نقبل على انشطة ونستخدم ادوات من دون ان نعمد الى تقليب وجوه النظر في كل ما نفعل او نستخدم كما لو انها افعال واشياء منفصلة انفصال موضوعات المعرفة عن الذات العارفة. اما اللحظة التي يحدث فيها امر كهذا، فهي اللحظة التي ينقطع فيها حبل انشغالنا فيما نحن مجدين فيه، وهو ما يسميها هايدجر بكونها “حاضرة الى الذهن “. فإذا ما انقطع مداد القلم الذي اكتب به الآن، على سبيل المثال، فإنه لمن الطبيعي ان انتقل في تعاملي مع هذا من كونه في متناول اليد الى كونه حاضرا الى الذهن، ومن ثم كموضوع تأمل وتفحص نظري.
ولئن بدت الكينونات في متناول اليد غير مستقلة بذاتها، فإن هذا لا يعني بأنها معدومة الهوية او انها غائبة عن وعينا تماما، وانما نحن نعيها في النطاق الاشمل لوجودها، وانها لتصير منفصلة او مستقلة عن النطاق العام في اللحظة التي تمسي حاضرة الى الذهن. ان حقيقة كيان الشيء، اي حقيقة كون الشيء كائنا لهي. على ما سبق واشرنا. العامل المشترك بين سائر الكينونات الكائنة. غير ان هذا العامل ليس بكينونة هو نفسه ولا هو محض صفة من الصفات. وان ما يجعلنا قادرين على الاحاطة بالاشياء وفهمها ليس استجابتها لمقولاتنا العقلية او انها قابلة لان تكون موضوع مداركنا الحسية. وانما لاننا نراها فيما هي كائنة تقدم نفسها الينا.
وكما بسطنا القول فإن هايدجر في هذا النقطة بالذات لهو اكثر راديكالية من هوسيرل من حيث انه لا يكتفي بتعليق الاحكام الطبيعية المسبقة بما يتيح للاشياه تقديم نفسها على ما هي عليه، وانما يرى ايضا الى تحليل دازاين بما هو كينونة كائنة على وجه غير مجرد من واقع الكون وتبعاته. الى ذلك فإنه اذ تظهر الاشياء نفسها الينا، فإن موقفنا منها يكون موقفا تأويليا. اي موقف من يهب معنا الى كل ما هو غاشم. ولذا فلقد كان خلوص هايدجر ان فقه كون الشيء كائنا هو نشاط تأويلي بالضرورة.
وان تكون كيان دازين. عند هايدجر. هو ان تكون في العالم. اذ ليس هناك كينونات منفصلة او متعالية على العالم. سابقة له او ثابتة وحتما ليس ثمة انفصال ما بين ما هو كائن والعالم. وان تكون في العالم لا يعني ان تكون في مكان ما. فالعالم ليس بخشبة مسرح، او ليس بفضاء جغرافي. وعلى هذا فأن تكون في العالم هو ان تكون منضويا فيه بما يوضح مقولة هايدجر، ان تكون هو ان تكون في العالم مع الآخرين او الغير.
وليس كون دازاين محض كون الاشياء في متناول اليد او الحاضرة الى الذهن. فدازين ليس بمنفصل عن انغماسه في العالم او ما قد يصدر وينقب عن انغماس كهذا. انه ليس بجسم منسلخ عن عملية اكتشافه للعالم من خلال الانضواء فيه وما ينطوي ذلك على امكانيات. فلا مجال لوجود العالم من دون وجود دازاين او وجود هذا الاخير من دون الاول، ذلك ان وجود أحدهما يحتم وجود الآخر. لذا فإن دازاين لا يفقه ذاته من خلال الاستبطان الذاتي وانما من خلال معرفة ما هو منهمك فيه، او ما يثير عنايته واكتراثه. ان دازاين لهو العالم الذي ينضوي او يلتزم به.
وان الكون في العالم ليستوي وثق مفاهيم او علاقات مثل “الانضواء” و”الالتزام” و “الاكتراث”، و«الحرص”،..الخ. فمن خلال علاقات كهذه انما يعي،دازاين نفسه في العالم، بل وانه لمن خلالها يظهر هو والعالم. على ما سبق الاشارة. جدير بالتنبيه، ان الحرص او الاكتراث او سواهما، لا يعنيان هنا الحرص على الذات او على الآخرين دفعا للأذية عنهم وغيرة على مصالحهم وسعادتهم، وأنما محض كونك معنيا سواء جاء ذلك على وجه ايجابي ام سلبي.
وفي ضوء ما يقوله هايدجر في هذا الخصوص يمكننا تمييز اكثر من مستوى واحد لانغماس دازاين في العالم انغماس المكترث والحريص. فهناك الانغماس على مستور ما هو في متناول اليد في الحياة اليومية. فحينما يكون دازاين مستغرقأ فيما يفعله فإن حرصه يكون من قبيل مجاراة او محاذاة ذلك الانهماك اليومي. وحيث ان انهماكنا هذا لا يكون انهمالا مستقلا عما يحيط بنا من شروط وتدابير ومقتضيات وشرائع وعوائد نحيا وفقأ لها وبها،فإن هذا لقرينة على مستوى آخر لوجودنا الفعلي في العالم نستدل عليه من خلال الوضع. الذي نمثله او الحال الذي نكونه. فنحن اذ نحرص. نخشى ونقلق، او نطمئن ونسر لموقعنا في العالم، انما نكتشف اننا في العالم فعلا. غير ان هذين المستويين لا يستوفيان طبيعة وجودنا وبما يرجح الحديث عن مستوى ثالث من الحرص. ويكون هذا المستوى من خلال كوننا سباقين لانفسنا في العالم، اي لكوننا نازعين الى ما سيأتي. ففي انضوائنا في العالم انما نتجه الى الامام، الى ما نتوقع ونتأمل وقوعه او نتهيب حدوثه، الى ما نمني النفس تحققه او تحاشيه.
ونحن، بحسب هايدجر. “مطروحون ” في العالم. بيد ان استجابتنا او خضوعنا لهذه الحقيقة. وهي حقيقة انهماكنا فيما يدخل نطاق “متناول اليد”، لا يقتصر على لحظة الآن وانما يتجاوزها الى ما نتطلع اليها من احتمالات وامكانيات متوافرة. والى ما ننشد بلوغه. وعلى هذا الوجه تنكشف لنا الامور.
الى ذلك فإن اوجه الاكتراث الثلاثة هذه، وان بدت مستقلة عن بعضها البعض، الأ ان توافر الواحد منها يملي توافر ما يبقى بحيث نخلص الى انه ان تكون في العالم هو ان تكون في الماضي والحاضر والمستقبل معا. وليس في حال الاكتراث ما يجعلة استثنائيا وحكرا على دازاين وحده، وطالما ان دازاين ليس بذات مستقلة عن الغير، لهدا فإن حال الاكتراث غالبا ما يكون حالا مشتركة مع الأخرين.
