محمد الطالبي.. ‘المسلم القرآني’ الذي يتصدى لمشروع النهضة | ||||||||||
المؤرّخ والمفكّر التونسي محمد الطالبي يرى أن تونس تهددها ديكتاتوريّة دينيّة أتعس من ديكتاتوريّة بن علي. |
||||||||||
عن موقع صحيفة العرب معز زيود [نُشر في 06/10/2013، العدد: 9342، ص(10)] |
||||||||||
تونس – كان خلال السنوات العشر السابقة للثورة من أشدّ المنتقدين لنظام زين العابدين بن علي.. محمد الطالبي المؤرّخ والمفكّر وعالم الإسلاميّات التونسي بقي اليوم أيضا ذاك المفكّر الحرّ المستقلّ، فهو لا يُفوّت فرصة لتنبيه التونسيين إلى خطر ما يُسمّيه بالسعي المحموم لدى حزب النهضة الحاكم إلى إرساء “ديكتاتوريّة دينيّة” بل هي “أتعس من ديكتاتوريّة بن علي” على حدّ قوله لـ”العرب”، فهو من طينة لا ترضخ للتهديد والوعيد.. التحق الطالبي قبل عشرة أعوام بصفوف أشرس المعارضين، مُوجّهًا نِباله إلى رئيس النظام السابق فوصفه بأنّه “يمتلك عبقريّة في جعل المقرّبين منه أعداء ألدّاء له”. أمّا اليوم فنراه غير متردّد في توصيف زعيم “حركة النهضة” بالسلفيّ المتربّص بالبلاد لإقامة دولة دينيّة يحكمها حزب “إرهابي” وعدوّ للحريّة. إشاعة “خطر اللاهوتيّة” في تونس، ذاك ما يبذل الطالبي كلّ وقته وفكره وإمكانيّاته لمقاومته. وهو لئن كان يُمضي كامل نهاره بين المطالعة والجلوس إلى حاسوبه، عاكفا على رقن الجديد الدائم من كتبٍ وبحوث لا تُعدّ، فإنّه يصرف فائض وقته في جمعيّة أسّسها وبعض أصدقائه، في بداية العام الجاري، حاملة اسم “الجمعيّة الدوليّة للمسلمين القرآنيّين”. ورغم أجواء الحريّة التي فرضتها ثورة 14يناير2011، فإنّ حكومة النهضة لم تسمح بإنشاء هذه الجمعيّة إلاّ بعد أن تحوّلت إلى قضيّة رأي عام. وكما يُقال: إذا عُرف السبب بطُل العجب، ذلك أنّ هذه الجمعيّة لم تكتف في قانونها الأساسي بالتأكيد على أنّها “تعمل من أجل تجديد الفكر الإسلامي وتحقيق الحداثة والعقلانيّة.. وذلك في اعتقادنا يـتّفق مع كتاب الله”، وإنّما أكّدت أيضا أنّ من أهدافها أن “تقاوم السلفيّة التي تدعو إلى العنف والتأخّر إلى الوراء.. بالمكافحة الفكريّة السِلميّة”، فضلا عن كون الجمعيّة “غير ملتزمة بالشريعة، وتعمل من أجل إلغائها كعمل بشريّ غير ملزم نشأ في القرن الثالث الهجري”. بحوث الطالبي ومقالاته لا تُحصى، وقد ألّف ما يُناهز الـ 30 كتابا باللغات العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة، من بينها “ابن خلدون والتاريخ” و”تأمّلات في القرآن” و”الإسلام والحوار” “وعيال الله” و”ليطمئن قلبي/ 3أجزاء” و”الإسلام ليس حجابا” و”ديني هو حريتي”، وغيرها كثير.. فهو من جيل المؤسّسين للجامعة التونسيّة. وكان، منذ نحو نصف قرن، أوّل عميد لكليّة الآداب في تونس عام 1965، مُعوّضا بذلك عميدا فرنسيّا. ولئن كان الطالبي كثيرا ما يُردّد بأنّ “دينه هو الحريّة”، فإنّه يُصنّف نفسه لا من الشيعة ولا من السنّة بمفهومهما التقليدي، وإنّما بـ”المسلم القرآني” الذي يتبصّر مقاصد الكتاب العزيز، “وعلى الله قصد السبيل”.وهو ما يبدو واضحا من اسم “الجمعيّة الدوليّة للمسلمين القرآنيّين” التي يعدُّ الطالبي مؤسّسها ومموّلها الرئيس حسب ما أفاد به “العرب”. في بيت الطالبي، هالني مشهد الكتب المصفّفة في كلّ زاوية ورواق وجدار، فهو بيت تشكّله الرفوف الخشبيّة المتأنّقة بتناسق الآلاف من كتبٍ لا يُتاحُ فرزها إلاّ للطالبي.. قال لنا “أنا لا أكتب حرفا إلاّ بعد أن أقرأ ألفا”. مازحتُه: ألا تُهدي بعض كتبك، فردّ بحزم “أنا لا أهدي كتبي، والسوق هو الطريق المعبّد بيني وبين القارئ الراغب في الاطّلاع على نتاج أفكاري”.. علّل شيخ المؤرّخين التونسيين امتناعه عن تلك العادة لدى الكتاب العرب بأنّه يعتنق “مبدأ الحريّة”، قائلا “أرفض فرض رأيي على أيّ كان.. أن أهدي أحد كتبي يعني أن أقول ها أنذا محمد الطالبي، تعال لتمدحني وتشكرني وتعبدني، فأنا حرّ وديني الحريّة، وكما أنا غيور على حريّتي فإنّني أرغب أن يكون كلّ النّاس أحرارا”. الطالبي، الذي يفوق سنّه التسعين، يبدو اليوم في قلب الرحى، يُتابع بدقّة تطوّرات أزمة سياسيّة تكاد تخنق تونس، ولا يلوك كلماته كثيرا لتوصيف الحال والأحوال راهنا وفي زمن مضى.
