الهوس الغربي الصّهيوني… وضياع الأمة العربية..
بقلم مصطفى قطبي

عن صحيفة “اقطاب “

28 شتنبر 2013
يراهن الغرب على سرعة قبولنا كعرب ومسلمين على غرائزنا، وعلى عصبياتنا، وعلى هشاشة منطق التدقيق والتفكير في حياتنا، فنحن أكثر شعوب العالم سرعة في قبول المعلومة المصنعة دون أن ندقق أو نحاول معرفتها إن كانت صادقة، أو كاذبة. نحن اليوم، في مواجهة حرب نفسية، وفي مواجهة جيوش ”الطابور الخامس” و وسائل إعلامية تسوّق المعلومة بخبث لم يستطع الشيطان نفسه، الذي تكفل بتضليل عباد الله الوصول إلى هذا النمط من الكذب والدجل، والتسويق.
ليس جديداً نفاق الغرب فيما يطرح من شعارات وعناوين لمواقفه وسياساته في قضايا العالم، فلم نعرف عن مواقف ذلك الغرب سوى الرياء والمداورة، إضافة إلى المساواة بين الضحية والجلاد، هذا إن حاول الإنصاف، لكنه سرعان ما يظهر وجه الامبريالي الاستعماري بشعارات فارغة المضمون، وبالأخص عندما يتحدث مسؤولوه عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير للشعوب، تلك المفاهيم التي أفقدت معانيها الحقيقية!
يكشف الموقف الغربي من الحراك على الساحة العربية، عن حقائق ومعضلات، من الحقائق أن الارتباك كان هو السائد في المرحلة الأولى من تعامل القارة العجوز مع ما يحدث في جنوبها، ومن الحقائق أيضاً أنها سرعان ما استعادت زمام المبادرة وسارعت إلى التحرك، محاولة الإسهام في توجيه بوصلة الأحداث لتحقيق مصالحها، أما المعضلات فربما كان أهمها السؤال الذي برز في بداية الأحداث: كيف توفق أوروبا بين مصلحتها مع الأنظمة الحاكمة التي اعتادتها وخبرتها، وكل الكلام الجميل الذي تردده ليل نهار عن حقوق الإنسان وحرياته، وهو ما تجلى لاحقاً في مواقف متناقضة، صراخ وسلاح ضد ليبيا وسورية، وصمت مخجل عن البحرين، وتردد مقيت بشأن اليمن، ناهيك عن ”إشادة” بالإصلاحات الجارية في دول الخليج، التي تسجل المستوى الأعلى في انتهاك حقوق الإنسان في العالم!

تبين لنا الصراعات الحاصلة في ليبيا ومصر واليمن وتونس وسورية كيف تعمل الديمقراطيات الغربية على دعم الإرهاب بالتعاون مع حلفائها: المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا…، وكيف تثير الحروب الأهلية في دول تنعم بالسلام متحولة إلى ديمقراطيات جانية ترتكب الجرائم بحق الإنسانية بهدف تحقيق مآرب جيوـ استراتيجية لصالح نخبتها الليبرالية، وكل هذا أمام جمود الرأي العام لديها. ويمكننا تفسير موت الرأي العام الغربي بشكل جزئي إلى قوة العقيدة التي تعمل على تركيبة الإيديولوجية الديمقراطية ونفوس هؤلاء المستفيدين من منافعها: وهي عقيدة عصمة الديمقراطية.‏
فوفقاً لهذه العقيدة لا يمكن أن تعمل الديمقراطية الغربية بشكل خاطئ إذ جميع سلوكياتها مستوحاة من شكل من أشكال الرعاية التي تحول الجريمة إلى عمل بطولي، وإلى حرب للاستيلاء على الموارد الطبيعية لدولة ما بإقحام الدول في حروب تحت تسمية تحقيق الحرية للشعوب ومن ثم جر تلك الشعوب إلى انتخابات تسيطر هي عليها تحت تسمية التعبير عن حرية الشعوب كما هو الحال في العراق، السودان وليبيا. حين تتساءلون حول مقدار براءة قادة الغرب بشأن بعض الأمور (مثل أحداث 11 أيلول، العراق، ليبيا وسورية) وتجسيدهم للديمقراطية وقيمها المفترضة تجدون أن المدافعين عن هذه العقيدة (أي عصمة ديمقراطيات الغرب) يطلقون خلفكم محققيهم المكلفين بفرض احترام عقيدتهم، وبالتالي منح الديمقراطيات الغربية نوايا سيئة في علاقاتها الدولية، وبالتالي الاعتراض على هذه العقيدة يعني تعريض النفس لتصبح هدفاً لإعدام إعلامي.