ان لمن عواقب سيادة انطولوجيا الحضور او الحدوث، على ما يرى هايدجر، انها حالت دور نشوء انطولوجيا دينامية قد استعاضت عن ذلك بأنطولوجيا الثبات والاستقرار، وهذا بدوره ما حال دون مفهوم للزمن او “الوقتية ” من حيث انها بنية اكتراثنا وانضوائنا في العالم، بكلمات اخرى، فلقد قدمت الانطولوجيا التقليدية المكان على الزمان معتبرة العالم فضاء هندسيا بالدرجة الاساس. ولكن حيث ان الاكتراث لهو السمة الابرز لانضوائنا في العالم فإن معنى كوننا في العالم لهو معنى وقتي، او آني مرهون بمحدودية وجودنا المتوزع على ابعاد ثلاثة. الماضي والحاضر والمستقبل. وما يصوغ فهم الكينونات الكائنة انما هو ابعاد وجودها الوقتية هذا. بل ان الوقتية لهي الشرط المفارق لان يكون عالم دازاين عالم كينونات ذات معنى. لذا فإن معنى الكون الذي نؤسسه من خلال فهمنا. انما يرسو على اساس البنية الوقتية الكامنة في هذا الفهم.
بيد ان كون دازاين في العالم طبقا لهذه الاوجه من الاكتراث لا يكفي شأن يكون الكون الاصيل المنشود. فهذا محض وجود كل يوم، وهناك بون شاسع ما بينه وبين الوجود الاصيل. فاستغراق المرء في حياة كل يوم قد يفضي الى ذوبان في الغير يصيره جزءا من ذاتهم. وهذا بحسب هايدجر من ابرز مظاهر انعدام الاصالة. ومثل هذا الذوبان انما يحول دون اتخاذ دازاين من نفسه قضية والسعي الى الاصالة لا يكون ما لم يصنع دازاين قضية من ذاته.
حري بالايضاح ان المسافة الفاصلة ما بين الاصالة وانعدامها ليست بتلك المسافة الفاصلة ما بين الشيء ونقيضه. ففي باديء الامر يكون الاستغراق في سبل الغير. اي انعدام الاصالة، ومن ثم يتخذ دازاين من نفسه قضية بغية اكتسابنا بحيث يكون الانتقال الى الاصالة بمثابة تعديل او تلطيف حالة الاستغراق في مسالك الغير وسبل حياتهم.
وما يكبل يدي دازاين عن الشروع بالتعديل المطلوب نشدانا للاصالة لهو القلق. فهذا الاخير انما يجعل الاشياء تفقد اهميتها وجدواها وتجعل المرء اسير الحس بعدم الانتماء الى العالم.غير انه لفي القلق نفسه يعي المرء احتمالاته وامكاناته بمعزل عن تلك التي يرسيها الغير ويكرسونها. وبذا فإن القلق يسهم وان على نحو غير مباشر في ايقان المرء لحقيقة فرديته، اي ان كونه هو كيان حر وانه ما يختاره لنفسه. فالقلق بالمعنى الهايدجرتي يضعك على الحد الفاصل ما بين سبل وطرائق الغير وتأويلاتهم، وما بين ما ينكشف لناظريك من امكانيات واردة وحرية موعودة.
ونحن نتبين فرديتنا من خلال تبيننا ان مشاريعنا وامكانياتنا لا تكتمل الأ بالموت. اي اننا نأخذ المنية بالحسبان كحد للاكتمال الذي لا يمكننا بلوغه ما برحنا احياء. بيد ان ما يحضنا على نشدان الاصالة هو ذلك الوجدان. ذلك الصوات الذي يعلمنا بأن وجودنا في العالم وجود لا تتحقق فيه امكانياتنا ولا نكون فيه ممسكين بزمام مصيرنا لهو وجود يجعلنا مذنبين. وانه لمن المفيد الاضافة ان ما يقوله هايدجر هنا لا يضع المرء. أمام خيارين لا ثالث لهما، اي امامه الغير او ضدهم. فخلافا للوجودية التي قال بها سارتر واتباعه. فإن الاصالة في عرف هايدجر لا تعني التمرد على المجموع او الانعزال عنة. فليس من انعدام الاصالة في شيء ان تكون في العالم مع الغير طالما لم يكن وجودك وجودا بين آخرين.
ولكن كيف يكون مثل هذا الامر؟
قلنا ان دازاين واع وعى القلق على تحقق امكانياته واكتمال ذاته بما يجعله محتسبا امر الموت احتساب المتجه وجهته على الدوام. بيد ان التوجه نحو الموت ليس الوجهة الوحيدة التي يسلكها دازاين، فهناك ايضا وجهة الولادة، اي البداية. فكما ان النزوع الى الموت هو نزوع الى الاكتمال، فإن التوجه نحو الولادة لهو نزوع، الى البدء، الى الإرث الذي يؤول الينا من اسلافنا. ونحن اذ نتجه الى الماضي انما نفعل ذلك بغية استقاء كل ما يفيدنا، وما يكشف امامنا احتمالات كوننا، في سياق المضي نحو المستقبل.
وبما ان ارث البداية ليس حكرا على دازاين وحده، حتى وإن سلك دازاين سبيله الخاص في العودة الى البدء والنهل من ذلك الارث. فإن هذا ما يجعله على ارض واحدة مع من يشاطرونه هذا الارث. وبهذا لا يكون دازاين فردآ متمردا ومنعزلآ عن المجتمع. وانما مع الغير، وتحديدا مع «جيل ” يسعى الى الاصالة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يمكننا ان نستشف من تحليل هايدجر لكون دازاين ما ينم عن ملاح رؤية سياسية او ايولوجية بما بين الواعز الفلسفي لمشايعته الحزب النازي؟
لا مكان لاجابة حاسمة هنا. فمن وجه لا يمكن الزعم بأن حال من الاحوال ان فلسفة هايدجر، انطلاقا من احيائه لسؤال الكون، هي ايديولوجية سياسية مقنعة، ومن وجه آخر فإن في موقف هايدجر من الفلسفة التقليدية، وتحديدا ما يسميه بـ”انطولوجيا الحضور”، وموقفه من التقنية ومن الحداثة عموما ما يدل على ان فلسفته غير بريئة من التزامه بالنازية على ما سنحاول ابانته.
التفكير والتقنية والحداثة
معلوم ان هايدجر يتعلم على نهاية الفلسفة. وما النهاية المعنية الا نهاية ذلك التقليد الذي صير الى إتباعه منذ عهد افلاطون آل الى هيمنة ميتافيزيقيا الحضور على التفكير الفلسفي. فعوضا عن الالتفات الى سؤال الكون، انشغل الفلاسفة بمعرفة ما هناك من جوهر او هيولى او في غيرها مما يبرهن على حقائق راسخة او ثابتة مما هو حاضر. في العالم حضورا يكفل استمرايتها وهويتها.
وان تنتهي الفلسفة هو ان يبدأ التفكير بالمعنى الهايدجري للكلمة. اي التفكير الذي يهدم الصرح الفلسفي القائم ولكن من دون ان يحاول بناء صرح.. آخر بديل له.
