ظاهرة الانقطاع عن التعليم وإتيقا التربية
“لا يجب أن يساهم التعليم في رفع مستوى الوعي لوطننا الأرض فحسب وإنما ينبغي أن يسمح أيضا لهذا الوعي بأن يترجم الى ارادة تحقيق المواطنة الأرضية”[1]
أثار خبر انقطاع 100 ألف تلميذ عن مقاعد الدراسة في سنة 2011- 2012 فضول المعرفة وشهية السؤال وحرك العقل نحو تشخيص المشهد وإدراك العلل وتقصي الأسباب التي أدت الى مثل هذا الهدر الغريب للموارد البشرية وهذه الخسارة الفادحة للطاقات وتدبر المسالك المتاحة للخروج من هذا المنزلق وتجنب تكرار هذا الفشل وايقاف النزيف قبل الإستفحال.
فماهي الأسباب والعراقيل التي أدت الى مثل هذه النتائج؟ وكيف يمكن بناء تربية ترتكز على أسس علمية وفلسفية؟
1- الأسباب المؤدية الى الهدر:
يمكن تشخيص خمسة أسباب أفضت الى الانقطاع المبكر عن التمدرس بالنسبة الى عدد كبير من التلاميذ وبتشجيع من بعض الأولياء في بعض الأحيان دون رضاهم دون علمهم في أحيان أخرى:
– سبب اجتماعي: ويتمثل في الوضعية الهشة التي تعرفها بعض الأسر وتصاعد توتر داخل البيت وتفكك الروابط العائلية وتذرية العلاقات بسبب الصراع بين الأجيال والتنافس بين الذكور والإناث والمراوحة بين النموذج الذري والنموذج التقليدي.
– سبب اقتصادي: غلاء الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية للعائلة وارتفاع قيمة التكلفة المالية للسنة الدراسية للطالب الواحد وتفشي الدروس الخصوصية وعجز ميزانية العائلات عن سدادها مما يستوجب الاقتراض وارتفاع مديونيتها وكذلك تفشي البطالة لدى المتخرجين من الجامعات وندرة مواطن الشغل في القطاع الخاص وهشاشة التشغيل وكثرة حالات الطرد التعسفي من العمل.
– سبب سياسي: أثرت الفترة الانتقالية بعد حدوث الثورة سلبا على السلم الأهلي وسبب الصراع على السلطة ضبابية في الرؤية وحالة من الاحتقان وتفجر موجات من العنف والنزاع والتعصب وهو ما شنج الأنفس وارتسمت في الوجدان مشاعر سوداوية وردود أفعال والخوف من المجهول وتصاعد العدمية والسلبية.
– سبب بيداغوجي: تأخر اصلاح التعليم وضعف في البرامج وإعادة انتاج نفس منظومة الفساد وتكرار أساليب الترقيع وإسقاط سياسات حكم فاشلة على الساحة التربوية وتركيز على الأشكال والمظاهر والأرقام والإحصائيات والواجهات والشعارات وإهمال المضامين والقيم والمعايير والأفكار والبرامج الثرية.
فماهي القيم الفلسفية التي يجب أن تتأسس عليها المدرسة في المستقبل؟ وهل يمكن استنساخ تجارب ناجحة جاهزة أم ينبغي ابداع منوال محلي يتوافق مع الواقع الذاتي ويتماشى مع الخصووصية الثقافية للتعليم؟
2- فلسفة التربية:
يقترح أدغار موران توفير سبعة معارف أساسية في التعليم والثقافة في المستقبل بالنسبة للمجتمعات وتتعلق كلها بالكون والحياة في الأرض وبالكائن البشري والمجتمع الانساني والنوع البشري وقد قام باستنباطها من القناعات الدينية والأفكار الفلسفية والنظريات العلمية والتجارب الثقافية للمجموعات وتتمثل في تجاوز عمي المعرفة ومحاولة تفادي الخطأ والوهم واستثمارهما في العملية التربوية خاصة وأن الحقيقة هي خطأ وقع تصحيحه وبما أن المعرفة ليست تجربة جاهزة بل امتحان شاق ومواجهة شاملة بغية التغلب على المشاكل والتصدي للعوائق واجتياز المصاعب وتفادي الوقوع في الأخطاء. في مرحلة ثانية يقترح موران توفير مبادىء لمعرفة متصلة ودائمة وكونية تكون واعية بمجمل المعارف الجزئية والجهوية والقطاعية وتتجاوز التخصص والانفصال والتبسيط والاختزال نحو التكامل والتركيب والبنائية والتفاعل والتعقيد. بعد ذلك وفي مجال ثالث يطالب موران بأن يتحول الوضع البشري بمختلف أبعاده الفيزيائية والبيولوجية والنفسية والثقافية والاجتماعية والتاريخية الى مبحث رئيسي للتعليم والإطلالة على الوحدة في التعدد والكثرة في الواحد.
