وعد بلفور… جريمة كبرى بحق الإنسانية!
بقلم: مصطفى قطبي
رغم أن غالبية الأيام والتواريخ تحمل ذكريات مؤلمة للشعب الفلسطيني الذي تعرض وما زال لأكبر مؤامرة في التاريخ وارتكبت بحقه سلسلة جرائم استهدفت وجوده واقتلعته من أرضه إلا أن يوم الثاني من تشرين الثاني يبقى الذكرى الأفظع في وجدان الفلسطينيين، فمنذ ذلك التاريخ قبل 96 عاما بدأت معاناة هذا الشعب عبر وعد مشؤوم أطلقه آنذاك وزير الخارجية البريطاني ”جيمس آرثر بلفور” ليكون نقطة الانطلاق لجرائم الصهيونية في فلسطين والمنطقة.
لا نكتب عن وعد بلفور بهدف التباكي عليه، لكن من أجل توضيح حجم المؤامرة على فلسطين وعلى الأمة العربية بأسرها من الدولة الأعظم آنذاك واستهدافها عموم المنطقة.
تأتي الذكرى الأليمة هذا العام، والمنطقة العربية تموج بما يشبه وعد بلفور وأخطر، وحالنا في فلسطين وسورية وحتى مصر وليبيا وتونس واليمن وغيرها ليس أفضل مما كان عليه الحال أيام الوعد الأول، ونجد من بيننا من يقدم للعدو الأميركي الصهيوني الرجعي ذات المساندة والتسهيلات على حساب شعوبنا العربية الساعية وراء الحرية والكرامة الإنسانية، كما أن ذات الخداع والتزوير تقوم به تلك القوى والأقلام لتحويل هذا الواقع المؤلم والمرير إلى حالة دائمة تسهل على العدوان مهمته، وتضعنا من جديد في الإطار ذاته الذي يعيد الانتداب والتقسيم الذي نعاني منه حتى اليوم.
فالخذلان العربي والتآمر الدولي اتخذا شكلا جديداً فقد تخلى الأول عن صمته الذي كان يحفظ ماء وجه الحكام والأنظمة الناطقين بالعربية الذين باتوا اليوم يجاهرون في التعبير عن تآمرهم وعجزهم عن تقديم أي حل للقضية الفلسطينية بينما دول الاستعمار المتآمرة لم تعد مضطرة لتقديم أي مخطط لتصفية حقوق الفلسطينيين فأتباعها وأزلامها المستعربين يقومون بالمهمة.
وإذا كان وعد بلفور كان قد ”أعطى من لا يملك لمن لا يستحق”، فإنه حمل معه أطول وأعمق قضية سياسية في تاريخ البشرية، وأكثرها ظلماً وعدواناً، حيث لازالت آثارها السياسية السلبية قائمة، جاعلة المنطقة العربية ساحة صراع مفتوحة منذ قرن وحتى يومنا هذا، نتيجة ما أفرزه هذا الوعد من زرع لكيان سياسي غاصب ”إسرائيل”، وما مثله من جريمة هي بكل المقاييس ”جريمة العصر”، التي تلاقت فيها مصالح الامبريالية العالمية والحركة الصهيونية، والتي نجم عنها تشريد وتهجير الشعب العربي الفلسطيني على نحو غير مسبوق في تاريخ البشرية.
وكان جلياً أن قرار الحركة الصهيونية، ووزير الخارجية البريطاني فيما بعد، جسّدا ولا يزالان التقاء المصالح الاستعمارية والصهيونية ومخططاتهما البعيدة المدى للوطن العربي والقاضية بإقامة دولة غريبة عن المنطقة وعدوة لسكانها في الجزء الفاصل بين دول الوطن العربي في آسيا والأخرى في أفريقيا، هذه الدولة ستكون رأس جسرٍ للمصالح الاستعمارية في الشرق الأوسط، وحربة في ممارسة العدوان على دوله، كما أنيطت بها مهمة منع الأقطار العربية من الوحدة لأن وحدتها تجعل منها قوة مؤثرة على الساحة الدولية، تم رسم هذا المخطط في مؤتمر كامبل ـ بنرمان في عام 1908 بين الدول الاستعمارية، تتويجاً لقرار المؤتمر الصهيوني، وتمهيداً لوعد بلفور فيما بعد.
وبالعودة إلى ”بلفور” صاحب الوعد الشهير يلحظ المتابع لسيرته الشخصية أنه كان متحمساً للصهيونية ومناصراً لها ومؤمناً بعودة اليهود حسب قوله كبشرى بمجيء المسيح المنتظر، وقد عكس ذلك في قوله المشهور: ”إن التاريخ أداة لتنفيذ هدف سماوي”. وقد عرف عنه أنه كان قاسياً لا يرحم، حتى عرف بإسم ”بلفور” الدموي، وذلك بسبب قسوته في قمع الثورة الإيرلندية، وقد تسلم رئاسة الحكومة البريطانية من 1902 إلى 1905 وتسلم منصب وزير الخارجية في حكومة لويد جورج 1916ـ1917 و”لويد جورج” هو صاحب الاعتراف الشهير الذي بيّن الدور الخطير الذي لعبه اليهود في تغيير نمط التفكير الأوروبي، ونظرته للقضايا المطروحة على بساط البحث سياسياً وفكرياً وعدم رؤيتها، إلا من منظار الحركة الصهيونية.
