قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “…ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها فهجرته الى ماهاجر اليه  …”

 

مصطفى المتوكل

تارودانت 5 نونبر 2013

عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امريء مانوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ) رواه البخاري ومسلم في صحيحهما …

ان دروس الهجرة النبوية من مكة الى المدينة وملابساتها وما نجم عنها امر يعلمه اغلب الناس في عمومياته بالاستناذ الى المرويات المتوارثة التي تصف كيف استقبلت قريش واهل مكة والعرب الدين الجديد والمعاناة والمضايقات التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم والجيل الاول من المسلمين ……….

وفي مقالتنا هاته سنقرا دلالات الهجرة التي لايمكن حصرها في زمن النبوة …لانها فلسفة ومنهج فكري ومادي واجتماعي  نفسي وروحي يقوم عليها تطور الانسان ويعتمدها بادراك منه او بدونه ….

 فالهجرة  تعني ترك الشيئ الى شيئ اخر  او الانتقال من حالة الى اخرى أو الانتقال من مكان إلى آخر…

و الانتقال دائما ونخص بالذكر  عصرنا هذا  يتطلب ثلاثة عناصر أساسية و هي أولا: الوعي والمعرفة بالواقع ايجابا وسلبا … ثانيا: الارادة والقدرة على اتخاذ وتنفيذ القرار الملائم …، ثالثا: التصحيح او  التغيير والقطع مع مرحلة ما قبل الهجرة ودواعيها … لهذا نجد أن تعريف الهجرة بمفهومها  الفلسفي العام لايستقيم ان كانت عملا  او اجراءا سياسويا وانتهازيا لمواجهة واقع فاسد ومختل او يحتاج الى تصحيح …وستصبح هروبا وتهربا ونفاقا وتلاعبا بالغير كان فردا اوجماعة او امة …

فالنبي صلى الله عليه وسلم امر مجموعة من المسلمين بالهجرة  من مكة  إلى بلاد الحبشة؟  -والتي هي ارض مسيحية بملكها الذي  لايظلم عنده احدكما قال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام – ليس فقط فراراً من أذى الكفار، ومن شدة بطشهم بل هي حملة تواصلية  وسياسة  للتعريف بالدين الجديد الذي يصدر مع المسيحبة من منبع واحد كما قال حاكم  الحبشة انذاك …
و الهجرة الثانية كانت إلى المدينة المنورة والتي كانت تسكنها قبائل يهودبة كبيرة( بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير )الذين هاجروا من الشام لتجنب اضطهاد االرومان لهم  كما يسكنها الاوس والخزرج الذين هم من قبائل الازد التي هاجرت من اليمن بعد انهيار سد مارب و يوجد بها كذلك وثنيون  …كما كان فيها  مسيحيون

فهجرته صلى الله عليه وسلم  تهدف الى  اليحث عن مكان يقيم فيه مع  اصحابه والمهاجرين  المجتمع الفاضل والمدينة الفاضلة ، تحتضن وتؤمن بالعقيدة الحقة ،  وتتخلق بالأخلاق الصادقة، وتتعامل بالمعاملات الحسنة ابتغاء مرضاة الله..بهدف بناء الدولة والامة الاسلامية

فكان ماكان و الاسلام  جامعة مفتوحة على الانسانية وتنوعها الفكري والديني والاجتماعي فهاجر اليهم وهاجر الناس اليه فرادى وجماعات وشعوبا …لانه يسعى الى الهجرة بالاصلاح والتغيير والتعليم  لاخراج الناس من طلمات الدنيا التي يمارسها الاستبداديون والطلمة والجهلة والاقصائيون والمتعالون والسوداويون …الى نور بالدنيا باقرار الحريات والعدل والكرامة والتضامن ونشر العلوم والمعارف وفتح العقول على بحار الاجتهاد والابداع والانتاج …

ان الانسان  كذلك بهجرته المطلوبة شرعا وعقلا  يجب ان يسعى  لتكون حياته في هاته الدنيا هجرة و طريقا وقنطرة مليئة بالخير والفضل والصلاح لفائدة الذاث والاخرين  للتزود بما  يدخله للجنات الرحبة في قلبه وعقله وواقعه المعيش وكذا تلك   التي وعد بها الله  في القران الكريم و بلسان رسوله المؤمنين والمؤمنات  العاملين  والعاملات …كجزاءعلى حسن صنيعهم و اعمالهم ..

ان الهجرة ليست فقط هجرة من ارض الى اخرى وليست فرارا من واقع  الى واقع افضل .. كما ليست فقط هروبا بالدين والمعتقد من عالم القمع الى عالم يستطيع فيه  الانسان ان يمارس اعتقادة  ويخبر به الناس ويدعو له ….انها كذلك هجرة في عمومها تسعى للخروج من  التخلف الى التقدم .. ومن الارهاب والترهيب الى الامن والسلام والطمانينة ..ومن الجور الى العدل ..ومن الجهل الى المعرفة والعلم …

واليوم اين نحن من معاني الهجرة ؟ وهل استفادت وتستفيد الحكومات  منها  ؟؟… ام اننا امام مفارقات وتناقضات بين الادعاء وجوهر الايمان ومسارات العمل التي تكشف طبيعة النوايا  …؟؟….