فليست الفلسفة بما هي تفكير محاولة لسوق اجابات جديدة لاسئلة قديمة، وليست هي ضرب من التفكير حول شيء ما وانما هي تفكير الشيء المعني. فلا يرمي التفكير الهايدجري بلوغ “الحقيقة ” التي غابت عن انتباه او فطنة الاسلاف، وانما يسعى الى تمهيد ممرات وتنظيف. أخرى في ما قد تم التفكير به.
واذا ما ساورنا ظن بأن هذا ضرب من النشاط الفكري لا طائل تحته، وهو ما قد يوحي به، فإننا نكون في ذلك ابعد ما نكون عن الحقيقة. ويكفي ان ننبه الى ان انعدام الفرض المعين تعيين مسبقا ليس يعني لزاما بأننا سننتهي الى الجري في متاهة. وما افلاح هايدجر في وضع حد لهيمنة ميتافيزيقيا الحضور في الفلسفة الآ احدى النتائج الحاسمة لمشروع تفكير الفلسفة انطلاقا من التساؤل في معنى الكون.
ان التفكير لأمر ملازم للب الكيان الانساني، على ما يجادل هايدغر. ولذا فإن تفشي الطيش ما هو الأ عاقبة منطقية للفرار من التفكير. غير ان الانسان الحديث لا يفر من التفكير فحسب وانما ينكر حقيقة فراره ايضا. ولكن هل من الصواب الزعم بأن الناس في العصر الحديث فارون من التفكير ومنكرون لهذا الفرار ايضا؟ يميز هايدجر ما بين نوعين من التفكير، الاول هو التفكير الحسابي الذي يستوي وفق حسبان شروط محددة بغية التوصل الى نتائج واغراض محددة، وهذا على ما هو مشهود الضرب الرائج من التفكير في الحقول الاكاديمية ومراكز البحوث وغيرها من المؤسسات العاملة في سبيل توفير اكبر قدر ممكن من المعلومات. اما الثاني فهو التفكير التأملي الذي نتيجة الفرار منه يفشي الطيش في عالم الانسان المعاصر، ومن ثم انكار هذا الفرار.
ولئن زعم هايدجر ان التفكير التأملي لهو نشاط ملازم للكيان الانساني، فإنه حتما لا يقصد بأنه نشاط عفوي او تلقائي والأ لما امكن الفرار منه. ذلك ان هذا النحو من التفكير يحتاج الى قسط من الجهد لا يقل في غالب الاحيان عن ذاك الذي يتطلبه التفكير الحسابي. غير انه وخلاف للتفكير الحسابي لا ينهض على اساس من التعليم الطقوسي ولا يتطلب التدرج في مرافق عملية منهجية، فكل امرىء قادر ان يفكر تفكيرا تأمليا في كل ما يعنيه ويشغله. بل ان هذا بالذات ما في وسع الانسان فعله طالما انه كائن مفكر اصلأ. بيد ان التفكير التأملي لا يرمي الى تشييد صروح او ارساء نظم معرفية يصار على هداها الى تكريس حقائق جديدة ومحاور اجماع مختلفة.
وعلى ما يرى هايدجر فإن الطيش كعاقبة من عواقب الفرار من التفكير ليس إلا مظهرا من مظاهر انعدام الاصالة. فالمرء معدوم الاصالة انما هو ذاك الذي يفر من التفكير متوانيا عن تعديل كونه الذائب في طرائق الآخرين متجاهلأ بذلك ما يستوي مامه من امكانيات واحتمالات.
وما القلق الذي يدفعنا الى الفرار من التفكير فيما هو متيسر لنا الأ من عوامل احساس دازاين بأنه ليس على الرحب والسعة في كيانه وحيث يكون. وهذا على ما يجادل الفيلسوف الالماني من اوجه الانقطاع عن البداية، عن الارث وعن التربة الاصلية للمرء. فالفار من وجه التفكير انما هو ذلك المتشرد النازح عن موطنه الاصلي واللاجىء قسرا الى عالم يعجز عن الاحاطة او الإلمام به.
ويزعم الفيلسوف الالماني ان الانقطاع عن الجذور والتشرد لهما من سمات الاقامة في المدينة الحديثة، غير ان ذلك لا يعني بأن هايدجر يدعو الى العودة الى الريف، او الى الطبيعة. وهو ان اعرض طوال حياته عن الاستقرار في المدينة وابدي مقتا شديدا لها فهذا لا يدل على انه كان غافلأ عن حقيقة ان الريف نفسه لم ينج مما ألم بالعصر الحديث برمته من فقدان اصل وجذور. سيان أكان ذلك في المدينة أم في الريف. بل ان اولئك الذين مكثوا في الريف غالب ما اظهروا ميلأ الى نمط من الحياة ينم عن تشرد لا يقل عن تشرد اولئك الذين حملوا على النزوح. فهم بحسب تعبيره مقيدون طوال الوقت الى المذياع او المرياء. فيما تحملهم الأشرطة المصورة الى ملكوت خيالي غير مألوف مانحة إياهم وهم عالم ليس بعالم على الاطلاق.
فالعلة، اذن، كامنة في حقيقة ان الاصل قد أمسى عرضة لخطر “روح العصر”. وما هذا العصر الآ العصر الذري الذي لا تتجسد روحه في الخطر الناجم عن توافر القنبلة (الذرية) فحسب، وانما ايضا، وربما الاهم، في سطوة التقنية الحديثة على حياة البشر سطوة تامة. فالقوة الكامنة في التقنية الحديثة، انما تتحكم بطبيعة العلاقة ما بين بني الانسان وكل موجود آخر.
هل يستخلص من ذلك ان هايدجر كان معاديا للتقنية الحديثة؟ انه كان نوستاليجيأ انفعاليا يندب ماصي مجيدا حين لم يكن للتقنية سلطان على الانسان؟
يرى هايدجر انه لمن الحماقة مهاجمة التقنية هجوما اعمى. فمما لا يمكن انكاره ان التقنية قد امست حاجة لا غنى لنا عنها. والمشكلة انما هي في قصورنا عن الانتقال الى هذا العصر الجديد وعجزنا عن تأمل ما هو قيض الحدوث فيه. اذ لا يبدو ان ثمة من هو كفؤ للامساك بدفة التقدم في هذا العصر الذري. (النازية وحدها، على ما سيصرح الفيلسوف، بعد عقود على سوق هذه المحاججة، كانت سائرة في الطريق القويم، غير انها سرعان ما زاغت.)
غير ان رؤية كهذه لا تفضي بالفيلسوف الى التسليم التأم بالعجز. فالأمل قائم ما قامت امكانية التفكير التأملي، تفكيرا فيما جرى وما يمكن ان يجري خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بالتقنية من حيث انه يفترض تجاور ما يصعب تجاوره، اي الرفض والقبول معا. اي بأن نقبل التقنية من وجه ونرفضها او ننبذها من وجه آخر. فمهمة التفكير التأملي والحالة هذه ضمان استخدام التدابير التقنية وفق ما يتطلب الحال، وفي الوقت نفسه تركها وشأنها كأشياء لا تؤثر على دواخلنا. وهذا “مسلك ” يسميه هايدجر بـ”الانطلاق نحو الاشياء” بحيث ندخل التقنية الى حياتنا اليومية شريطة ان نتركها على حدة كأشياء غير ذات وجود مطلق وانما كوجود يعتمد على ما هو ارقي منه طبيعة. وعلى هذا فإن العلاقة بالتقنية لا تعود محض علاقة غامضة المعنى او معدومته.