أما تساؤل الشعوب الغربية حول دوافع قادتهم هذا يعني توجيه أصابع الاتهام لهذه العقيدة وخطر اتهامهم بالتهتك (لأنك تتهم بالهذيان، معاداة السامية وأمريكا…) وحين تفكرون بأن نخبة هذه العقيدة ترتكب جرائم ضد الإنسانية بشكل متكرر ستفقدون احترامكم لهذه العقيدة وستجتذبون نقمة السلطة وحراسها.
فالرأي العام الغربي الغارق في عقيدة العصمة الديمقراطية دون أن يدري تجده مستعداً للدفاع عن المحقق الذي يجد فيه الرجل النزيه والمدافع عن القيم الديمقراطية كما يرى فيه حامياً للقانون والشرعية. فعلى سبيل المثال أي شخص يتجرأ ويواجه هذه العقيدة التي أثارت الصراع ضد ليبيا وسورية ويسلط الضوء على تسليح الغرب للإرهاب المتطرف الذي هو خلف الفوضى السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والإنسانية التي تعيشها هاتان الدولتان، ستوجه إليه أصابع الاتهام مباشرة على أنه يدعم هاتين الدولتين. وهذه العقيدة الغربية في عملها هذا تعمل على إسقاط أنظمة ليحل محلها طغاة/أدوات، يخدمون النخبة الغربية قاتلة البراءة وصانعة الحروب.
فالسمة الغرائبية العجائبية، هي التي تطلق اعتباراتها هذه الدرجة من السقوط القائم على الحقد والتزوير في السياسات الأوروبية والأميركية، ومعظمها توصف بأنها دول كبرى ولها تجارب وخبرات، كما يدعي منظروها في الديمقراطية، والتفاعل بين قوى العالم، وكلنا نعلم بأن هذه الدول (العظمى) هي عظمى بمقدراتها الاقتصادية والعسكرية، ولكنها تتحول إلى دول صغرى حينما يتصل الأمر بمصالح الكيان الإسرائيلي، وكلنا ندرك بأن السياسات الغربية تصدر عن نسق فكري إيديولوجي مؤسس وحاسم، وهناك تيار لا ينتهي من الرموز التي عمقت قواعد الفكر والإيديولوجيا في السياسات الغربية، لعل في مقدمتهم ”صموئيل هانتغتون” في فكرته القائمة على أن الحضارة الغربية وصلت إلى الذروة في حين تلاشت حضارات الشعوب والأمم على السفوح الجرداء وفي المنحدر وقعر الضياع ومتاهات الصحراء.‏
ومثل هذا الخط الغربي أيضاً فيلسوف آخر هو ”ماكس فيبر” ولا سيما في كتابه المشهور الذي يلح على الإعادة المستدامة للأخلاق (البروتستانتية) كمقدمة لإنتاج الأخلاق العالمية ولترسيخ مقدمة كبرى لتطور الرأسمالية في أوروبا برغم تعدد المدارس السوسيولوجية التي تعتمد الثقافة السياسية الغربية شرطاً أساسياً للاعتراف بشعوب العالم ولاكتساب درجة من التطور في بنائها الديمقراطي، والمهم في الأمر أن هذا الغرب في سلوكه مع العرب لا يصدر من فراغ وبالتالي لا يصب في الفراغ، والغرب المفعم بالأحقاد ونظرة التعالي على الإنسانية هو الذي ينطلق الآن من حقيقة أن تدمير الأوطان العربية صار واجباً على الغرب ولا يحتمل مثل هذا النزوع الوقوف عند بعض الاعتبارات ذات الطبيعة الشكلانية.‏
وأكثر من ذلك فإن المصلحة السياسية التي اتضح مع الوقت والتجربة أنها تتناقض بصورة كاملة مع الديمقراطية في المجال العربي، اختلطت في وقت ما بالدوافع الإنسانية الدنيا، وهو ما اتضح في موقف برلسكوني مثلاً من ليبيا، الذي انتقل من تقبيل يد القذافي إلى المشاركة في حرب الناتو، أو موقف ساركوزي الذي خلط، كأي طاغية شرقي، بين أموره وصفقاته الشخصية ومصالح فرنسا العليا ليقود الناتو باتجاه ليبيا.
