العقل والإيمان في الإسلام | |||
|
|||
|
يقوم الإيمان في الإسلام على قاعدتين أساسيتين هما الحرية والمسؤولية. فالإنسان حرّ في الاختيار. وهو محاسَب أمام الله عن خياراته. فقد أرسل الله الرسل ليرشدوا الناس إلَى الحق وليس لإكراههم عليه. وللإنسان أن يختار بين الرشد والغيّ. وما كان له أن يفعل ذلك من دون أن يعمل عقله الذي خلقه الله فيه؛ ولذلك لا محاسبة لمن لا عقل له.
وقد فرّق القرآن الكريم بين مرتبة الإسلام التي هي الإقرار، ومرتبة الإيمان التي هي التصديق، لقوله –تعالى-: ﴿قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يَدخُل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يَلِتْكُمْ من أعمالكم شيئاً إنّ الله غفور رحيم﴾(1). ثم عرّف الإيمان بقوله: ﴿إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون﴾(2).
فالمؤمنون، كما تصرّح هذه الآية، ليسوا أولئك الذين أقرّوا بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسوله الله وحسب، وإنما هم الذين زادوا على إقرارهم هذا بأن صدّقوا بوحدانية الله ورسالة رسوله تصديقاً طرد الريب من نفوسهم، فجاهدوا في سبيل الله جهاداً لم يقتصر على الجهاد الأصغر الذي هو الجهاد بالروح والمال، بل تعدّاه إلَى الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس. فصحّ بذلك وصفهم بالصادقين، إذ بلغوا المعرفة التي تخوّلهم عبادة الله كأنهم يرونه، تلك العبادة التي هي الإحسان واليقين، وهي المرحلة العليا في الدين الحنيف(3).
ولأن العقل هو أساس الحرية، والحرية هي أساس الإيمان، فلا بد من التوقف أولاً أمام موقع الحرية في الإسلام.
من حيث المبدأ هناك عبارة مأثورة للإمام علي -رضي الله عنه- يقول فيها: (ربِ مَن أعطيته العقل فماذا حرمته؟.. ومَن حرمته العقل فماذا أعطيته؟..)
وإذا كان لا إيمان لمن لا عقل له، فإن كل تكليف شرعي يسقط حكماً عن المختل عقلياً.
في الأساس فإن الكلمتين (العقل والاعتقال) مشتقتين من مصدر واحد. فيُقال عَقَلَ البعير، أي جمع قوائمه بحيث يجعله غير قادر على الحركة. وفي الأثر، أن أعرابيّاً جاء إلَى الرسول محمد (ص) وترك ناقته من دون أن يربطها.. ولما عاد إلَى حيث تركها لم يجدها.. فحزن واضطرب. ولما بلغ الأمر رسول الله، قال الرسول للأعرابي: اعقلها -أي اربطها- وتوكل على الله.
ويُقال لغةً أن العاقل هو الذي يعتقل لسانه، ويصونه عن الزلاّت. وأن العقل يسمى عقلاً لأنه يكبح جماح صاحبه عن النزوات والأهواء وعن الغلو والتطرف، ويحول تالياً دون وقوعه في المآزق والمخاطر.
أما الحرية، فقد عرّفتها الموسوعة الإسلامية بأنها (القدرة على الاختيار بين الممكنات بما يحقق إنسانية الإنسان)(4).
وعرّفتها الموسوعة العربية العالمية بأنها (الحالة التي يستطيع فيها الأفراد أن يختاروا ويقرروا ويفعلوا بوحي من إرادتهم دونما أية ضغوط من أي نوع عليهم)(5).
هذا في التعريف العام للحرية، ولكن عندما يتعلق الأمر بالدين فإن الأمر يحتاج إلَى تفصيل أوسع.
إن القرآن الكريم هو المصدر الأول للفكر وللتشريع الإسلاميين.
والقرآن الكريم يقول: ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾(6).