فعندما يصل البعض  “بهجرة” تمتطى فيها الديموقراطيات الى سدة الحكم بتقديم نفسه وهياته بهذا البلد وغيره من البلدان على انهم يمثلون الدين “بمفردهم “.. ويخضعون غيرهم  لتصنيفات جاهزة في مخيلتهم يهدفون  من ورائها اقصاء الجميع والتشكيك في ايمانهم واخلاقهم وتصوير الامر على انهم اكثر خطورة على الاسلام من سكان الحبشة وحكامها في الهجرة الاولى وانهم اكثر تهديدا من ساكنة المدينة في الهجرة النبوية …والحال ان المسلمين الاوائل هاجروا الى المغرب الذي استقبلهم وادمجهم في تركبته الاجتماعية وامن اقتناعا وليس ترهيبا وتسلطا الغالبية العظمى  من ساكنته ..واحتفظ المغاربة الاخرون باليهودية والمعتقدات الاخرى ولم يجبروا برحابة  الدين وعدالته على تغيير دياناتهم ومعتقداتهم في كل البقاع التي انتشر بها الاسلام باستثناء بعض الحقب التي “هاجر” فيها بعض الحكام في الاتجاه المعاكس من النور الى الظلمات ومن الحق الى الضلال ومن فضاء الاسلام السمح الى ضيق الفكر وتحجره وتسلطه  كل هذا تحت غطاء التاويلات المغلوطة للشرع ومقاصده …

ولنا ان نطرح تساؤلات تهم حقيقة ونوايا الذين يهاجرون في  زماننا هذا  من المعارضة الى الحكم …هل يبقون اوفياء لشعاراتهم وافكارهم وادعاءاتهم قبل اي استحقاق بان هجرتهم هي لله وفي سبيل الله او للحق وفي سبيله او للعدالة وفي سبيلها ؟؟..ام انهم يهاجرون الى دنيا يصيبونها وكراسي يعتلونها وسلطات يحتكرونها ..؟ فبعد ان  تحقق لهم ذلك قلبوا ظهر المجن -اي  بأَسقاطَ الحياءَ وفعلَ ما يشاءَؤون باعلان العداوة بعد اظهار المودة  كما فسر في بعض القواميس  –
…وعادوا كل من بقي وفيا  لهجرته ولم يبدل تبديلا من حركات نقابية ومجتمع مدني وقوى حية مناضلة …؟؟  وهذا  حال اخواننا في الكثير من البقاع الاسلامية المغاربية والشرق اوسطية ..

ان الهجرة الى الله ورسوله هي في تفاصيلها وجزئياتها هجرة من الكفر الى الايمان ومن الظلم الى العدل ومن الظلامية والتشدد الى التنوير واليسر  ….ان فلسفة سياسة  الهجرة  النبوية والتي جاءت لتؤسس وتبني تاريخا جديدا قويا في المجتمعات البشرية تناقض في المجمل افعال الذين يدعون اليوم  انهم يريدون بالامة خيرا واذا بالناس  يرون ما يحصل ويقع باسم الاسلام ضد المسلمين والمسيحيين  وغيرهما بالعديد من البلدان  من تقتيل وتفجير وتمزيق للشعوب وبث لروح الكراهية والبغضاء وبسط للتجبر ضد كل من يخالفهم الراي او يعتقدون انه كذلك .. ويرون مايمارس كذلك  بمنابر الحكومات من سياسات تلحق الضرر بطبقة الفقراء والمستضعفين والكادحين وحتى الطبقات الوسطى  نالت نصيبا وافرا من الغبن والاضرار بمكتسباتها لتهجرهم الى واقع اكثر ترديا من ماضيهم القريب …

فاين حكام اليوم من اول كلمة قالها سيد الخلق لما دخل المدينة  – مهاجرا – للناس الذين هبوا  لاستقباله والتعرف عليه وعلى افكاره ودينه الجديد مباشرة …

 حيث قال صلى الله عليه وسلم  :« يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام».

فكان منه حقا وفعلا السلام والاطعام والعبادة الحقة لله وحده …

وجاء  فى خطاب الرسول، عليه الصلاة والسلام، للناس فى حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه فى طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب»…

والمتامل لختم هذا الكلام الشريف ب( والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب) والتي تفسر معنى المؤمن الصادق بانه  هو المهاجر لكل ما يؤدي لظلم الناس باللسان او اليد او هما معا  في انفسهم واموالهم واعراضهم واستقرارهم … -قلت والمتامل –  سيقف على حقائق شرعية تدين واقعنا في اكثر من مجال …

ونختم بقوله تعالى ..(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) [فاطر:5]،

ويقول (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:39].

وقيل لنوح عليه السلام: “يا أطول الناس عمراً كيف وجدت الدنيا؟ قال: كدارٍ لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر”…

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( حاسبوا انفسكم قبل ان تحاسبوا . وزنوها قل ان توزنوا. فان اهون عليكم في الحساب غدا ان تحاسبوا انفسكم اليوم . وتزينوا للعرض الاكبر . يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية )

والمدخل للهجرة الفردية والجماعية  هو محاسبة النفس والنقد الذاتي …بهجر كل ما فيه اضرار بالذات ولناس اجمعين في هذه الدنيا للنجاح هنا والفوز هناك.. وما عدا لك فهو تضليل وضلال   ..

  ونختم بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا إلى الله :

“الحمد لله الذي خلقني و لم أك شيئا. اللهم أعني على هول الدنيا و بوائق الدهر و مصائب الليالي والأيام. اللهم اصحبني في سفري، و أخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني، و لك مذلتي وعلى صالح خلقي فقومني، وإليك ربي فحببني، وإلى الناس فلا تكلني. رب المستضعفين وأنت ربي. أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين أن تحل علي غضبك، وتنزل بي سخطك. وأعوذ بك زوال نعمتك وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك وجميع سخطك. لك العتبى عندي خير ما استطعت. ولا حول ولا قوة إلا بك”.

 

 

 

 

 

 

‫شاهد أيضًا‬

دراسات في مناهج النقد الأدبي – نظريّة أو منهج الانعكاس .* د . عدنان عويّد

مدخل:      مفهوم نظريّة الأدب: تُعرف نظريّة الأدب بأنّها “مجموعة…