والحق فإن الهواجس الغربية من نتائج الحراك العربي تتعدى ذلك إلى مسائل عدة، لعل أهمها: ملف الطاقة وقضية النفط وتداعياتها وتأثيراتها على القرار الغربي، ومشكلة اللاجئين وملف الهجرة، وبخاصة في ظل الأزمة المالية العالمية وتصاعد خطاب اليمين المتطرف، وإذا كان التوسع في ذلك يحتاج إلى بحث مستقل، فيكفي أن نسجل ما لاحظه المتابعون من أن فرنسا سارعت مع إيطاليا وعدد من الدول الغربية إلى التفكير في إلغاء اتفاقية “شينغن” التي تسمح بحرية السفر بين الدول الأعضاء فيها، كي لا ينتقل اللاجئون العرب من دولة لأخرى.
والآن، العصر هو عصر التضليل السياسي والإعلامي، ذلك أن التقدم التقني في وسائل الاتصالات والشبكات العنكبوتية وإعلام الفضائيات اخترق كل الحواجز بين دول العالم وشعوبها، وأصبح بالإمكان إطلاق كذبة لكي تصبح عند ملايين الناس حقيقة. وفي مقدمة الأكاذيب التي تتردد الآن أكذوبة حرص المجتمع الدولي على تحقيق الديمقراطية في منطقتنا العربية، وعلى حقوق الإنسان العربي، وتوفير الحماية للمدنيين.
والسؤال: هل الغرب فعلاً يهدف إلى تحقيق هذه الشعارات التي يرفعها، أم إن الأمر مجرد ستار للتدخل الأجنبي وتدويل الأزمات العربية؟
الوقائع على الأرض تفيد أن السعي لتدويل الأزمات الداخلية العربية هو الهدف، الأمر الذي يؤدي إلى إعادة معظم الدول العربية إلى حال الوصاية الأجنبية عليها والهيمنة على مقدراتها وهذا ما جرى في ليبيا حيث فرضت عليها وصاية حلف الناتو، وقبلها كان السودان، حيث فرضت عليه سياسة ”العصا والجزرة” عبر ضغوط وقرارات دولية حتى استجاب لفصل جنوب السودان عن شماله، وتحت مظلة ما يسمى القرارات الدولية تم احتلال العراق…
إذاً من المحيط الأطلسي، حيث جرى تدويل قضية الصحراء المغربية، إلى الخليج العربي المدول فعلاً من خلال القواعد العسكرية الجاثمة على أراضيه، مروراً بالسودان والصومال في العمق الإفريقي، أصبح التدخل الأجنبي حالة عامة في الوطن العربي… الآن، وبنشاط ملحوظ تجري المحاولات لتدويل الأوضاع في مصر من جهات لها مصلحة في ذلك.
الوقائع تشير إلى أن حلف الناتو يسعى سعياً محموماً للهيمنة العسكرية على منطقة الشرق الأوسط لنهب ثرواته الطبيعية من بترول وغاز وغيرهما، ما يساعد الولايات المتحدة في المنافسة الجارية مع الصين وغيرها من الاقتصادات الصاعدة، وعلى الوقوف في وجه روسيا عبر حرب استباقية ضدها لمنعها من استعادة نفوذها الدولي ودورها في الشرق الأوسط… فحلف الناتو يراهن، بل يعمل على استغلال المتغيرات العربية وتجييرها لمصلحته، بما يحقق مشروعاً أميركياً أوروبياً، يشمل عموم منطقة الشرق الأوسط، تُورَّط فيه تركيا ودول إسلامية وعربية، ما يساعد على محاولات إضعاف إيران وروسيا إقليمياً ودولياً، وعلى بسط الهيمنة على المنطقة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، ويفرض التطبيع من الدول العربية مع إسرائيل مع إنهاء كل ما يمت للمقاومة بصلة.