ويقول أيضاً ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي﴾(7). و(لا) هنا ليست ناهية، بمعنى لا تكرهوا الناس على اعتناق الدين، ولكنها نافية، بمعنى لا يكون إيمان ولا عقيدة ولا دين بالإكراه.
ويقول القرآن الكريم كذلك على لسان النبي هود -عليه السلام- مخاطباً قومه الذين أرسله الله إليهم هادياً ومبشراً: ﴿قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعُمِّيتْ عليكم، أنلزِمُكُمُوها وأنتم لها كارهون﴾(8).
تبين هذه الآيات الكريمة مدى تجذّر الحرية في العقيدة الإسلامية. فالدين ليس ما يدين به الإنسان في الظاهر على جهة الإكراه، إنما الدين هو المنعقد في القلب، لأن ما هو دين في الحقيقة هو من أفعال القلوب.. كما قال ابن الأنباري – أما ما يُكْرَهُ عليها الإنسان فليس بدين حقيقة – كما أن من أُكْرِهَ على الكفر ليس بكافر.
ومع ذلك لا بد من هذا التساؤل:
هل هناك فرق بين الحرية الدينية وحرية الاعتقاد؟
وهل هناك فرق بين حرية الاعتقاد وحرية التفكير؟
ثم أين تنتهي المسؤوليات الدنيوية وأين تبدأ المسؤوليات الأخروية المترتبة عن ممارسة هذه الحريات؟.. أين ينتهي الحق القانوني للفرد وأين تبدأ مسؤوليته أمام الله وليس أمام منظمة من هنا أَو من هناك؟.
في الأساس سوّى الله النفس الإنسانية وألهمها فجورها وتقواها. وترك الله للإنسان حرية الاختيار، بين الفجور والتقوى، على أن يتعرض للمساءلة يوم الحساب ثواباً أَو عقاباً. والذي يحاسب هو الله. والله لم يعط إنساناً حق محاسبة الناس على ايمانهم أَو على كفرهم. إن الحكم بين الناس على ما هم فيه من اختلافات عقدية، مهمة إلهية لا إنسانوية. ذلك أن الإنسان أياً كان موقعه من الاختلاف العقائدي هو طرف. والطرف لا يكون حَكَماً. إن الحكم إلا لله. ثم إن أي طرف يمنح نفسه حق النيابة عن الله وإصدار الأحكام باسمه يحول صيغة الاختلاف من اختلاف على الله إلَى خلاف مع الله. فالله أجلّ وأكبر وأعظم من أن يعطي وكالة لأي إنسان أن يتحدث باسمه (باستثناء الأنبياء والرُسل طبعاً الذين يختارهم من الملائكة ومن الناس وينتدبهم لهداية الإنس والجن).
إن الحرية هي عطاء من الله للإنسان. وما أعطاه الله لا يحجبه إنسان. ثم إن المبدأ الذي شاءه الله وقدره لتنظيم الحياة الإنسانية هو مبدأ الحرية، مصحوباً بمبدأ المحاسبة. والمبدآن لا يقومان إلا على العقل. فلا حرية من دون عقل. ولا محاسبة لمن لا يعقل أفعاله. فانتزاع الحرية أَو حجبها أَو مصادرتها، مخالف للإرادة الإلهية، ومحاسبة الناس للناس على خياراتهم الحرة مخالف أيضاً للإرادة الإلهية.
والعقل هو الضابط لممارسة الحرية وهو الأساس لمحاسبة الاختيار الحر ومن ثم السلوك الحر.