وتبعا لهايدجر فإن في كافة العمليات التقنية معنى ليس من صنيعنا رغم انه يفترض ما يصنعه الانسان او يمسك عن صنعه. وان هذا المعنى الذي يخاط التقنية انما يخفي نفسه عنا. غير اننا اذا ما تنبهنا له تنبها متواصلأ لاستجلينا حقيقته المستترة ولا دركنا انه يلازمنا في كل مكان من عالم التقنية، ولأمكنا الوقوف في ملكوت ذلك الذي يخفي نفسه عنا لحظة الدنو منه. وما ذاك الشيء الذي يظهر نفسه لنا ويخفيها في آن معا الأ ما ينم عن الفصال الجوهرية لما نسميه باللغز. والمسلك الآخر الذي يقيض لنا الانفتاح على المستتر في التقنية، انما هو بحسب عبارة هايدجر “الانفتاح على اللغز”.
وعلى ما يخلص الفيلسوف الالماني فإن الانطلاق نحو الاشياء والانفتاح على اللفن هما مسلكان يهباننا امكانية الاقامة في العالم على وجه مختلف. فهما يعداننا بأرض واساس جديدين حيث تتاح لنا الاقامة والدوام في عالم التقنية من دون ان يتهددنا خطر الفناء بواسطتها. فهما يمنحاننا رؤية الى اصل جديد قد تكون ملائمة في يوم ما لإعادة الامساك بذلك الاصل القديم. الآخذ بالتلاشي، وان كان امساكا به على شكل مختلف.
ومجمل العبارة ان التفكير التأملي وليس الفلسفة على وجوهها المعهودة، ما يمكن ان يحرر بني الانسان من سطوة التقنية على وجودهم. فالفلسفة في سعيها الدؤوب الى اثبات منفعتها إنما تبدو وكأنها تستوي وفق منطق التقنية نفسها، اي انها بذلك اقرب الى التفكير الحسابي منها الى التفكير التأملي.
ويذهب هايدجر الى حد اعتبار التقنية بمثابة الاعراب العملي عن اكتمال “الميتافيزيقيا الذاتية “، اي تلك الميتافيزيقيا التي جعلت الذات مركز الكون ومصدر المعرفة والمقياس العقلاني لكل ما هو حقيقي او واقعي. فمنذ ديكارت شاع الظن بأن العالم قابل للرضوخ لمشيئة الانسان، وان ثمة لا حدود تحد الارادة الانسانية اذا ما شاءت فرض سلطانها على الوجود. ولقد نظر الى التقنية كمحض وسيلة لتسخير الطبيعة لمشيئة هذا الارادة. وبهذا المعنى فإن التقنية في استوائها وفق الفصل ما بين الذات والموضوع، وفي نزوعها الى الهيمنة على كل ما هناك انما هي العاقبة الأجلى للحداثة الفكرية والسياسية المتنامية للسؤال الاساسي الذي انبرى هايدجر منذ البداية الى احيائه: ” ما معنى ان تكون؟”
ولا شك في ان رؤية الى الحداثة كهذه انما تنم عن نقد صارم لها، فهل يمكن الخلوص الى ان هايدجر كان معاديا عداء صريحا للحداثة:؟
إن لفي ادانة هايدجر لحياة المدينة وندبه لما آلت اليه الحياة في الريف بفعل الافساد الذي اعملته فيه تقنية الاتصالات، فضلأ عن تشديده على مصطلحات مثل “التربة” و” الدم “، و” الجماعة ” و”الامة ” وغير ذلك من مصطلحات ما يجيز القول ان الفيلسوف الالماني لهو سليل تيار عريق في المانيا عرف بعدائه لفلسفة الانوار، او للحداثة، وتبلور على نحو خاص من خلال اطروحات الفيلسوفين الكبيرين جورج هامان وغوتليب هردر ثم ما فتىء، ان انتعش عن وجه هستيري في كتابات فرديناند تونيس واوزوالد اشبنغلر نهاية القرن الماضي ومطلع هذا القرن المنصرم. وكان هذان الأخيران حذرا وبالغا في التحذير من مغبة غلبة حياة المدينة على حياة الريف، وغلبة شكل المجتمع على شكل الجماعة والدولة على القيادة الوراثية التقليدية مما رأيا فيه انذارا بإنهيار بل بكارثة محققة.
فأن يستعاض عن القرية بالمدينة فإن ذلك مفض الى تشتت شمل الجماعة وانقطاع اوامر علاقاتها القائمة على صلة الدم والقرابة وتبدد ثقافتها التي توحدها وتمنحها هويتها المتمايزة عن هوية الجماعات الاخري. فبخلاف الريف موطن الجماعة الاصلي يتجمع في المدينة مجتمع هو بمثابة جسم مصطنع، او غير طبيعي، ينهض استجابة لعقد تسوغه المصالح العامة المشتركة وللتطور الاجتماعي الحديث. على هذا تكون حياة المدينة معدومة الروح طالما انها محكومة بالرأي العام ورهينة التفكير الحسابي ووسائل الاعلام ذات النزوع الكوزموبوليتاني الذي لا يقر بهوية او ثقافة متمايزة. وعلى ما يميز الكاتبان الالمانيان، فإنه في حين ترمز الثقافة الى ما هو طبيعي وتقليدي من انماط المعاش والتنظيم المجتمعي والى ما يتسم بالآصرة العميقة مع الارض والعائلة والجماعة الدينية والريفية، ترمز الحضارة الى المدينة والرأسمالية وجني المال والفائدة والنزوع الثقافي الكوزموبوليتاني مجرد الولاء لاية جماعة او امة.
وانه لعلى مدى الاستنارة بإطروحات كهذه يخامر هايدجر الشك في ان تكون اشكال السياسة الحديثة، سواء اتبعت سبل التعددية الليبرالية والديمقراطية ام جنحت نحو الاستبداد والكلانية، مؤهلة لمواجهة خطر التقنية الحديثة. بل وحتى اواخر ايامه تشبث الفيلسوف الالماني برأيه ان لا الديمقراطية الغربية ولا الشيوعية قادرتان على قهر سلطان التقنية، وان النظام السياسي الوحيد الذي كان مؤهلآ للقيام بهذه المهمة هو النظام النازي.
وعلى ما يجادل الكاتبان الفرنسيان لوك فيري وآلن رينوا فإن تعويل هايدجر على النازية في التعاطي تعاطيا ملائما مع ظاهرة التقنية الجامحة انما مرده ان النازية نفسها لهي انجاز حداثي وفي الوقت نفسه الرد المأمول على دعاوي الحداثة وتبعاتها.
فبينما تعجز النظم الديمقراطية عن التكيف مع مطالب الوجه العملي لإكتمال الحداثة، اي من خلال التقنية، فإن النازية تتمتع بقسط من العظمة الاساسية ما يخولها تبين هذه المطالب والاستجابة اليها. والديمقراطية من حيث انها مثال سياسي يقوم على فكرة الفردية المستقلة والادارة الذاتية تنتمي منطقيا الى الحداثة، غيران موقعها في الحداثة مقارنة مع موقع النازية اشبه بموقع فلسفة كانط، القائلة بإستقلال الارادة الانسانية، مقارنة مع فلسفة نيتشه المنادية بإرادة القوة. فما الأولى الآ طور تخضيري يمهد السبيل لظهور الثانية بما يملي ضرورة تجاوز الديمقراطية الى نظام سياسي اكفأ في الاستجابة لمتطلبات الحداثة. فالحداثة السياسية في نزوعها الى تجاوز الديمقراطية انما تنزع الى تجاوز ذاتها الى ما يستوفي امكانياتها وطموحاتها، وهو ما لا تلقاه الأ في النازية التي تكون في مثل هذه الحال بمثابة سياسة “ما بعد الحداثة “. وعلى هذا الوجه تكون النازية نتاج الحداثة.
غير ان النازية، من وجه آخر، لهي وحدها القادرة على ان تكون الرد الصارم على الحداثة، ومن تم درء اخطارها في تجليها العملي، التقنية. وفي هذه المرة يصار ابطال الديمقراطية، لا لعجزها عن الاستجابة لشروط الحداثة، وانما لانها تنشأ عن المفهوم والمنطق نفسيهما اللذين تنشأ عنهما التقنية الحديثة. اما النازية، فهي من حيث انها متجاوزة لمفهوم ومنطق الحداثة، فإنها لتمسي وحدها الكفيلة بالحيلولة دون الرضوخ لسطوة التقنية رضوخا تاما.
ويرد الكاتبان الفرنسيان هذا الالتباس الذي يشوب تقدير هايدغر لموقع النازية حيال الحداثة الى التباس يكمن في عمق اطروحته الفلسفية المتمثلة في كتابه “الكون والزمان “.
وتبعا لما يرى هايدجر، فإن هيمنة التقنية ليست عاقبة ضلال او سوء تدبير، وانما مرجعها جذور التاريخ حيث حدث نسيان الكون الاول. وهذا النسيان ما هو في الحقيقة الا من قبيل “انسحاب الكون”، بما يعني ان الكون أمسى نسيانا لذاته. وانه بالنتيجة صار نسيانا وانسحابا، يخلفان الانسان امام محض صلة بحضور الكائنات الميسورة لسلطانه. ومن هذا يستدل بأن كلتا الميتافيزيقيا والتقنية، من حيث ان الأولى نسيان للكون في سبيل اختزال الكائنات الى محض موضوع لذات، وان الثانية بما هي عملية تحويل غير محدود بغرض الاستهلاك. يمكن ان تعتبر بمثابة انسحاب الكون، او الكون كإنسحاب، بما يجيز الخلوص بأن كلتيهما اساس الكون نفسه.
ورغم ان هايدجر لا يعتبر السيطرة التقنية، من حيث انها اكتمال الحداثة، وبما يفضي الى النسيان، بمثابة نقيصة من نقائص بني الانسان، الا انه ليرى ان نسيان الكون هذا لهو العائق امام تحقيق المرء لماهيقه تحقيقا تاما. فالميتافيزيقيا عقبة كأداء امام انضواء المرء في الكون، وبالتالي تحقيق المرء لماهيته. فهي بما انها ضرب من الانطولوجيا الذي يطرح سؤال الكون قاصدا كل كائن على حدة، او سائر الكائنات مجتمعة، فإنها تحيلنا الى الكون بإعتباره الكائنات الكائنة. وما هذا الا بالالتباس تكون حصيلته ان نسيان الكون يمضي من دون ان يعار أدنى انتباه. فيقع النسيان في التناسي، بينما يبقى هجران الكون للانسان مطمورا. والنتيجة نسيان ما ينبغى تذكره (اي بأن نتذكر اننا قد نسينا او تناسينا الكون) نسيانا مضاعفا طالما ان التفكير في الكون لهو بحسب هايدجر تفكير في نسيان الكون كانسحاب بما يشي بأن هذا النسيان لهو في موضع الملاحظة والجدل، وعلى هذا يكون تاريخ الكون تاريخا مزدوجا.
واذ يرى هايدجر من جانب آخر، ان الانسان قادر على تجاوز هذه العقبة فإننا نلفى انفسنا حيال التباس. ومصدر الالتباس في تعيينه لموقع النازية ازاء الحداثة، فبعدما يتبدى ان النسيان مصير، اي امر تاريخي، يتبين أن لا تناسي النسيان ولا تذكره بواقعتين تاريخيتين، وانهما اقرب الى كونهما صنيعة البشر، طالما ان امر مقاومة التقنية، او الاستسلام اليها لهو متوقف عليهم.
وانه ليصير جائزا القول، على ما يجادل الكاتبان المذكوران، ان مشايعة هايدجر للنازية. انما هي مستمدة من فلسفة تنطوي علو دعوة الى ما بعد الحداثة، وفي الوقت نفسه كدعوة الى معاداة الحداثة نفسها. فبما الا مفر من اكتمال الحداثة على وجهها التقني، فثمة حاجة الى نظام سياسي يكفل الشروط التي تتيح التطور التقني، والنازية لهي النظام الذي يكفل امرا كهذا.
وبما ان اكتمال الحداثة، من وجه آخر، لهو عقبة امام تحقق الذات، فإن ثمة ما يدعو الى ارساء اساس ذاتي لمصيرنا بما يمكن ظهور ارادة تستخدم شروط التذكر (العودة الى الماضي) لمناوأة النزوع التقني الى جعل النسيان امرأ ثابتا. ومن ثم فإن القضية لا تعود مجرد تحقيق الحداثة وانما ايضا تدمير كل ما من شأنه اعاقة سبيل الفكر كذاكرة الكون. وبهذا فإن عداء النازية للحداثة يكون عاملآ لا غنى عنه في الفعل المأمول.
التاريخ والسياسة
قلنا ان السؤال الرئيسي الذي انبرى له هايدجر هو سؤال الكون المنسي، وان كافة الاسئلة الاخري لم تكن عنده سوى ما يشتق ويتفرع عن ذلك السؤال. ولهذا فلقد كان من الطبيعي الأ يقدم الفيلسوف الالماني نفسه كفيلسوف سياسي بقدر ما كان من الطبيعي الأ يظهر بمظهر الفيلسوف الاخلاقي او العلمي او الجمالي. فمفاهيم مثل السياسة والاخلاق وعلم الجمال والعلم ما كانت لتدخل في نطاق مشروعه الأ كموضوع تدمير او تفكيك.