وتترافق وقائع مشاريع التدويل هذه مع وقائع عربية مؤلمة داخل بعض المجتمعات العربية من حيث انتشار وباء الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية وضعف المناعة في الجسم العربي لمقاومة هذا الوباء.
وتأتي هنا أيضاً وقائع إسرائيلية يجسدها ”نتنياهو”، ويترجمها عبر لاءاته المعروفة: لا لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، لا للعودة إلى حدود عام 1967، لا لتقسيم القدس التي ستبقى العاصمة الموحدة والأبدية للدولة اليهودية، لا لوقف الاستيطان، وأشار إلى أن الشارع العربي ـ حسب زعمه ـ آخذ في التحرك ضد حكوماته المحلية وليس ضد إسرائيل.
علاوة على ذلك، هناك وقائع إسرائيلية أخرى تتمثل في سعي إسرائيل المتواصل منذ عقود لدعم خلق دويلات طائفية في المنطقة العربية، كما حدث عندما قامت دولة سعد حداد في جنوب لبنان، وقيام دولة جنوب السودان مؤخراً، واستمرار المحاولات لتقسيم العراق، بعد أن أصبح الكيان الكردي واقعاً ملموساً على الأرض، وكذلك النشاط المحموم داخل مصر في محاولات لتقسيمها، ذلك أن وجود ”دويلات” طائفية دينية في المنطقة يساعد على حل معضلات إسرائيل الداخلية والخارجية، ويحقق شعار يهودية دولة إسرائيل أو ”إسرائيل دولة لليهود”.
في الوقت نفسه، فإن وجود مثل هذه الدويلات الطائفية الدينية في المنطقة على النحو الذي حصل بعد اتفاقية سايكس بيكو في مطلع القرن العشرين ونشوء دول عربية جديدة سيؤدي إلى نشوء صراعات بين هذه الدول، ودفعها إلى الاستعانة بالخارج وطلب النجدة، والتدخل لنصرة دولة على أخرى، وإلى إقامة تحالفات مع إسرائيل ومع دول أجنبية أخرى، كذلك حينما تنشأ مثل هذه الدويلات سترافقها مساع للتسابق على زيادة أعداد التابعين لكل طائفة أو مذهب، ما يفتح الباب أمام مشروع توطين الفلسطينيين في بعض الدول العربية، وبذلك تتم تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين وفقاً للمخطط الإسرائيلي القديم الجديد.
وفي ضوء ذلك كله، ستواصل إسرائيل بناء المستوطنات في القدس والضفة الغربية، مع زيادة ضغوطها على فلسطينيي 1948 لتهجير أكبر عددٍ ممكنٍ منهم إلى الدويلات التي ستنشأ وفق مخططات التقسيم التي جئنا على ذكرها، ومنها جعل الأردن الوطن الفلسطيني البديل مع بعض أجزاء الضفة الغربية.
إذاً، فالمشروع الإسرائيلي ما زال وسيبقى يراهن على صراعات عربية ـ عربية وعلى صراع عربي ـ إيراني على الصعيد الإقليمي، لأن مثل هذه الصراعات في الداخل العربي وعلى المستوى الإقليمي من شأنها صيانة أمن إسرائيل، وضمان تحقيق مشروعها التوسعي الاستيطاني، ومن شأنها أيضاً إنهاء نهج المقاومة لهذا المشروع ومن ثم يصبح العدو هو العربي الآخر، أو الإيراني، وبحيث ينسى العرب قضيتهم الأولى، قضية فلسطين.