ولكن لا بد هنا من الإشارة إلَى أن التعارف يكون بين المختلفين المتباينين فكراً في الرأي والأحكام. وما كان الاختلاف بين الناس إلا نتيجة لتعدد خياراتهم ورؤاهم، وكذلك لتعدد الرؤى التي تقودهم إليها عقولهم؛ وما كان لهذا التعدد أن يكون من دون العقل الذي يتمتع بحرية الاختيار. لم يقل القرآن الكريم وجعلناكم شعوباً وقبائل لتتوحدوا في عقيدة واحدة أَو تحت مظلة إيمان واحد في إطار اجتهاد فقهي واحد؛ ولكنه قال: (لتعارفوا)، أي لتستخدموا العقل في إقامة علاقاتكم على قاعدة على ما بينكم من اختلاف وتباين سواء في العقيدة أَو في الاجتهاد حول تفاصيل العقيدة؛ فالمعرفة المتبادلة تقود إلَى التفهم المتبادل، فالتفاهم المتبادل، فالاحترام المتبادل، وكلها أمور تقوم على العقل. ويوم الحساب يحكم الله بين الناس فيما هم فيه مختلفون. فالحكمة الإلهية كما حددها القرآن الكريم ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم﴾(9).
وهذا يعني أن مشيئة الله هي أن لا يكون الناس أمة واحدة، بل أمماً وشعوباً. ويعني أيضاً أنه حتى لو كانوا أمة واحدة فسوف يظلون مختلفين، إلا من رَحِمَ ربك. ويعني كذلك أن الله خلقهم من أجل ذلك. أي من أجل أن يكونوا أمماً وشعوباً مختلفة ولكنها مدعوة إلَى التعارف.. بفعل العقل.
يقوم الاختلاف، الذي هو مظهر أساسي وجوهري من مظاهر تجليات العقل، على أساس ما ورد في الآية ﴿لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنّك في الأمر وادع إلَى ربك إنك لعلى هدى مستقيم﴾(10). وهو الأساس نفسه الذي تؤكده الآية الأخرى﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات﴾(11).
إن تعدد المناسك (في الآية الأولى) وتعدد الشرائع والمناهج (في الآية الثانية) لا بد أن يؤدي إلَى تعدد صيغ الإيمان بالله الواحد ومن ثم إلَى تعدد الثقافات والمعتقدات والتقاليد والعادات والاجتهادات داخل الدين الواحد وحتى داخل المذهب الواحد، على النحو الذي هو سائد مسيحياً في تعدد الكنائس، وإسلامياً في تعدد المذاهب والمدارس الفقهية.
ولأن الأساس في الإسلام هو الحرية. فقد حدد القرآن الكريم مهمة الرسل بما يتوافق مع تجنب الإكراه.
﴿وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين﴾(12). ولا يمكن تبشير وإنذار وإبلاغ إلا أصحاب العقول.
﴿إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً﴾13 وقوله: ﴿أن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلَى ربه سبيلا﴾.
في ضوء هذه الوظائف للرُسل يبدو واضحاً مدى نبذ الإسلام للإكراه في الدين واحترامه لحرية الاختيار عند الإنسان. قال-تعالى-: ﴿قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فانما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها وما أنا عليكم بوكيل﴾(14).
وقال-سبحانه-:﴿ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها وما أنت عليهم بوكيل﴾. أي من استخدم عقله للإيمان بما أنزل الله، فلنفسه, وقال –سبحانه-: ﴿إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى﴾(15).
إن جزاء الهداية يعود إلَى المهتدي وعاقبة الضلال تعود إلَى الضال. وكل منهما مسؤول عن اختياره الحر للهدى أَو للضلال، من هنا فهو يتحمل مسؤولية هذا الاختيار أمام الله يوم القيامة.
وانطلاقاً من مبدأ الحرية الذي أكد عليها القرآن الكريم، تقوم القاعدتان الأساسيتان في الثقافة الإسلامية اللتان تحددان العلاقات الإنسانية العامة. والقاعدتان هما: التعارف والحوار.
وفي الاجتهاد الفقهي الذي يُعْمِلُ فيه الإنسان عقله لاستنباط الأحكام والقواعد الشرعية لا بد من التمييز بين النص الديني وفهم النص. فالنص في القرآن الكريم هو كلام إلهي. ولذلك فانه يمتاز بصفات رئيسة ثلاث:
أولاً: القدسية المستمدة من الله القدوس.
