النشاط الثقافي في الريفي المغربي استطاع أن يمد جذوره إلى مدن أخرى خدمة لدسترة اللسان الأمازيغي عبر تفتحه على مختلف الثقافات.
عن صحيفة العرب
جميل حمداوي [نُشر في 30/09/2013، العدد: 9336،
عرفت منطقة الريف على الصعيد الثقافي مجموعة من المراحل، من بينها: مرحلة هيمنة الثقافة الاستعمارية من 1912 إلى 1956، ومرحلة التهميش في سنوات الخمسين والستين من القرن الماضي، ومرحلة الانطلاقة الثقافية الأولى في سنوات السبعين، ومرحلة الركود في سنوات الثمانين، ومرحلة الانطلاقة الثقافية الثانية في سنوات التسعين، ومرحلة البناء الثقافي في العقد الأول من الألفية الثالثة مع بناء المركبات الثقافية بالناظور والحسيمة، ومرحلة النضج والازدهار في سنوات العقد الثاني من الألفية نفسها.
ترتبط منطقة الريف خصوصا بالثقافة الأمازيغية التي تجسدت في الآداب والفنون والمعارف، وقد انتعشت هذه الثقافة بفعل الحركة الديناميكية للجمعيات والأحزاب السياسية الأمازيغية التي دافعت، ومازالت تدافع عن تنمية الثقافة المحلية، وتسعى جاهدة إلى دسترة اللسان الأمازيغي تفعيلا وتثبيتا وتعميما.
كما تكرس كل جهودها لخدمة التنمية المحلية والهوية والكينونة الأمازيغية. ومن الطبيعي، أن تعبر هذه الثقافة عن تطلعات هذه الحركات السياسية والجمعوية، وتتعاطى مع واقع الريف عبر رؤية هوياتية محلية، سواء أكانت ضيقة أم منفتحة. ومن ثم، فقد تحقق إنتاج زاخر في الثقافة الأمازيغية نقدا وإبداعا ومسرحا وقصة ورواية وسينما وتشكيلا ونحتا. كما تحقق الشيء نفسه على صعيد الثقافة العربية.
الثقافة الأيبيرية
يذهب كثير من المغاربة إلى أن أسبانيا لم تخدم المغرب حضاريا وثقافيا وماديا، منذ استعمارها للمنطقة الشمالية سنة 1912 حتى انسحابها منها سنة 1956، لأنها لم تترك بنية تحتية ملائمة في هذه المنطقة، مقارنة بفرنسا التي مازالت بصماتها المادية والعمرانية خالدة وشاهدة على حضارتها الزاهية.
إلا أن هذا الحكم ليس صحيحا بشكل مطلق، فلأسبانيا أياد بيضاء على منطقة الريف في بعض المجالات الثقافية، خاصة: المسرح والتشكيل والصحافة، دون أن ننسى الميادين العلمية الأخرى، مثل اللسانيات والأدب والتاريخ وعلم الاجتماع، والأنتروبولوجيا، والتوثيق الببليوغرافي، والأرشفة المكتبية، وبناء المدارس والمعاهد التربوية لنشر اللغة الأسبانية والثقافة الإيبيرية. بيد أن ما يلاحظ على هذه الثقافة أنها ثقافة كولونيالية واستمزاغية لم تخدم سوى الأطر العسكرية والإدارية الأسبانية المتواجدة في هذه المنطقة من مليلية حتى العرائش.
ويعني هذا أن المستعمر الأسباني هو الذي استفاد من ثمار هذه الثقافة ماديا ومعنويا. في حين، كان المواطن الريفي يقاوم العدو المحتل من جهة، ويتصارع مع الفقر والجوع وقسوة الحياة من جهة أخرى. ومن ثم، لم تكن الثقافة حاضرة بشكل من الأشكال في تقديره أو حسبانه، ناهيك عن انتشار الجهل والأمية والأوبئة في تلك الفترة بين صفوف الريفيين بدرجة كبيرة جدا.
عرفت الحركة الثقافية في منطقة الريف نوعا من النسيان والتهميش والانكماش مع سنوات الخمسين والستين من القرن الماضي، أي بعد فترة الاستقلال مباشرة. فقد كانت الثقافة في منطقة الريف مغيبة لأسباب سياسية وعسكرية.