وفي معمعة التضليل الإعلامي الغربي، فالمواطن الغربي لا يريد أو لا يستطيع أن يصدق سوى قادته ووسائل إعلامه التي يمكنها في هذه المرحلة التلاعب وإخفاء الحقائق عنه وهذا الفكر أقوى من هذا المواطن ومن دفاعه المناعي النفسي ويعارض العقيدة التي انغرست في تربيته البرجوازية منذ نعومة أظفاره. لأنه بحال أقر أنه بإمكان هذا التلاعب قد يصل إلى فقدان سماته وإلى الشك في طبيعة الديمقراطية الحقيقية لنظامه السياسي سيشهد سقوط جميع معتقداته في الفضيلة من اساسها.‏
فالتعرف على جرائم نخبة الغرب سواءً كانت جرائم سياسية أو جرائم إعلامية تتطلب الخروج عن الذات وعن المركزية الغربية ليفكر بأن الآخر ليس بالضرورة أن يكون بربرياً. ويفهمون أن قادتهم وإن تم انتخابهم ديمقراطياً لكن يمكن أن تكون أياديهم متورطة. لا يمكن لمحققي العقيدة (أي عصمة العقيدة الأوروبية) الارتقاء أبعد من غشاوتهم دون ان يفقدوا أيمانهم بنظامهم، ودون ان يفقدوا جميع المكاسب الشخصية التي قد يحصلون عليها من وجودهم وسط سلم دفاعهم عن عقيدتهم.‏ هذا ولا يمكن أن تحصلوا على أجوبة شافية من المستفيدين من العقيدة، فهم لا يكرهون شيئاً أكثر من الحقيقة، ذلك لأنهم لا يمتلكون ضميراً أخلاقياً فهم يستغلون الحروب ولا يستحقون من جانبنا حتى الحوار لأنهم هؤلاء هم من يُطلق عليهم الأطلسيين.‏
إن ما يوحّد النخبة السياسية، الثقافية والمالية الغربية هذه الإيديولوجية الأطلسية التي لا تحتمل الاعتراض إلا في الأمور الثانوية. فإذا كان من الممكن أن يتصادم رجال السياسة أو صحف اليمين واليسار حول الاجهاض وإلغاء قانون عقوبة الموت إلا انهم سيتوصلون دائماً إلى الإجماع حين يتعلق الأمر بالدفاع عن أسس الأطلسية. فهم سيجمعون للدفاع عن المعاهدات الأوروبية التي لم تعمل سوى على المذهب الليبرالي الذي فرضته واشنطن، ويجمعون أيضاً لتحالف الغرب مع الإسلام للأصوليين بهدف توجيه الربيع العربي لخدمة المصالح الخاصة لنخبتهم مدعين الدفاع عن قيم عصر التنوير.‏
فالغرب لم ينحرف قط عن طبيعته ولا استراح من وظيفته الاستعمارية وهو هائج يقتل وهو مهزوم يقتل، في صحوه يحقد وفي غفوته يعيد إنتاج الحقد حتى صارت دماء الشعوب ورسالات السماء ومنابع النور في العالم هي الأماكن المفضلة للهوس الغربي الاستعماري. وفي دورة الزمان الآثمة التقى الغرب بالصهيونية وهي موجته المستترة وهو خادمها الأمين وصارت القرون الحديثة مرتعاً لأخطر مغتصبين في التاريخ هما الغرب والصهيونية، ولم يكن ذلك كافياً في مشروعهما الموحد وكان لابد من ثالثة الأثافي وهي مجرد ملحقات وتوابع لكنها تملك دوراً مميزاً في النذالة وطاقة متجددة في وأد القيم ومطاردة الأنبياء والصالحين وتقبيل يد الجلاد وخيانة الشقيق والصديق، وكانت أنظمة الأعراب في جزيرة العرب هي المسند الرخيص الثالث من منظومة الغرب والصهيونية والأتباع في الداخل العربي.‏
وبدأت اللعبة الماكرة تتوطد ثم تنبعث على أسس الحقد الكامن القديم وفي اتجاه يراد فيه وله أن يصبح الحر عبداً والعبد سيداً أميراً أو شيخاً أو ملكاً. وفي أعماق الحقد تتدافع وتتلاطم موجات الهيمنة الغربية الصهيونية والتي مازالت تؤهل الأعراب لفعل الاغتيال بطريقة الاقتناص والاختلاس، والليل العربي بهيم وقد أرخى سدوله على كل أفق واصطادوا في الطريق أدلاء ومتطوعين، فرغوا أنفسهم لممارسة أقذر دور في حياة البشر أجمعين، وكان من الواجب على كل عربي طبيعي أن يكتشف ولو بصورة متأخرة أن الذيل في الداخل العربي يتحول إلى موكب من العباءات والخسة المموجة والألوان التي لا تستطيع أن تخفي تحتها ذلك الصنم القديم الذي تحول إلى تقاليد متجردة ورغبة متدفقة في وضع الإنسان والطاقة تحت تصرف الأجنبي والغريب، وللمنظومة الهمجية الثلاثية ارتجاجاتها وقدرتها على الطوي والانتشار وقد استحوذت في ذاتها صفة الليونة ومقدرة التشابه من الظاهر وتقمصت من الأفعى قدرتها على الالتفاف على ذاتها ووضع الرأس في موضع الذيل وبسط الذيل حتى حدود الرأس ووظيفة الرأس.‏