ثانياً: الإطلاقية، بمعنى أن المحدود من كلمات السور والآيات القرآنية يحمل اللامحدود من المعاني. ﴿قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً﴾.
ثالثاً: الديمومة، بمعنى أنه نصٌ ثابتٌ لا يتبدل ولا يتغير لأن مصدره هو الله -سبحانه وتعالى- أوحى به إلَى رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وخلافاً لذلك فإن فهم النص يتسم بصفات ثلاث مختلفة تماماً:
أولاً: الإنسانية: بمعنى أنه فهمٌ إنساني. وكل ما هو إنساني مفتوح على الصواب والخطأ. ولذلك فإنه فهم غير مقدس بخلاف النص المقدس.
ثانياً: النسبية: بمعنى أن الفهم الإنساني للنص الإلهي المطلق المعرفة هو فهم نسبي المعرفة، يزيد أَو ينقص بنسبة مستوى علم المجتهد في زمان معين وفي ظروف معينة. بخلاف النص الذي شاءه الله -تعالى- أن يكون صالحاً لكل زمان ومكان.
ثالثاً: التغييرية: بمعنى أن نسبية الفهم الإنساني غير المقدس لنص إلهي مقدس ومطلق المعرفة، تحتم مراجعة دائمة لهذا الفهم في ضوء المتغيرات التي تطرأ على الحياة الإنسانية وما يتكشف للإنسان من آيات ربه في نفسه وفي الكون من حوله.
في ضوء ذلك يمكن القول أن ما جاء به المجتهدون الأولون على أهميته ليس مقدساً وليس مطلقاً، وليس ثابتاً ودائماً. ولكنه يشكل ثروة تراثية وأساساً فكرياً وخلفية فقهية للاعتماد عليها وللاستنارة بها وللقياس عليها، لكنه مفتوح دائماً وبالضرورة على التطوير والتحديث والتغيير، وحتى على التخلي أَو الإلغاء بشرط واحد، وهو أن يستند ذلك كله إلَى الثوابت القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الصحيحة.
ولأن القضايا المعاصرة التي يواجهها الإسلام اليوم في العلوم الإنسانية وفي الطب والاقتصاد والمال والاجتماع وفي الحرب والسلم وسواها – هي على درجة كبيرة من التعقيد والتداخل، فإن الاجتهاد من حيث هو عمل العقل لاستنباط الأحكام من الثوابت لم يعد، عمل إنسان واحد، ولم يعد بالإمكان أن يكون عمل إنسان واحد، بل أصبح -بل يجب أن يُصبح- عمل مجالس فقهية تضم متخصصين في علوم الدين من جهة وفي علوم القضايا الحياتية التي يتطلب الاجتهاد العقلي بشأنها في جهة أخرى.
قال الله –تعالى-: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾.
والذكر الذي أنزله الله هو القرآن الكريم. والله حافظ لهذا الذكر، ولكنه ليس حافظاً لتفسيراتنا ولمفاهيمنا ولاجتهاداتنا له. إن كل التفسيرات والمفاهيم والاجتهادات الإنسانية قد تتغير وتتبدل ويبقى النص الإلهي وحده ثابتاً ومستمراً بحفظ الله.
لا يقلل ذلك على الإطلاق من أهمية الاجتهادات التي تزخر بها مكتباتنا الفقهية. فما كان للمجتهدين السابقين أن يتوصلوا إلَى ما توصلوا إليه من استقراء للنص ومن استخراج للأحكام من متنه لو لم يدركوا أهمية الحرية الفكرية التي منحها الله للإنسان وضرورة العمل بمقتضاها ولو لم يعملوا عقولهم على صياغة الأحكام الفقهية التي توصلوا إليها.. وهذا الإدراك ليس وقفاً عليهم. بل إنه حق لكل مسلم وواجب على كل عالِم مختص تتوفر فيه ولديه الأسس التي تؤهله للاجتهاد.