غير ان هذا، على ما بسطنا القول، لا يبرر موقف هايدجر السياسي المفرط في صراحته بإعتباره محض موقف عابر، او هفوة لبيب لم تسعفه فلسفته في تداركها. وعلى ما رأينا فقد تطلع هايدجر الى النازية بمثابة الامل الوحيد للانعتاق من سطوة التقنية الحديثة، وان هذا التطلع انما ينبثق من عمق تصوراته الفلسفية فيما يتعلق بالسؤال الاساسي، على الاقل فيما يجادل لون فري وآلن رينوا.
حري بالملاحظة ان إرجاء السؤال السياسي، او إلحاقه بالسؤال الفلسفي، ما هو الأ انكار استقلالية هذا السؤال استقلال الواقع السياسي نفسه واستوائه وفق شروط ومعايير خاصة. وهذا بحد ذاته انما ينم عن موقف سياسي لا يختلف في منطقه عن موقف من يدعو الى إلحاق السياسة بالاخلاق او بالدين او بالاقتصاد. بل ويحق القول انه ما سوغ انضواء هايدجر في الحزب النازي. وعلى ما يذهب صاحب كتاب “هايدجر والسياسة “، فإنه بسبب افتراضه الفلسفي المسبق زين الفيلسوف لذات نفسه النازية كصاحبة مهمة تاريخية لم تكن في الحقيقة مهمتعا، ومن ثم فإنه لم يكن في وسعه الا ان يرى ما لم يكن هناك منذ البدء.
ولكن ما الذي اعمى بصيرة مفكر بحجم هذا الفيلسوف الالماني الكبير عن حقيقة النازيا، حتى بعد اندحار هذه الاخيرة ونهاية الحرب؟
المحقق ان هايدجر كان كارها للسياسة بوجهها العلماني. وهذا عداء لم يكن نادرا بين مثقفي جمهورية فيمار الذين خبروا هشاشة مفهوم السياسة متجسدا بدولة ذات مؤسسات وهيئات تمثل وترعى مصالح قطاعات وطوائف اجتماعية مختلفة. وهم ايضا لم يرقهم ذلك الفصل ما بين ما هو سياسي وما هو اخلاقي او ما بين المدار العام والمدار الخاص.
وبالنسبة لهايدجر على وجه خاص فإن مثل هذه السياسة المتجلية أنصع تجل في النظم الديمقراطية الحربية، انما تسهم في احكام سيطرة التقنية وتجرد بني الانسان من جوهرهم الداخلي. وحيث ان الفيلسوف الالماني قد راهن على النازية لدرء خطر كهذا فلقد أمل بأن يلعب دور المرشد الهادي للحركة النازية الى السيبل المؤدي الى الانعتاق من تبعات الحداثة وخاصة التقنية.
فعلى رغم ما اظهره هايدجر من تعصب ألماني، الأ انه لم يكن عنصريا عنصرية الحركة النازية نفسها. فهو لم يأخذ بالدعاوى البيولوجية التحليل التي اخذ بها النازيون والتي ترى ان البشر كاعراق منها ما هو ارقي ومنها ما هو ادني. بل ان الفيلسوف سعى الى دفع الحركة بيدا عن مثل هذه النظريات الطبيعية البذيئة مشددا على ما هو روحي النازع فيما تمثله، او حسب ان النازية تمثله وقيما تصبو اليه. ومن ثم فلقد امل بأن يلعب دور الفيلسوف المرشد لفكر من اعتقد بأنهم قيد العمل على التخلص من السياسة جملة وتفصيلأ والاستعاضة عنها بنشاط عام روحي الطابع او تأملي يحيي ويصون الجوهر الانساني.
غير آنه سرعان ما خاب رجاؤه. فاصطدم مفهوم هايدجر وامله بالواقع الفعلي للنازية. ولئن اخفق في اداء الدور الذي عول على ادائه، اي دور “الفيلسوف المرشد”. فإن هذا الاخفاق لم يقده الى تطوير موقف معارض وانما الى الانسحاب من السياسة انسحابا تاما.
على ان هناك من يرى بأن اخفاق هايدجر العملي لا يرجع الى إلغائه السياسة او إلحاقها بالفلسفة وانما الى فشله في اقامة صلة ما بين الحقيقة والعالم العمومي. فتجادل حنة ارندت بأن هايدجر افلح من خلال مفهومه للعالم تجاوز العائق المعهود ما بين الفلسفة والسياسة من حيث ان الأولى تتعامل مع الانسان الفرد، او المجرد، في حين انه لا وجود ممكنا للسياسة الأ بالوجود الجمعي للبشر. فبما ان هايدجر يعرف الوجود الانساني ككون في العالم فلقد اصر على ان يهب دلالة فلسفية الى بنية الحياة اليومية. وهي البنية التي لا يمكن الاحاطة بها اذا لم يصر الى فهمها ككون مشترك او كون مع الآخرين.
وهذا كلام صائب خاصة اذا ما تذكرنا ان هايدجر يفترق عمن سبقه من الفلاسفة من حيث محاولته اطلاق الفلسفة من اسر النظرية، وفتح مصراعي بابها على التجربة المعاشة. ولكن هل في ذلك ما يكفي ليستقيم الزعم بأن هايدجر افسح حيزا مستقلأ للسياسة؟
لا تغفل ارندت عن حقيقة غياب اي نظر سياسي في تفكير هايدجر على الرغم من عنايته بالوجود الانساني في نطاق “العالم العام “. بل انها لترى في هذا الغياب تفسيرا لانضواء الفيلسوف في الحزب النازي. والحق فإن مفهوم هايدجر للجمهور. للغير او للهم، بحسب عبارته، ليس ما ينم عما هو اصيل او ما يسهم في بلوغ هذه الاصالة او حتى نشدانها. فالعامة، بحسب تقديرا، لتجعل الامور مبهمة. اما ما قد تم كشفه. او انكشافه، فإنها لتمرره وكأنه شيء مألوف وميسور لكل واحد. والعامة تجعل الامور مبهمة لانها تستعيض في عالمها عن الوقت الاصيل،اي البنية الوقتية لكيان الكائن ذات الابعاد الثلاثة، اي الماضي والحاضر والمستقبل، بزمن الكافة، اي بلحظة الآن. وعلى ذلك لا يعود في وسع دازاين تبين محدودية وجوده طبقا للبنية الوقتية لكيانه. وليس الاستعاضة عن الوقت المحدد لدازاين بزمن الكافة الأ من وجوه شمولية العالم العمومي المنفتح على كل واحد في اي وقت كان.
وهذا اذا ما برر امرأ فإنه ليبرر زعم الصلاحية الكونية لمعيار الحقيقة الذي يعمل هايدجر على نقده اصلا. فهذا هو معيار التقليد الفلسفي الذي صير ويصار من خلاله الى السيطرة على التأويل العام للعالم ولزمن العالم. ومثل هذا التأويل لهو في الحقيقة مظهر من مظاهر ذوبان دازاين في الغير، ومن ثم فهو وجه من وجوه انعدام الاصالة، بما يوضح مرد عداء هايدجر للعالم العمومي. وبما ان العالم العمومي شكل من الوجود معدوم الاصالة، فإن عداء السياسة من خلال العمل على اسقاطها او استبعادها يكون امرأ موروثا في فلسفته، او على حد نقد ارندت نفسها فإننا لنعثر على عداء الفيلسوف القديم للمدينة في تحليل هايدجر لحياة كل يوم في سياق الغير، او الهم، او الرأي العام، كأمر مضاد للذات، وحيث تكون وظيفة المدير العام اخفاء الواقع والحيلولة دون ظهور الحقيقة.