لقد أتقن الأعراب منطق الوظيفة السياسية، والآن لديهم براعة إتقان الجريمة السياسية والاجتماعية ضد بعضهم البعض، إنهم يعتقدون من خلال ذلك بأنهم رقم في الواقع الإقليمي ومخلب وناب لهما وزن في هدم المواقع ذات الطبيعة القومية والفعل الحضاري الإيجابي ومن هنا نستدل على مدى التوغل من قبل هذه الكيانات في الجريمة‏ لأنها صارت مصدر رزقهم السياسي والمنتج المادي اللازم لكي يقنعوا أنفسهم أنهم ذوو شأن ويحسنون تنفيذ الأوامر لاسيما حينما تصدر عن قوى الغرب الاستعماري بشقيه الأميركي والأوروبي.‏
نعم هكذا صار المشهد العربي الراهن، فالرأس هناك في واشنطن وباريس وأنقرة والذيل بجوار المقدسات الإسلامية والمسيحية وعلى ضفاف الخليج وفي استطالات كالبؤر الشاذة بعضها صار إسمه تونس الغنوشية والبعض الآخر صار إسمه مملكة الأردن، والذيول العربية هذه ليست ملحدة كافرة فحسب بل هي الإلحاد والكفر بذاته، ونحن لا نجد إنساناً ملحداً ولكننا اليوم نعثر على مشيخات وإمارات وممالك بنيت في أصل الإلحاد وتوطدت فيه واستمتعت بمواهبها عبر دوائره فصار قتل الشقيق وظيفة دائمة لهؤلاء الحكام وأتقن هؤلاء الدهاقنة المقنعون بالعباءات وبالعقال دون العقول فن إنتاج الجريمة بطابقيها المادي والمعنوي وفي اللغتين الإنجليزية والعربية وتنفس الغرب والصهيونية معاً الصعداء فها هم يقعون على كنز لا يقدر بثمن.‏
نعم. إن هناك أعراباً يقتلون العروبة وإن هناك مسلمين يغتالون الإسلام وإن هناك متخلفين يجففون الحضارة بإسم التقدم التكنولوجي، وكان لابد لهذا الدور عبر هذه المواصفات من مهام يكون صداها على وسع الكون ويكون مداها على امتداد التاريخ في أزمنته وعصوره، وحدث ما لم يكن في الحسبان، فإذا الأعراب عبيد الغرب وخدمه والمروجون لسمومه ومخدراته وانحرافاته الفكرية وغرائب الطباع والأفكار وأنماط السلوك التي اقتبسوها من حقيقة الصهيونية العالمية و دهاليز الأساطير اليهودية التلمودية، وما كان الدور مفاجئاً ولكنه انكشف بلا حياء أو تردد في هذه الأيام، فإذا آل سعود وآل ثاني وآل خليفة وأسماء أخرى ما أنزل الله بها من سلطان هي التي تقود معركة الاغتيال الكبير والتزوير الأكبر في التاريخ العربي والعالمي المعاصر.‏
في العالم العربي كنا نراهن على إيماننا المطلق بأن الغرب عدو، ونراهن على أن أمريكا هي العدو الأكبر، لأنها وراء أي عدوان إسرائيلي على أمتنا العربية، وعلى وجودنا العربي أرضاً ومقدسات، ووجوداً ثقافياً وحضارياً، وكنا نراهن على أن العدو المباشر للعرب والمسلمين هو إسرائيل، والصهيونية العالمية، وأن أي جهة تتعامل مع هذا العدو المباشر أو تدعمه، أو تعمل على تمريره في المحافل الدولية هي جهة معادية، وأن أي قول تقوله جهة إعلامية يصب في مصلحة إسرائيل والغرب، هو من غير جدال أو نقاش قول معاد، يجب رفضه، فهل ما زالت تلك القناعات قائمة في تفكيرنا، وعقولنا، وثقافتنا، وسلوكنا، ومواقفنا الفردية، والعامة على مستوى الأمة؟!

