المؤتمر الوطني التاسع للإتحاد الاشتراكي: رأي في ما قيل
انتهى الشوط الأول للمؤتمر الوطني التاسع بانتخاب الكاتب الأول، بعد منافسة ديمقراطية شفافة لا مجال للشك في صدقها إجراء ونتائج، وعلى قاعدة انتخابية أجازها كل المتنافسين وصادق عليها المؤتمرون، ووفق مقرر تنظيمي محبوك لم يشكك أحد في مقتضياته. واقتضت الحكمة الاتحادية، في ما أعتقد، أو ربما عطب تقني كما قيل، تأجيل انتخاب اللجنة الإدارية التي سينبثق عنها المكتب السياسي القادم.
بعد ذاك التمرين الديمقراطي الناجح الذي لا يمكن لأي إنسان يؤمن حقا بالديمقراطية، ويسعى إلى ترسيخها في الممارسة الحزبية، إلا أن يثمنه بغض النظر عن هوية الفائز،وأن يقبل باختيار الأغلبية التي صوتت بالتأكيد عن طواعية، وبوعي. غير أن ما يثير الاستغراب والشفقة في آن هو أن ترتفع أصوات، من المؤسف أن تكون بعضها لقياديين اتحاديين خاضوا غمار المنافسة وشاركوا في وضع قواعدها، مشككة في النتائج وبالتالي في نزاهة ألمؤتمرين اللذين امتثلوا لأوامر جهات خارجية عملت على أن يكون إدريس لشكر كاتبا أولا للاتحاد، وكأني بلسان هؤلاء الإخوة يريد القول أن إدريس هذا مرشح الداخلية أو المخزن. ياله من منطق غريب؟إن من يقبل بعملية الاقتراع ولا يقبل بنتائجها هو نصف ديمقراطي، وهذا الصنف من السياسيين أخطر من القائد المستبد، لأنه يسيء للديمقراطية ويشوه صورتها. والذي لا يفوز في استحقاق تنظيمي داخل حزب اشتراكي ديمقراطي حداثي، فيرفض مجالسة من نافسه من إخوانه ومصافحته وحتى تهنئته، لن يقدر على بناء الحزب المؤسسة، ولن يساعد أبدا على تطوير الديمقراطية الداخلية التي بدأنا التأسيس لها أثناء التحضير للمؤتمر ومن خلال أشغاله. إن نهج التشكيك في نزاهة الانتخابات نهج غير سليم لأنه يدمر جسور الحوار والتوافق، ويحول المنافسة إلى تناحر ويدفع بالأطراف المتنافسة إلى القطيعة ويعصف بالثقة في المناضلين والقادة والمؤسسات، ومن المؤكد أنه سيسيء إلى الاتحاد الذي نومن جميعا بمبادئه وبرسالته وبحاجة الوطن إليه حزبا قويا ذا مصداقية.
حين بادر الإخوة الخمسة إلى ترشيح أنفسهم للكتابة الأولى للحزب، لا أحد منهم كان ضامنا لنفسه الفوز إلا من امتلكه الغرور، وقد راهن الجميع على إقناع الاتحاديات والاتحاديين بأطروحاته وخريطة الطريق لتنفيذ مقررات المؤتمر. وقد استبشر الاتحاديون والاتحاديات خيرا بالنهج الجديد الذي سار عليه الاتحاد لأنه نهج ديمقراطي بامتياز، يؤشر على أننا بصدد الانتقال من زمن القيادة التاريخية إلى زمن الشرعية الديمقراطية، كما أنه نهج كفيل بتعزيز الديمقراطية الداخلية التي صارت مطلبا داخليا ملحا لتجاوز كثير من ظواهر أزمتنا. نفس الارتياح عبر عنه الرأي العام وخاصة النخبة السياسية والفكرية ببلادنا، لاسيما بعد المناظرة التلفزية الناجحة التي قدم فيها المرشحون للكتابة الأولى تصوراتهم للمرحلة سياسيا وتنظيميا. كانت لحظة رائعة حين خاطب القادة الاتحاديون كل المغاربة في ما كان يعتبر في الماضي شأنا داخليا صرفا، وما كان أجمل هو ان يتحدث المتناظرون لغة حضارية وفي احترام تام وتقدير بين للآخر( وما هو في العمق بآخر). وهكذا انطلقت الحملة الانتخابية للمرشحين الأربعة- بعد انسحاب المرشح الشاب الذي نحيي مبادرته بالترشح- فتعددت أشكال