فآرندت التي تدين الى الفيلسوف الألماني دوره في نقد التقليد الفلسفي القائل منذ افلاطون بأزلية الحقيقة ومفارقتها للعالم، اي لتجربة حياة كل يوم، لا تني تبين عجز هايدجر على تجاوز ذلك السعي التقليدي الجذور للفصل ما بين الحقيقة الفلسفية والمدينة ومن ثم العجز عن تعريف الحقيقة تعريفا لا ينال من اصالتها وفي الوقت نفسه ينظر اليها كحقيقة راسخة الجذور في العالم العام نفسه.
وما هذا في الحقيقة الأ مصدر من مصادر اخفاق هايدجر الفلسفي في فهم السياسة بما نجم عن مشايعته للنازية ومن ثم انسحابه من السياسة. اما المصدر الهام الآخر، فإننا لنعثر عليه في مفهومه للتاريخ، فضلأ على تحليله للوتيرة الوقتية لدازاين.
وكنا قد اشرنا في البداية الى ان اكتمال دازاين لا يكون الأ بالموت بما يفسر اندفاعه الدائم نحو النهاية. غير ان هذه ليست الوجهة الوحيدة التي يتخذها في سبيل تمامه وتحققه الشامل، وانما هناك ايضا التوجه نحو البداية، اي الى ميلاده. وما الصلة التي تصل هذين الطرفين الأ ما يدل على ان دازاين لهو ذو تاريخ شخصي. بل انه كيان تاريخي اساسا. وعلى هذا فإن دراسة تاريخية دازاين عند هايدجر ليست محض تقص معرفي (ابستمولوجي) وانما هي بالاصل مسألة انطولوجية.فبما ان دازاين هو اكتراث يقوم على بنية وقتية فإنه لمن الطبيعي ان يصار الى استقاء ما هو تاريخي من هذه البنية الوقتية بالذات، اي ان التاريخ لا يكون حوادث عامة منفصلة عن كيان دازاين.
ان ظاهرة التاريخ لتستمد من قدرة دازاين على مواجهة الموت اخذا بكون الموت هو الامكانية الاشد خصوصية، والتي لا يمكن بأي حال تجاوزها. وبذا فإن دازاين يواجه نفسه على وجه مستقل عما هو عليه الامر حينما يكون مع الآخرين. فهو يفهم نفسه، بما هو كيان ملقى ضد نهاية محددة، ومنطرح في الوقت نفسه في العالم، من خلال ما يسميه هايدجر بحالة “ثبات العزيمة الاستباقية “. وهذه الحالة انما هي من مكونات بنية دازاين الوقتية، وهي تنشأ عن نشد انه الاصالة. وإنه لمن خلال هذه الحالة بالذات تنكشف نفس دازاين له. بل ان هذا هو السبيل الذي يسلكه دازاين عائدا الى نفسه عودة الى موقعه الاصيل ومنعتقا من ذلك التشتت الذي يلفى نفسه فيه ككائن منطرح في حياة كل يوم.
غير ان استرجاع دازاين لنفسه على هذه الوتيرة ئة يفضي الى انقطاع عن العالم والركون الى عالم من السكون الداخلي. فما هذا الرجعة الأ حركة انكشاف يواجه دازاين من خلالها حقيقة وجوده وحقيقة ماهيته الأولية. ففي حركة كهذه يكتشف دازاين الامكانيات الفعلية الاصيلة التي يتكون منها تراثه. وهكذا فعلى اساس استباق دازاين لموته، فإنه ليتسلم، او ليرث، الامكانيات التي تخصه منذ البدء. فأن يمنح دازاين نفسه لنفسه، فإنه بذلك يهب نفسه ما يخصه، اي تراثه بما هو حصيلة ثبات العزيمة الاستباقية المسيطر.
وان لفي وسع المرء اختيار ارثه على ما يستبان من حرية الفاعل المطلقة في صوغ معنى وضعه الموضوعي. واختيار المرء لارثه اشبه الشيء بإختياره لقدره. وعلى ما يستشف من استخدام هامد جر لمصطلح قدر، فإن هذا لا يختلف اختلافا كبيرا عن معناه المتداول. ذلك ان القدر بحسب هايدجر مقيد الى الوضع التاريخي الذي يرثه المرء. غير ان كيفية فهم البشر لانفسهم لهي عامل اساسي في تعيين وضعهم. لذلك فإن تغييرا في فهمهم لوضعهم لهو من قبيل التغيير في وضعهم نفسه. فإذا ما ظن الناس بأن لا امل يرجى من وضعهم التاريخي، فإن هذا الفهم سيقودهم على الارجح الى التسليم بعدم جدوى، او امكانية الفعل لانعدام الايمان بإمكانية الفعل الايجابي. فأن يكون المرء ذا قدر انما يفترض امكانية الايمان بأن الوضع التاريخي مكون على وجه خاص ومحدد بشكل يملي سياقا من الفعل الملموس. بكلمات أخرى قليلة، ان تختار قدرا هو ان تؤمن بأن الوضع التاريخي مكون على شكل خاص. وان تعزم على ان تحيا تبعا لما تقتضيه تبعات ذلك الايمان.
وبما ان تاريخية هايدجر لهي تاريخية انطولوجية وليست معرفية، لذلك فهي محاولة للالتزام بالمشروع الانطولوجي الاصولي الرامي الى السمو على النزعة الذاتية والانزلاق الى هوة النسبية والعدمية. وبما ان القدر متوائم مع المصير. ولان رؤية الفرد الى قدره هي رؤية الى حال يتضمن مصير الجماعة. فإن معانيه لا تستبعد او تستثني الجماعة، وانما هي تكون شخصية وجماعية في آن معا.
ويتكلم ها يدغر في هذا النطاق على “اختيار البطل ” كأمر مشروط بإمكانية استعادة معان من الماضي، وكتكرار لهذا المعاني الماضية. فحيث ان الانسان ذو ماض، فإن هذا يعني بأن ما هو قائم منذ بعض الوقت ليحكم ما يكون، وان هذا الماضي لهو مظهر اساسي لما يكون ولما سيكون ايضا. وعلى هذا فان التفكير في ما هو تاريخي لا يقتصر فقط على علاقة الماضي بالماضي او علاقة الماضي بالحاضر وانما ايضا العلاقة الاساسية بالحاضر والمستقبل. فأن تفكر تفكيرا تاريخيا هو ان تفكر في الوحدة الاساسية للماضي والحاضر والمستقبل في كيان المرء.