”بلفور”، وعلى الرغم من وعده المذكور، فإنه وفي عام 1904 تقدم إلى مجلس العموم البريطاني، بما سُمي بقانون الغرباء، وأعاد عرضه على المجلس للمرة الثانية عام 1905 حتى أقر، والقانون في أساسه موجه ضد هجرة يهود روسيا إلى بريطانيا، لأن مصلحة بريطانيا في ذلك الوقت كانت تقضي بعدم وجود اليهود على أرضها.
هذا الموقف ليس نقطة خلاف بين ”بلفور” الصهيونية، بل إنه قد عبر عن تأييده المطلق لما تقوم به الحركة الصهيونية قبل أن يصدر وعده، إذ قال خلال لقائه ”وايزمان” أثناء الحرب العالمية الأولى: ”أعتقد أنه حالما يتوقف إطلاق النار، فقد يمكنك الحصول على أورشليمك”.
وهنا يبرز السؤال: ما هي المصالح التي جعلت من وعد ”بلفور” حقيقة تمسك البريطانيين والصهاينة في الدفاع عنها، بل ما الذي أراده الصهاينة من وعد ”بلفور” وما الذي أراده البريطانيون؟ وهل ثمة تضارب بين المصلحتين؟
يشير الباحث الإسرائيلي ”يشعيا فريدمان”، وهو أستاذ التاريخ في جامعة ”بن غوريون” إلى مجموعة دوافع جعلت ”بلفور” يطلق وعده الشهير، أول هذه العوامل: خوف الحلفاء من أن تخرج روسيا من الحرب وتبرم اتفاق سلام منفرداً مع ألمانيا، وكان اليهود يمارسون دورهم في روسيا ورغبت بريطانيا في عزلهم عن روسيا وجذبهم نحوها. والعامل الثاني هو أن ألمانيا كانت على وشك أن تنشر وعداً من جانبها لمصلحة الحركة الصهيونية.
ولكن الحقائق تشير إلى أن العاملين السابقين ليس إلا غلافاً خارجياً للمصالح البريطانية، فلو لا ثقة الحكومة البريطانية بأن الأمر يخدم المصالح العليا للمملكة لما كان هذا الوعد، ويشير ”فريدمان” إلى أن بريطانيا كانت ترغب في البقاء على أرض فلسطين قبل فكرة الانتداب، وحتى لو انتصرت في الحرب فليس بإمكانها أن تحقق ذلك، ولاسيما أن مبادئ ”ويلسون” كانت قد أطلقت وبتأييد الحكومة الروسية، وهذا يعني أن أبناء فلسطين وهم العرب وهم الأكثرية سيطالبون بحق تقرير المصير، وهنا تفتقت العقلية التآمرية عن فكرة الانتداب التي رفضها العرب وهم الأكثرية وقبلها اليهود وهم الأقلية بعد أن أقنعتهم بريطانيا بأن الانتداب سيتيح لهم أن يصبحوا أكثرية ويقيموا دولة خاصة بهم، وبعد ذلك سيتم الحديث عن تقرير المصير وسيبدو العرب كأقلية.
لقد أجبرت القوى الغربية عصبة الأمم المتحدة آنذاك على اعتبار وعد ”بلفور” جزءاً لا يتجزأ من صك الانتداب البريطاني على فلسطين، أما الصهاينة فأعطوه تفسيراً يتناسب مع أطماعهم الاستيطانية، وأشاروا إليه في إعلان كيانهم العدواني الاستيطاني عام 1948.
صحيح أن الأمم المتحدة اتخذت قراراً في عام 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية وأخرى يهودية، لكن كلاً من بريطانيا والحركة الصهيونية عملتا كل ما بوسعيهما لمنع تنفيذ ذلك القرار، هذا ما أثبتته الوثائق البريطانية والإسرائيلية فيما بعد، بعد أن تم الإفراج عنها بعد سنوات طويلة.
في ذكرى وعد بلفور المشؤوم، نتذكر وعوداً كثيرة وُعِدْت بها الحركة الصهيونية وفيما بعد إسرائيل. كل هذه الوعود يجري تنفيذها بدقة متناهية من كافة دول العالم، لكن الوعود التي تقطع للفلسطينيين والعرب يجري التخلي عنها تماماً والانقلاب عليها، أولاً عن آخر.