يقول الإمام علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه-: (عليكم بالنمط الأوسط الذي يلحق به الناس ويرجع إليه الغالي) (أي المتطرف).
ويقول الإمام الشاطبي في الموافقات (وهو مؤسس علم مقاصد الشريعة): (إن الشريعة جارية في التكليف لمقتضاها على الطريق الوسط العدل الآخذ بين الطرفين بقسط.. فإذا نظرتَ إلَى كليةٍ شرعية فتأملها جيدا ًحاملة على التوسط والاعتدال، ورأيت التوسط فيها لائحاً ومسلك الاعتدال واضحاً، وهو الأصل الذي يُرجع إليه والعقل الذي يُلجأ إليه).
إن الاجتهاد من حيث هو إيمان بالوحي وأعمال للعقل في الوقت نفسه، رافق الفكر الإسلامي منذ نشأته الأولى. وهو يحاول أن يشق طريقه اليوم بين السلفية والتجديد، وبين الماضوية والحداثة، وبين الأصالة والمعاصرة.
لقد فصّل الله -سبحانه وتعالى- القرآن الكريم لقوم يتفكرون فقال: ﴿كذلك نفصّل الآيات لقوم يتفكرون﴾(16).﴿إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾(17). ﴿أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجلٍ مسمى﴾(18).
(إن ألفاظاً للعقل ومشتقاته ومترادفاته وردت صراحة أربعاً وثلاثين مرة في القرآن، فضلاً عن ألفاظ النظر والتفكر والتذكر والتدبر وما إليها، وكل واحدة منها وردت عشرات المرات. وعلى الرغم من أن كلمة (عقل)لم ترد بحد ذاتها في القرآن، فإن ألفاظ القلب والقلوب والفؤاد والأفئدة والألباب وردت كلها بمعنى العقل منها قوله –تعالى-: ﴿إن شر الدواب عند الله الصمّ البكم الذين لا يعقلون﴾(19).
﴿أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أَو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾(20).
ولقد اختلف المفسرون في معنى لفظ الأمانة التي حملها الإنسان كما تقول الآية: ﴿إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان﴾(21). وما هي إلا العقل الذي وهبه الله الإنسان من دون سائر المخلوقات, فترتبت عليه من جراء ذلك مسؤوليات لم تترتب عليها، وهي المسؤوليات التي تترتب على حرية الاختيار. والدليل على صحة هذا التفسير إن هذه الآية جاءت في سياق الدعوة القرآنية إلَى اعتماد القول السديد ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم..﴾(22). وما سداد القول إلا من سداد الفكر وبه يكون صلاح العمل وغفران الذنوب)(23).
إن عملية التفكير والتدبير تقوم على الحرية. ومن ثم فإن الاجتهاد ما كان ليكون من دون حرية فكرية تمكّن المجتهد من مواءمة الواقع على النص.
لقد ورد في القرآن الكريم الفعل (عَقَلَ)، ووردت الدعوة إلَى التأمل وتحكيم العقل في أكثرمن ثمانمائة موضع. وأمرنا القرآن الكريم بالنظر بما يعني أن التفكر والتأمل والتعقل والدراسة والبحث في الكون وفي أنفسنا – هو فرض إلهي علينا الامتثال له والعمل بموجبه. ويقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: (إن الله عندما خلق العقل للإنسان أكنّ فيه حقيقة الحرية وخوله استخدامها بالإذن التكويني المستقر في الخلقة)(24).
هناك مقارنتان متناقضتان لقضية الإصلاح المنشود في العالم الإسلامي.