الاتصال والتواصل( ندوات صحفية، لقاءات مباشرة، عروض بالمقرات الحزبية، حوارات صحفية ) مما أعاد الحياة لكياننا الحزبي ونشط النقاش بين المناضلين والمناضلات حول مجمل القضايا السياسية والتنظيمية. ومما لاشك فيه أن الحملة تمت في شروط جيدة إذ تمكن المترشحون جميعهم من الاتصال والتواصل مع الاتحاديين في كل الأقاليم والجهات دون أية مشاكل تذكر. وعلى سبيل المثال، أننا في جهة سوس ماسة درعة، حرصنا كل الحرص أن نستقبل كل من رغب من المترشحين في التواصل مع الحزبيين أو مع الرأي العام، ووفق الصيغة التي اعتبرها مناسبة. فكان لنا الشرف آن نلتقي بالإخوة لشكر والزايدي والمالكي، وعبرنا عن استعدادنا لاستقبال الأخ ولعلو الذي نكن له التقدير والاحترام. استمعنا بتمعن واهتمام لأطروحات لا تخلو أي منها من أفكار وتصورات مهمة. في كل اللقاءات أكد المترشحون على حرصهم على إنجاح المؤتمر وعلى تمسكهم بوحدة الحزب ، وعلى القبول بالنتائج أيا كان الكاتب الأول المنتخب ،علاوة على المبادئ التي ستحكم تدبيرهم للشأن الحزبي في حال تكليفهم بقيادته. وقد تزامنت هذه الحملة مع انتخاب المؤتمرات والمؤتمرين، تحت إشراف مباشر من اللجنة التحضيرية والأجهزة الحزبية، وفق مقتضيات المقرر التنظيمي، وعلى قدر من الشفافية، وفي أجواء سليمة إلا في ما ندر؛ وقبل الاتحاديون والاتحاديات بالنتائج. وهكذا وصلنا محطة المؤتمر وفي اعتقادنا أنه سيشكل النهاية الطبيعية لمسلسل سليم، بمعنى أن لا أحد سيساوره الشك حول مصداقية النتائج، وأن كل “الأطراف” ستقبل حتما بأحد المترشحين كاتبا أولا بغض النظر عن اسمه أو فصله ونسبه، على اعتبار، أولا، أنهم جميعا أبناء الاتحاد الاشتراكي، ساهموا في قيادته وتبوؤوا عبر مسارهم السياسي مهام جسيمة رغم اختلاف المسارات والتجارب وأنماط الشخصية، وثانيا لأن الأمر يتعلق أساسا بإرادة الاتحاديين والاتحاديات الذين لا يمكن الطعن في انتمائهم للإتحاد والوفاء لمبادئه والدود عن استقلالية قراره.
مرت الانتخابات في الدور الأول والثاني في نفس المكان، في نفس الصناديق، وبمشاركة نفس الهيئة الناخبة، وتحت مراقبة الجميع ودون تحفظ أو تنبيه أو احتجاج. قبل الكل بنتائج الدور الأول مع تسجيل حالات قلق أو حسرة وعدم رضا من قبل أخوات وإخوة لم يتقبلوا تقدم هذا أو ذاك على من كانوا يعتبرونه أجدر بالفوز، وهي ردود فعل مقبولة ما دام(ت) المناضل(ة) إنسانا تحكمه عواطف وله ميول واتجاهات وأحلام،وما لم تتجاوز حدود احترام الآخر والاعتراف بحقه في الاختيار. لكن ما أن أعلنت نتائج الدور الثاني حتى توالت ردود فعل غاضبة ومتشنجة وأحيانا غير محسوبة آثارها السلبية على أصحابها أولا، وعلى صورة الحزب ثانيا، وعلى المشهد السياسي ثالثا. ولعل أخطر وأبشع ما قيل شيئان اثنان:ترييف السياسة وسطو البدو على الحزب ثم تدخل أطراف خارجية للتأثير على نتائج الدور الثاني ؛وهذان قولان مردودان على من نطق بهما ومرفوضان الرفض كله خاصة من قياديين حزبيين نكن لهم الحب والتقدير والاحترام حتى وإن اختلفنا معهم في التحليل والتقدير والاختيار. ويستدعي القولان منا بعض التعليق:
1_- في ترييف السياسة