وفي هذه المرحلة بالذات، ظهر ما يسمى بالعنف العسكري، فاندلعت حروب أهلية قادتها السلطة الحاكمة ضد المقاومين الريفيين الذين رفضوا ترك أسلحتهم، مادام المغرب – حسب اعتقادهم- لم يستقل بعد استقلالا حقيقيا. ولما توقفت هذه الحرب الدامية، بعد اشتعال أوارها في أواخر سنوات الخمسين، هُجر أغلب أبناء منطقة الريف إلى الضفة الأخرى، ليكونوا أداة لإعادة إعمار أوروبا مقابل لقمة الخبز. وبالتالي، أقبر الفعل الثقافي في منطقة الريف قاطبة.
هذا، وقد حرصت الجمعية على خدمة المواطن الريفي، وإنقاذ مدينة الناظور من براثن التخلف والجهل والتسيب واللامبالاة والتهميش على جميع المستويات والأصعدة.
وفي هذه المرحلة بالذات، انتعش المسرح العربي والأمازيغي على حد سواء، وظهرت الفرق الموسيقية الملتزمة، مثل فرقة إصفظاون وفرقة إيني أومازيغ وفرقة بنعمان وفرقة إيثران وفرقة رفروع وفرقة إيريزام بإقليم الناظور وفرقة إثري نمريتش بمدينة مليلية المحتلة.
انتعاش الفنون
وقد ترتب على ذلك أن منعت السلطات المخزنية جميع الأنشطة الثقافية في هذه المنطقة، واعتقلت كل من سولت له نفسه أن يوظف الفن لأهداف سياسية، أو يحتج أو يتمرد ثقافيا عن سلطة الدولة.
لقد انطلقت الحركة الثقافية في منطقة الريف مرة ثانية في سنوات التسعين، سيما مع إعلان دستوري 1992 و1996 المعدلين، وانطلاق مسلسل الإصلاحات السياسية والحقوقية، وتوقيع المغرب على الكثير من المواثيق الدولية حول حقوق الإنسان وحرياته الخاصة والعامة. فانطلق الفعل الثقافي في منطقة الريف بتقديم مجموعة من المسرحيات السياسية والاجتماعية مع فؤاد أزروال ونعمان أوراغ وفاروق أزنابط وفخر الدين العمراني والحسين القمري.
كما انتعش الغناء والموسيقى والرقص الفلكلوري على حد سواء. وفي الوقت نفسه، ظهرت مجموعة من الجمعيات الثقافية، أبرزها جمعية “إلماس الثقافية” التي كان يترأسها محمد الشامي، و”فرع اتحاد كتاب المغرب” الذي كان يشرف عليه الثالوث الناظوري: حسين القمري، ومحمد أقضاض، وعبد الله شريق. ومن جهة أخرى، انتعشت الحركة الإعلامية في المنطقة بظهور مجموعة من الجرائد والصحف والمجلات الثقافية المتنوعة. لا يمكن الحديث عن مرحلة البناء الثقافي إلا بعد تشييد مجموعة من المركبات الثقافية في منطقة الريف، خاصة في الناظور والحسيمة.
تتزامن مرحلة النضج والازدهار الثقافي في منطقة الريف مع بداية العقد الثاني من سنوات الألفية الثالثة، أي مع تعيين المندوب الجديد (حفيظ بدري)، بعد المندوب السابق (لحسن الشرفي) الذي كانت مرحلته مرحلة بناء وتوطئة.
ومن ثم، لم تعرف الثقافة انتعاشها الملحوظ في منطقة الريف إلا مع الفنان والمبدع (حفيظ بدري) الذي شهدت فترته زخما كبيرا من المهرجانات والملتقيات والندوات والمؤتمرات المحلية والجهوية والوطنية والدولية، منها: المهرجان العربي للقصة القصيرة جدا، والمهرجان المتوسطي، ومهرجان مسرح الطفل لحركة الطفولة الشعبية، ومهرجان الأيام المسرحية، ومهرجان الشعر الأمازيغي، ومهرجان السينما الدولي. فضلا عن العديد من الأنشطة الثقافية والمعارض التشكيلية، إلى أن أصبحت مدينة الناظور مركزا ثقافيا وطنيا لا يستهان به، بل أصبحت المنطقة عاصمة للقصة القصيرة جدا، ومقرا دائما للرابطة العربية للقصة القصيرة جدا، وقبلة فنية لمسرح الطفل، وذاكرة تاريخية للسينما، وعاصمة للمسرح الأمازيغي، ومدرسة نقدية متميزة في المغرب والوطن العربي مع كل جملة من لأسماء منهم جميل حمداوي ونجيب العوفي وعبد الله شريق ومحمد أقضاض وبشير القمري وأحمد أعراب الطريسي ومحمد الولي وفريد أمعظشو وجمال الدين الخضيري وميمون حرش وعيسى الدودي ونور الدين الفيلالي وعلي الصديقي وغيرهم.