تستخدم القاعدة الأولى عبارات مثيرة للشبهة لما قد تتضمنه من تأويلات غير حميدة. من هذه العبارات مثلاً وجوب (إصلاح الإسلام من أجل إصلاح أحوال المسلمين). ومنها أيضاً ضرورة صياغة (إسلام جديد) يتماشى مع العصر ومع تحدياته.. وأياً تكن طبيعة النوايا التي تكمن خلف هذه العبارات، فإنها تشكل صدمة استفزازية تدعو إلَى الحذر والسلبية بل وإلى الرفض أيضاً.
أما القاعدة الثانية فإنها تنطلق من أن الإيمان هو قاعدة الإصلاح والتغيير؛ مؤكدة على أن العيب موضع الشكوى، هو في بعض المسلمين وليس في الإسلام. وأن الإصلاح بالاجتهاد من حيث المبدأ هو واجب ديني وليس مجرد استجابة لعوامل أخرى، داخلية كانت أَو خارجية.
صحيح أن الاجتهاد كعمل تشريعي لا ينطلق من فراغ. وصحيح أنه عمل فكري يرتبط بقواعد وبأصول ثابتة تتمثل في النصوص القرآنية الكريمة وفي الأحاديث النبوية الصحيحة، وتستنير بما شرعّه السلف الصالح من المجتهدين انطلاقاً من هذه القواعد والأصول؛ غير أن الصحيح أيضاً أن المسيرة الإنسانية هي في حالة تغيّر وتبدّل دائمين. وأن المتغيرات التي تفرضها تتطلب أحكاماً جديدة. والأحكام الجديدة لا تعني قواعد وأصول جديدة. فهذه القواعد والأصول ثابتة، كما قلنا، ولكن المتحرك هو العمل الفكري الإنساني الذي يجتهد لاستخراج تفسيرات جديدة منها، تلائم المتغيرات الحديثة وتواكب حركة العصر. لقد حدث ذلك في مراحل عديدة من تاريخ الاجتهاد في الإسلام. إلا أنه ما كان ليحدث لو لم يهب الله الإنسان الحرية التي فطره عليه، ولو لم تكن هذه الحرية صنواً لحق الاجتهاد، والتي من دونها ما كان اجتهاد في الأساس.
المقال منشور بمجلة التسامح العدد 16 …خريف 2006
************
الحواشي
*) باحث وأكاديمي من مصر.
1- سورة الحجرات، الآية 14.
2- سورة الحجرات، الآية 15.
3- سامي مكارم، (العرفان في مسلك التوحيد)، مؤسسة التراث الدرزي، بيروت، ص27-28.
4- الموسوعة الإسلامية الميسرة، دار صحارى، حلب، 1997م.
5- الموسوعة العربية العالمية، الرياض، 1996م.
6- سورة يونس، الآية 99.
7- سورة البقرة، الآية 256.
8- سورة هود، الآية 28.
9- سورة هود، الآيتان 118 و 119.
10- سورة الحج، الآية 67.
11- سورة المائدة، الآية 48.
12- سورة الأنعام، الآية 48.
13- سورة البقرة، الآية 119.
14- سورة يونس، الآية 108.
15- سورة النجم، الآية 30.
16- سورة يونس، الآية 24.
17- سورة الرعد، الآية 3. سورة الزمر الآية 42، سورة الجاثية، الآية 13.
18- سورة الروم، الآية 8.
19- سورة الأنفال، الآية 22.
20- سورة الحج، الآية 46.
21- سورة الأحزاب، الآية 72.
22- سورة الأحزاب، الآية 71.
23- محمد بعلبكي، (مفتاح النهضة في نور القرآن). (محاضرة ألقيت في المركز الثقافي الإسلامي، بيروت، 14 فبراير 1980م).
24- الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام)، ص169.
25- عبد الرحمن حللي، (حرية الاعتقاد في القرآن الكريم)، المركز الثقافي العربي، بيروت، طبعة 2001م، ص 82.
**********************
عن الموقع الالكتروني لمجلة التسامح
29 شتنبر 2013 |
الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي
على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…