من البديهي القول أن السياسة في معناها الشمولي، أي باعتبارها فلسفة في نظام الحكم وتدبير الشأن العام في كل أبعاده، ليست في جوهرها حضرية ولا بدوية حتى وإن كانت أثينية المنشأ. كون المدينة اليونانية مهد ديمقراطية النخبة، وكون باريس عاصمة الأنوار، لا يلغي أن الناس جميعا مارسوا السياسة ومورست في حقهم سياسات جلبت لهم النفع أو عادت عليهم بالويل والفجيعة. ومن البديهي أيضا أن الطبقات والأمم المهيمنة اقتصاديا وتمتلك وسائل الضبط الاجتماعي والعنف المادي والثقافي هي المهيمنة سياسيا. وعليه لم يكن حظ الناس، ومنهم المغاربة طبعا، متكافئا من حيث النفوذ السياسي والمشاركة في الحياة السياسة ولاسيما في قيادة العمل السياسي. ضمن هذا المنطق يمكن فهم هيمنة النخب المدينية على المشهد السياسي بالمغرب، كما في غيره من الأقطار العربية، سواء خلال النضال الوطني من اجل استقلال البلاد، أو في عهد الاستقلال رغم التضحيات الجسام التي قدمها أهل البادية زمن المقاومة المسلحة للحملات الاستعمارية أو من خلا ل جيش التحرير في الشمال والجنوب والأطلس. لسنا هنا بصدد أية موازنة بين إسهامات الأرياف والمدن في الكفاح الوطني ولا في النضال من أجل الديموقراطية لأننا نرفض أصلا هذا المنطق الغريب عن الفكر الاتحادي، فكر المهدي وعمر وعبد الرحيم اللذين عملوا على صهر كل القوات الشعبية في معركة التحرير والاشتراكية والديمقراطية. يكمن غرضنا من التذكير بهذه الحقيقة التاريخية تنبيه من يريد الزيغ بالنقاش عن جادة الصواب وخلق معارك هامشية بعيدة عن الهم الاتحادي الأكبر المتمثل في إعادة بناء الحزب وتجديد عهده مع الشعب المغربي لتكريس الاختيار الديمقراطي للمغرب المعاصر ومواجهة القوى المحافظة الساعية لتقويض ذاك المشروع وتعويضه بمشروع ظلامي.
وبالرجوع إلى التاريخ الاجتماعي لمغرب ما بعد الاستقلال، يمكن الزعم ان هندسة النخب السياسة قد عرفت تحولات هامة بفعل التحولات المجالية والتعميم التدريجي للتعليم والثورة التكنولوجية وتطور وسائل الإعلام والتطور السياسي والوعي المطرد والمتنامي لثقافة حقوق الإنسان. هكذا انخرطت منذ نهاية الستينات فئات عريضة من أبناء البوادي المغربية في العمل السياسي، خاصة في الأحزاب والمنظمات السياسية إلى جانب إخوانهم وأخواتهن بالمدن والحواضر، مما أعطى زخما للنضال الديمقراطي ونفسا للاتجاه اليساري التقدمي. ذاك الجيل من المناضلين في الأحزاب التقدمية عامة وداخل الاتحاد الاشتراكي خاصة، في المنظمات الشبابية وفي مقدمتها الشبيبة الاتحادية، في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ثم في النقابات العمالية، هو الذي أصبح اليوم مؤهلا لتحمل مسؤولية استكمال المهمة التاريخية للإتحاد، مسترشدا بالسيرة النضالية للجيل الأول وبالقيم السامية في التضحية والصدق والإيمان بالمبادئ التي كرسها القادة التاريخيون للحزب من المهدي وعمر وعبد الرحيم وعبد الرحمن وسي محمد وعبد الواحد. ضمن هذه السيرورة التاريخية والدينامية الاجتماعية يمكن ان نفهم لماذا اصبح للنخب الجهوية ثقل اكبر في حياة الأحزاب وفي صنع القرارداخلها. وهذه لعمري ظاهرة جديدة قمينة بالدراسة العلمية الرصينة بعيدا عن التفسيرات السطحية التي تختزلها في ما يسمى بالشباطية ( أعتذر للسيد حميد شباط، الكلمية ليست من عنديتي)، وهي في كل الأحوال ظاهرة إيجابية ضمن سياق تأهيل المغرب لنظام الجهوية الموسعة .