بورقيبة والغنوشي “مستبدّ جدّا ونزيه جدا”، هكذا يختزل الطالبي شخصيّة الحبيب بورقيبة أوّل رئيس للجمهوريّة التونسيّة. يقول عنه إنّه “نظيف الأيدي إلى أبعد الحدود، كما أنّه مستميت في إخلاصه لتونس، فهو ممّن لا يُعوّض لكنّه كان مستبدّا معتمدا حكما ستالينيّا، فهو المتحكّم في الديوان (المكتب) السياسي للحزب، ولذلك فإنّ من يفقد مكانه في الحزب يفقد مقعده أيضا في مجلس النواب”. كما أنّ بورقيبة، حسب شهادة الطالبي، هو من يُعيّن كافّة قيادات كلّ هياكل الحزب الحاكم خلال العقود الثلاثة من حكمه. يقول المفكّر الإسلامي إنّ “الثورة جعلت الأمل مفتوحا رغم أنّنا في الوقت الراهن نسير نحو ديكتاتوريّة دينيّة وقد ركبت حركة النهضة برئاسة راشد الغنوشي على ثورة 14 يناير لأنّها كانت الحزب الوحيد المنظّم خلال انتخابات المجلس التأسيسي” المنتظمة منذ نحو عامين. عن راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلاميّة الحاكمة في تونس، يقول الطالبي: “هذا الرجل فقد المصداقية في حركة النهضة وأصبح لا يمثلها في أيّ حوار”، هكذا يُفسّر المفكّر التسعيني أسباب تراجع قيادات حركة النهضة عن كلّ تصريحات الغنوشي وتعهّداته إزاء مبادرة منظمات المجتمع المدني للخروج من الأزمة الحادّة التي تشقّ المشهد التونسي على مختلف الأصعدة منذ أكثر من شهرين. يوضّح الطالبي، أن “الغنوشي عاش في الغرب زمنا ما، وتعلّم منه أنّ عهد القهر وأخذ السلطة بالإرهاب انتهى، فأصبح موضوعيّا. وهو لئن لم يتطوّر فكرا واعتقادا، فإنّه تطوّر تكتيكيّا والموضوعيّة عنده هي أخذ الواقع بعين الاعتبار حتّى يركب على الواقع ويستفيد منه ويستعمله لغايته الاعتقاديّة الإيمانيّة”. النهضة ممزّقة يواصل الطالبي في هذا النهج، مُعتبرا أنّ “حركة النهضة متفرّقة، ولم يعد لها في الوقت الحاضر قائد يتكلّم باسمها ويسكت البقيّة إذا ما تكلّم”، بل وفي تقديره أضحت “حركة النهضة ممزّقة اليوم، وهي غير قادرة على أخذ قرار في هذا الاتجاه أو ذاك، وهذه مصيبتنا” على حدّ تعبيره. يُرجع مُحدّثنا توصيفه للحزب الحاكم بأنّ “النهضة تدرك حقيقة أنّ نسبة أنصارها لا تتجاوز 15 بالمائة من التونسيين. فإمّا أن تغتصب السلطة أو تخسرها”. فلنطرح السؤال بشكل آخر، هل حركة النهضة إخوانيّة أم سلفيّة أم لها خصوصيّاتها المنفصلة عن هذين التيّارين؟ تبدو الإجابة واضحة لدى الطالبي وإن اكتنفها بعض اللبس. حركة النهضة والإخوان المسلمون صنوان لفكر وتيّار واحد. ولو كان الأمر غير ذلك، فلماذا تخلت حركة النهضة عن تسميتها القديمة بـ”حركة الاتجاه الإسلامي”؟، “هذا عين النفاق -يضيفُ الطالبي- وأنا أريد خلع النفاق عنها فهي لم تغيّر حقيقة فكرها الإخواني، حسب قوله. ومن المنظار ذاته، يرى محمّد الطالبي أنّ “النهضة هي حركة سلفية أصلا بل هي عين السلفيّة ومنبعها الذي خرجت منه” حسب فصيح تعبيره. كيف هذا؟ ألا توجد خطوط تماس أو تقاطع بين التيّارين؟ هل في الأمر شيء من الخلط؟ هكذا تساءلت. يقول الطالبي يصعب التفريق بين فكر الإخوان والسلفية، مردّدا القول التونسي: “الحاج موسى وموسى الحاج” التي يُعبّر بها عن وجهي العملة الواحدة. أوضح الطالبي فالسلفية توجب الجهاد، كما يوجد الجهاديّون في تيّار الإخوان المسلمين نفسه وهم أهل التكفير والهجرة الذين قتلوا الرئيس الأسبق أنور السادات، وفيهم كذلك السيد قطب القائل بدوره بجهاد المسلمين بعضهم بعضا أو ما يسمّيه بـ”الفريضة الغائبة”. كما أنّ الإخوان لا يختلفون عن السلفيّة، سوى الاختلافات المذهبيّة العاديّة القائمة بين الشافعيّة (التي ينتمي إليها الإخوان المسلمون في مصر)، والحنبليّة على طريقة ابن تيميّة التي يتبناها غلاة السلفية. ومع ذلك فإنّ الغاية والسبل والطرق تبقى نفسها، وفق رأي المفكّر التونسي المخضرم. في هذا المضمار، يرى الطالبي أنّ حركة النهضة لعبت اليوم بالنار، لأنّها حاولت منذ البداية أن توفّر لنفسها ضمانات الإبقاء على “رصيد إرهابي”، يخدم أجندتها ممثلا في السلفيّة الجهاديّة، موضّحا أنّه ذهب في اعتقاد قيادات النهضة أنّ لهم القدرة على التحكّم في تنظيم “أنصار الشريعة”، بما في ذلك راشد الغنوشي الذي لم يطيعوه وتحرّكوا بـ”فوضويّتهم الإرهابيّة”، رغم أنّه كان يتصوّر امتلاكه من القوّة الروحيّة ما يتيح له المسك بزمام السلفيّة حتّى لا تتحرّك إلاّ بإشارة منه. لا يتردّد شيخ المؤرّخين التونسيين في إبداء مواقفه الرافضة بصرامة لتحكيم الشريعة، يقول “لسوء حظنا أنّنا ندرّس الشريعة وما تُلقّنه من تكفير”، مثل اتفاق المذاهب الأربعة على الحكم بالقتل على تارك الصلاة أو المرتدّ. و”الأكثر من ذلك تدريس فرض الكفاية وفرض العين. فصاحب السلطة الأمير القائد، الذي قد يكون راشد الغنوشي أو أبو عياض(زعيم السلفية الجهادية)، إن لم يلتزم بفرض العين في تطبيق الشريعة يُصبح ذلك فرض كفاية على كلّ مسلم، وباستطاعته أن يُنفّذ الحكم الشرعي في قتل تارك الصلاة أو المرتد، حسب قول الإمام مالك. وليس هناك من اختلاف سوى كيفيّة القتل وكيف يُقتل أحسن قتلة. وهو ما لم يُعمل به إطلاقا في عهد الرسول” وفق تأكيد الطالبي. وهم التوافق وقدر المواجهة بغضّ النظر عن التجاذبات السائدة في المشهد السياسي التونسي، فقد بدا أنّ الحلّ الأمثل للخروج من الأزمة الخانقة هو التوافق بين الفرقاء السياسيين وتحديدا بين حزب النهضة الحاكم والمعارضة، لاسيّما بعد تشكّل وعي جمعي بأنّه لم يعد هناك سبيل لأن يقصي هذا الطرف ذاك أو العكس. على خلاف ذلك يرى الطالبي استحالة تحقّق هذا الطرح.. يقول لـ”العرب” يستحيل الخروج من الأزمة على سبيل التوافق، مادامت الظروف على ما هي عليه، “أي إصرار حركة النهضة، اعتمادا على المحيط السُنّي الذي نبتت فيه، على إقامة الشريعة ولو على مراحل. فالنهضة لا يمكنها أن تتنكّر لهذا المبدإ”. يُعلّل الطالبي إجابته بالتأكيد أنّه سبق أن قدّم مقترحا بسيطا جدّا لإثبات قدر أدنى من صدق النوايا، وهو تجريم التكفير بقانون، وذلك على اعتبار أنّ التكفير هو دعوة إلى القتل، وأنّ كلّ دعوة إلى القتل تعدّ إجراما في العالم بأسره. والنتيجة أنّ هذا الطلب لم يحصل على أيّ ردّ فعل إيجابي أو سلبي. هذا التعاطي يفسّر اعتقاد الطالبي بأنّ حركة النهضة لا تزال مُصرّة على تنفيذ ما خُلقت من أجله عبر التنصيص في الدستور على ما يُمكّنها في يوم من الأيام من إقامة الدولة الإسلاميّة أو الشريعة ولو تدريجيّا، وذلك اعتمادا على فصل أو حتّى كلمة من كلمات الدستور الجديد. فـ”النهضة لن تقبل أبدا بأن يصدّ المجتمع التونسي هذا الباب عليها، حتّى عن طريق التعبئة والتكوين والتعليم بهدف إنشاء مجتمع تريد أغلبيته تطبيق الشريعة”. هكذا نرى الطالبي محاولا مقاومة حركة النهضة الإسلاميّة فكريّا ومواجهتها شعبيّا، إذ يقول: “النهضة جزء من المجتمع ولكنّها لا تشكّل الأغلبية، والسفسطة فقط هي التي أعطتها صورة من يُمثل الأغلبيّة، في حين لا تتجاوز شعبيّتها 15 بالمائة من التونسيين”، مستدركا “أنا أرحّب بحركة النهضة كقوّة اجتماعيّة حقيقيّة، لكن وفق وزنها الانتخابي الحقيقي.. فخلال الانتخابات السابقة لم يُصوّت نصف المجتمع التونسي، في حين استطاعت النهضة تجنيد كلّ أنصارها على خلاف الأحزاب الأخرى”. في هذا الصدد يُنبّه المؤرّخ المنشغل بالراهن من أنّ “حركة النهضة تحاول تزييف الانتخابات مسبقا وهي تتأهّب لذلك فعلا عبر تسمياتها لكبار مسؤولي الدولة بمختلف مؤسّساتها وأجهزتها”. و”في اعتقادي أنّنا، طال الدهر أم قصر، لا يمكن أن نفلت من المواجهة، لأنّ حركة النهضة ينبغي أن نعرفها في أصولها منذ زمن بورقيبة حين كانت حركة إرهابيّة، دفعتها إلى ارتكاب أحداث باب سويقة الدامية في العاصمة ومحاولة تفجير بعض الفنادق في المناطق السياحيّة في الساحل. ولديها إيمان قديم راسخ بالإرهاب. وقد عدّلت تكتيكها حين تبيّنت أنّ الإرهاب يمكن أن يُقلق كالحشرة لكنّه غير قادر على البناء”. ويَمضي الطالبي في توصيفه لحركة النهضة، ويسوق تجربة الجزائر مثالا حيث فشلت الجماعات الإرهابيّة رغم ما ارتكبته من فظائع لا يُمكن نسيانها.. يقول “في جبل الشعانبي نجد الفظائع نفسها التي مُورس مثلها في الجزائر كـ”الذبيحة”. فالحركات الإرهابيّة من هذا النوع كانت بمثابة الوعاء الإيماني الذي وُلدت فيه حركة النهضة”. هذا التحليل دفع محمد الطالبي إلى دعوة التونسيين إلى “الخروج في مظاهرات سلميّة حاشدة في شوارع البلاد كالتي تمكّنت من طرد بن علي، معتبرا أنّ “الشارع التونسي عليه أن يتجنّد لإظهار أنّه يُشكّل الأغلبيّة الفعليّة، لا البرلمان الحالي الذي نشأ في ظروف خاصّة ومؤقّتة، وفقد شرعيّته منذ نحو عام مضى”. برّر “المسلم القرآني” دعوته تلك بأنّ تونس “تُهدّدها اليوم ديكتاتوريّة دينيّة أتعس من ديكتاتوريّة بن علي”..غير أنّ هذه الديكتاتوريّة المستجدّة لن تصمد كثيرا أمام وهج المقاومة. يقول بإصرار إنّ الضامن الوحيد للحريّات العامّة هو “المقاومة التي لا تزال قائمة في تونس إلى حدّ اليوم والحمد لله”.. ذاك هو محمد الطالبي بطبعه متفائل، فالتشاؤم مثلما يُردّد ليس من شيم المفكّر المستنير.
|