الى ذلك فإن ما هو تاريخي عند هايدجر انما هو ما يبين بأن الاوثق صلة بالمرء، او ما هو خاصته، انما هو الماضي والمستقبل في ترابطهما الوثيق وتداخلهما مع مستقبل الكائنات الانسانية الاخري.
ان التاريخ لقدر على ما يرى هايدجر. واذ يفلح دازاين القدري والتاريخي ان يصنع مصيره بنفسه فإن في وسعه ان يكون حرا في تاريخه بما هو الصلة التي تصل ولادته بموته، وماضيه بمستقبله، وان يكتسب بالتالي تقليده وارثه. وحيث ان دازاين في العالم، فإن هذا ما يدل على ان قدره قدر مشترك وتاريخه تاريخ مشترك. وان الحدوث التاريخي، على ما يمضي هايدجر، لهو حدوث تاريخي مشترك مقدر له كقدر جمعي. وانه لعلى هذا الوجه يصار الى تعيين الحدوث التاريخي لجماعة ما او لشعب او امة، اي مصير هذه الجماعة.
وليس المصير هنا هو بذاك الذي يستجمع شتات ذاته من خلال استجماع اقدار الافراد تماما كما ان كيان الواحد و الآخر لا يمكن ان يعتبر بمثابة كيان ذوات متعددة مع بعضها البعض. ان مصير دازاين لهو في جيله ومعه حيث يمضي في سبيل الحدوث التاريخي التام والقويم. وانه لمن خلال التواصل والكفاح ليمسي سلطان المصير حرا.
ان يكون دازاين مع الآخرين كونا مصيره، فهذا هو نفسه كون الجماعة او الامة. وانما تعرف الجماعة في سياق مصيرها او ما يسم ويتصل بهذا المصير.
اما بالنسبة لبلوغ الجماعة الحرية من خلال التواصل والكفاح، فإن في هذا ما يدل على ان الجماعة او الشعب ليسوا بمعطى سابق، او ليسوا بمن هم هناك (اي ليسوا الغير او الهم الذين يكون ذوبان دازاين في طرائقهم وسبلهم من قبيل انعدام الاصالة) وانما هم يتألفون ويتشكلون من خلال ما يتخذون من قرارات وما يظهرون من جهد عزيمتهم المشتركة.
وانه لعلى هدى تأويل هايدجر للتاريخ تأويلا مصيريا يصار الى الخلوص ان ما هو سياسي ليس بهيئة من الافراد الاحرار يربطهم عقد يكفل مصالحهم المشتركة، اي بمثابة الوجه العلماني للسياسة، وانما كجماعة تكتسب هويتها من خلال عزمها المشترك على امكانيات معينة. وان عزيمتها لهي موضوع التواصل والكفاح، اي سبيلي انعتاق التاريخ كسلطان القدر المشترك. وما يمكن ايصاله هو ما يمكن مشاطرته، ما يتبم من خلال هذه المشاركة وما ينجم عنها. وبهذا فإنها في نهاية التحليل تكون موضوع الكفاح ايضا. فالكفاح يتمثل مبدئيا في تلك المواجهة ما بين قدر دازاين ووجوده المحدود وقلقه وصوت ضميره وذنبه. ان الكفاح لفعل واقع وعلاقة الى شيء ما. ويكون الكفاح من قبيل الوجود ذي العزم في علاقة مع الزمن والتاريخ، او على ما يعبر هايدجر، فإن ثبات العزيمة الاستباقية، اذ تعود الى نفسها وتتسلمها تصبح امكانية تكرار امكانية الوجود الذي انتقلت اليها. وما الاعادة هنا الا من قبيل التسلم الصريح، بما يعني العودة الى امكانيات دازاين التي تكون هناك. اما التكرار الاصيل لامكانيا الوجود التي هي هناك، اي امكانية اختيار دازاين بطله، اي ان يتبع الواحد واحدا آخر، انما تستقر استقرارا وجوديا على ثبات العزيمة الاستباقية. ذلك انه لفي ثبات العزيمة هذه يختار المرء الخيار الذي يجعله حرا لسلك سبيل ذلك الكفاح الذي يمكن استعادته والاخلاص له.
ان تستعيد امرأ عند هايدجر هو ان تعتبره شيئا جديدا. ولكن المرء انما يقيض له ذلك اذا ما صير الى نقل ذلك الشيء، او انتقاله، على وجه يمكن ادعاؤه. ولهذا السبب فإن التراث لهو عملية تناقل تسوغها الطبيعة التاريخية لدازاين نفسه. اي من خلال حقيقة ان في وسع دازاين ان يؤوب الى ما هو كائن، الى ما يخصع من ماض وتاريخ وإرث. وعلى قاعدة انطراحه نحو المستقبل، اي على اساس الظاهرة الوجودية الانطولوجية للعزيمة الاستباقية. وانه فقط على قاعدة الانطراح او الارتماء الذاتي الوقتي لدازاين يكون التراث ممكنا. وامكانية التقليد لهي نفسها تتسم بعملية تكرار غير مألوفة حيث يعود دازاين، على اساس مستقبله الخاص. الى حال معطى ولكن شريطة ان يكون هذا الحال منكشفا بطريقة جديدة ومعلنا عنه بإمكانية تاريخية متفردة.
انه لمن الغلو الظن ان هايدجر وجد في النازية ما ينطبق عليه هذا التحليل للتاريخ والسياسة، بيد ان تشديدا على “القدر المشترك ” و” التاريخ المشترك “، على “استعادة الماضي” و” استعادة التراث “، على “المصير” و”التاريخ المصيري للجماعة ” وعلى “اختيار البطل ” لفيها من الاشارات ما يشي بطبيعة السياسة التي كان هايدجر مؤهلا لاعتناقها، سياسة بدت النازية لوقت غير قصير قادرة على تجسيدها الآ انها، وبحسب الفيلسوف الالماني، سرعان ما ضلت السبيل، مما أفضى به الى اعتزال السياسة منطويا على نفسه ربما أملا في ظهور حركة تفي الشروط المطلوبة.
كتبت هذه المقالة استنادا الى المراجع والمصادر، الانجليزية، التالية:
– مارتن هايدجر:
1) الكون والزمان: المقدمة والفصل الاول والثاني والسادس من الجزء الاول، والفصل الخامس من الجزء الثاني.
2) مقالة في التفكير.
3) كتابات اساسية: تحديدا، نهاية الفلسفة ومهمة التفكير. والسؤال المتعلق بالتقنية.
– تشارلز غيفون (محررا): مرافق كامبردج لهايدجر، تحديدا. المقدمة ومقالة دورثيا فردي، ومقالة توماس شيهان.
– جوناثان راي: هايدجر، الحقيقة والتاريخ.
– لوك فراي وآلن رينوا: هايدجروالحداثة.
– ميغيل دي بيستغيوي: هايدجر والسياسة.
– حنة آرندت:
1) هايدجر في الثمانين.
2) التفكير والاعتبارات الاخلاقية.
3) اهتمام بالسياسة في التفكير الفلسفي الاوروبي الحديث.