2) عن التدخل الخارجي
ان ينال الأخ الزايدي ثقة قسط وافر من مندوبي ومندوبات المؤتمر ينتمون لمختلف الجهات والمواقع التنظيمية ومن شتى الأجيال نساء ورجالا، فهو أمر مشرف فضلا عن كونه أمرا طبيعيا تقبله الأخ في الدور الأول بكثير من الاعتزاز. ولم يستكثر عليه احد ذلك. أما أن يتحول ذاك الاطمئنان والارتياح إلى الطعن في العملية برمتها وادعاء وجود جهات خارجية تدخلت لتوجيه الاقتراع فهذا أمر بعيد عن الحكمة والتبصر والغيرة على الحزب التي تحدث لنا عنها الأخ الزايدي في أكادير. نعم، اكد الأخ الزايدي مرارا على سيادية القرار الحزبي، وقد اعتبرنا أنه كان يعني سلطة الأعيان، لكن يبدو أنه كان يمهد لتبرير عدم فوزه بالكتابة الأولى.وفي تبريره ذاك عود إلى منطق المؤامرة الذي نعتقد أنه منطق ولى وانتهى. وما دام الأخ الزايدي يؤكد أن لديه دلائل قاطعة عن وجود تدخل ما، فإننا نطلب منه بإلحاح أن يكشف ليس فقط عن الجهة المتدخلة أو التي سعت إلى التدخل وإنما أساسا عن من من الاتحاديين قبل بهذا التدخل وعمل به، حتى نتجند جميعا لاجتثاث الخونة من صفوفنا وتطهير الحزب من أذناب المخزن وعملاء المخابرات. ومن حقنا أن نلوم الأخ الزايدي على عدم تنبهينا لمن كانوا مندسين بيننا ونحن على غفلة من فعلهم الشيطاني المشين لحظة التصويت؛ وليسمح لنا أن نساله سؤالا ساذجا جدا: كيف تسلل أولئك العفاريت إلى معازل التصويت ثم إلى عقول المصوتين(وهم مناضلون ومناضلات اتحاديين لم يطعن في أحقيتهم حضور المؤتمر) ليصوتوا كرها لصالح زيد أو عمر؟ وإذا كان ذلك ممكنا، فلم نفترض أن هذا التوجيه طال الأغلبية دون الأقلية؟ هل الأغلبية مجرد إمعات، لا ضمير لهم ولا مبادئ في حين أن أقلية الدور الثاني وحدهم مناضلون أشاوس يكاد يقتلهم حب الإتحاد الذي لا يمكن أن يقوده إلا من يعتقد في نفسه ذلك؟
خلاصأت القول هي:
_ أن نظرية المؤامرة فيما حدث قبل المؤتمر وأثناء شوطه الأول لا أساس لها من الصحة، ولا يمكن لأي اتحادي نزيه ويحترم نفسه وانتماءه أن يساير هذا النمط من التفكير والسلوك.
_ أن على جميع الاتحاديين والاتحاديات مهما كانت ميولاتهم أن يسلموا بنتائج التصويت في الشوطين معا كما خاصة وأنهم صادقوا على مقررات المؤتمر التي يلزم على القيادة المقبلة العمل على تنفيذها،
_ تدبير الشوط الثاني على نحو يصون وحدة الحزب باعتبارها شرط قوتهن بعيدا عن منطق الغلبة أو الانتقام، إننا في البداية والنهاية حزب تجمعنا مبادئ وقيم ويوحدنا تاريخ مشترك ومصير نحن مسؤولون جميعا عن صنعه بقدر مسؤوليتنا التاريخية اتجاه شعبنا ووطننا. ولعل من مستلزمات التدبير الجيد للشوط الثاني نبذ كل خطاب أو سلوك يسيء إلى الذات الاتحادية .
_ إن الاتحاد بحاجة فعلية لكل أطره ومناضليه ومناضلاته، بل يسعى صادقا إلى وحدة اليسار والصف الديمقراطي قاطبة ،ليس في دلالته التنظيمية وحسب ،وإنما في معناه المجتمعي والثقافي. ويجب على كل الأوفياء للإتحاد أن يتجاوزوا بوعي
صدمة النتائج، وان يضعوا نصب أعينهم جميعا ما ينتظرنا من مهام عظيمة لن يقدر أي منا على النهوض بها أي طرف وحده.
عبد السلام رجواني