لقد وعدت بريطانيا في أربعينيات القرن الماضي بإقامة دولة فلسطينية، وتخلت عن هذا الوعد. ما أشبه الليلة بالبارحة، فالرؤساء الأميركيون منذ كلينتون ومروراً بجورج بوش الابن وصولاً إلى الرئيس الحالي أوباما تعهدوا بالعمل على إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، لكن هذه الوعود جرى التخلي عنها تماماً.
ونتساءل في ذكرى وعد بلفور لماذا لا تجرؤ دول العالم عن التخلي عن وعودها لإسرائيل؟ وتتخلى عن وعودها للفلسطينيين والعرب؟
الجواب ببساطة: أن إسرائيل والحركة الصهيونية هي حليف استراتيجي للدول الاستعمارية، هذا أولاً، وثانياً، لأنهما يمتلكان من وسائل الضغط الكثير وفي مختلف المجالات مما يؤثر على هذه الدول، بينما نحن كفلسطينيين وكعرب ورغم امتلاكنا لأوراق قوة ضاغطة كبيرة، إن من حيث السياسة أو في المجال الاقتصادي، لكننا لا نحسن استغلال هذه الأوراق، ونتعامل مع تلك الدول كأقطار متفرقة، وليس كصيغة جمعية مؤثرة، الأمر الذي يعني أننا نستهين بأنفسنا، بالتالي تستهين بنا هذه الدول. تلك هي الحقيقة!
ولابد أن نقر، أن تداعيات وعد بلفور المشؤوم والآثار الناجمة عن التآمر الغربي والعربي على الشعب الفلسطيني، مازالت مستمرة حتى يومنا هذا. فعلى أرض الواقع تواصل سلطات الكيان الاسرائيلي العدوانية ممارسة كل أشكال الإرهاب واغتصاب الأراضي واستيطانها لترسيخ وجودها. وفكرة يهودية هذا الكيان المزعومة، واستكمال مراحل تصفية القضية الفلسطينية وطرح الحلول الاستسلامية التي تنسف حق العودة وتكرس الاحتلال الاسرائيلي.
والغريب في أمر وعد بلفور المشؤوم ودولة المنشأ أن ما تصورته تلك الدول الاستعمارية عن حالنا وموقف قادتنا وتفريطهم بحقوقهم وسيادة أوطانهم… ما زال يعمل بكفاءة عالية، فلا الوعد تمت مقاومته ووقفه ولا دولة اليهود توقفت عن التوسع والنمو في ظل حالة تشبه إلى حد بعيد حقبة الحرب الكونية الأولى وما نتج عنها وخصوصاً حال العرب وقادتهم.
فمنذ ولادة الدولة الصهيونية في عام 1948 وحتى الآن 2013 لم يتوقف التآمر الاسرائيلي لا على الشعب الفلسطيني ولا على أمتنا العربية. كل الذي حصل بعد ما يزيد عن الستة عقود: أن إسرائيل أصبحت أكثر عدوانية وصلفا وعنصرية عاماً وراء عام. من جانب ثان: ازداد التآمر الاستعماري على الوطن العربي وهو ما يؤكد حقيقة المؤامرة التي صيغت خيوطها في أوائل القرن الزمني الماضي.
الآن نشهد فصولا جديدة من المؤامرة عنوانها: تفتيت الدول القطرية العربية وتحويلها إلى كيانات هزيلة ومتناحرة ومتحاربة. أفضل مثال على صحة ما نقول هو جنوب السودان الذي تم اقتطاعه من جسد الوطن الأم ليمثل إسرائيل جديدة يتم زرعها في الخاصرة الأخرى للوطن العربي.
أما الحال الفلسطيني ليس بأفضل، فالانقسام بات حقيقة واقعة لأعوام كثيرة على التوالي، والمشروع الوطني الفلسطيني يعاني تراجعاً كبيراً رغم وضوح كافة خيوط المؤامرة.
ختاماً: إن ما تعانيه الشعوب العربية من هجمة استعمارية شرسة تستهدف تفتيت الدول إلى كيانات صغيرة لا حول لها ولا قوة، وكذلك ما يعانيه الشعب الفلسطيني من انتهاكات إسرائيلية يومية ومحاولة إلغاء حقوقه المشروعة يتطلب من المجتمع الدولي وأحرار العالم تحمّل مسؤولياتهم والعمل على الحد من تداعيات وعد بلفور المشؤوم واتفاقيات ”سايكس بيكو” عبر لجم عدوانية الكيان الصهيوني، والعمل على تطبيق قرارات الشرعية الدولية التي تحرم التدخل في شؤون الدول ذات السيادة، وتعيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، وفي ذلك رفع للظلم التاريخي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني نتيجة وعد بلفور المشؤوم. ودون ذلك، سنكون أمام حلقات تآمرية جديدة هي نسخ كربونية عن وعود بلفور عديدة واتفاقيات ”سايكس بيكو” كثيرة.