للأسف… تغيرت تلك القناعات، وبات الغرب عدو البارحة صديق اليوم… أمريكا اليوم زعيمة المسلمين والعرب، وإسرائيل صديقة الشعوب العربية، لم تكن خطورة إسرائيل في احتلالها لأرضنا، فنحن في العالم العربي، لم نكن نخرج من احتلال، حتى ندخل في احتلال آخر، و كنا ننتصر دائماً على هذا المحتل، لأنه لم يستطع الدخول إلى عقولنا، وثقافتنا، وفكرنا، وسلوكنا… إسرائيل اليوم نجحت في تحقيق هذا الدخول الخطير عبر الأنظمة العربية السياسية، والدينية، والثقافية، نحن اليوم أمام مدارس ثقافية وسياسية واقتصادية ومذهبية تسوّق إسرائيل للعبور إلينا، مدارس تدعو إلى رفض العروبة، والقومية، وتعمل على تكريس الثقافة القطرية، والمذهبية، والقبلية، والإثنية.‏
باختصار، هذا هو حال الأمة العربية الآن، أي انجرارها نحو مشاريع إقليمية ودولية مشبوهة، مع الافتقار إلى أي رؤية عربية مشتركة، أو مشروع عربي قومي يملأ الفراغ الحاصل في المنطقة، حيث المراهنات العربية على الخارج ما زالت هي السائدة. وعلى سبيل المثال، فقد راهن زعماء عرب على الأوروبيين في مطلع القرن العشرين، لمساعدتهم في التخلص من الحكم العثماني الذي كان يمارس سياسة التتريك والعنصرية، ولكن في نهاية المطاف وبعد أن قدَّم العرب المساعدة للأوروبيين، فوجئوا باقتسام المنطقة العربية وفق مخطط سايكس بيكو، وبمجيء استعمار جديد هو الاستعمار الغربي، وها هم العرب الآن يراهنون على الخارج من جديد، ويعيشون مرحلة جديدة من الاستقطابات الدولية والإقليمية في ظل غياب متواصل لمشروع عربي مشترك ولإرادة عربية واحدة، بل في ظل وجود حالة من التردي العربي لا مثيل لها في التاريخ الحديث…
في ضوء ذلك كله، لا بد من التأكيد على أن الديمقراطية السليمة والصحيحة هي التي تقوم على وحدة وطنية شعبية، وعلى ترسيخ الولاء الوطني، وعلى التمسك بالانتماء العربي وبالهوية العربية، وعلى رفض كل أشكال العنف والطائفية والتدخل الأجنبي… هذا هو الرد المطلوب على الحالة العربية السائدة وما فيها من ظواهر دخيلة، أبرزها محاولات التقسيم وخلق الفتن الطائفية والصراعات الأهلية، وطلبات التدويل والتدخل الأجنبي التي ازدادت في الآونة الأخيرة تحت مظلة ما يسمى حماية المدنيين وحقوق الإنسان.

 

مصطفى قطبي

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…