في مستوى رابع يتخذ موران من الهوية الكوكبية مدار للنظر ومركز الثقل بالنسبة للبحوث الفلسفية والعلمية ويلفت الانتباه الى قيم التواصل بين البشر والقواسم المشتركة بين الثقافات واللغات ويدعو الى الحوار والتبادل والتثاقف بين الهويات الخاصة. بعد ذلك من جهة خامسة ينصح موران بأن تواجه الفلسفة المعاصرة الاحتمالات واللاّيقينيات وذلك بعقلنة المباغت والمفاجىء والطارىء وغير المتوقع والإمكان والارتياب وتفسير الظواهر الشاذة والغريبة والمصادفة وتشفير لغز العديد من الأسرار في الطبيعة وبالتالي ينبغي استثمار قانون التطور في التعليم ومواجهة العارض والحادث.
في مستوى سادس يركز موران على ن الفهم ويدعو الى تدريس طرق الفهم والإفهام وذلك لإزالة سوء الفهم والفهم المسبق والفهم الخاطىء وتجنب سوء التفاهم بين الناس وبين المجموعات والتي تظهر في نزعات التمركز على الذات والعنصرية واستبعاد الغيرية وتحقيق التفاهم المتبادل والصداقة بين الشعوب والمحبة والسلام الأبدي في الكوكب.
في الأخير وفي لحظة سابعة يحاول موران تشييد اتيقا للنوع البشري وذلك بتركيزه على الثلاثية الشهيرة: فرد، مجتمع، نوع بشري والتحرك ضمن حقل يضم كل من الأنثربولوجي والاتيقي وينصح بقيام مواطنة كونية تقوم بمهام المراقبة المشتركة للوضع البشري في حالاتها الثلاثة وتحدد طبيعة العلاقات بين الفرد والمجتمع والنوع وتسهر على ضمان حياة جيدة على الأرض وتسعى الى تحقيق وجود أصيل. غير أن الاتيقا تختلف عن أخلاق الواجب وما تعاني منه من اكراه وقانونية مفروضة ومتصادمة مع الحرية الانسانية ولذلك ينصح موران بأن تستنبط مجموعة من الوجدان والضمير والوعي المعذب وأن تستفيد من التجارب وتتحاور مع جملة من الوقائع المتطورة وأن تحرص على المحايثة مع التاريخ.
لكن هل تكفينا هذه الوصفة التي قدمها أدغار موران؟ ألا يجب أن نبدع بأنفسنا الوصايا الخاصة بأسلوبنا في التربية؟
يمكن أن نقترح أربع ركائز وأسس يقوم عليها التعليم لدينا وتشكل اللبنة الأولى لفلسفة التربية في حضارة اقرأ وهي كما يلي:
– الحذر Prudence: ويعني الانتباه الى الواقع والحضور في الراهن وتجنب الغفلة و والضياع في العالم والاحتراس من الايديولوجيا المغلقة وتحقيق اليقظة والتبصر والوعي المتقد والرؤية المنفتحة والتفطن الى أشكال الاغتراب التي يمكن أن يقع فريستها الانسان.
– التعقلRaisonabilité: وهو جودة الروية وإصابة الحد الأوسط وحسن التمييز بين الجيد والردىء وقوة العزيمة والسداد في العمل وبعد النظر دون زيادة أو نقصان وتجنب الافراط والتفريط مثل التباطىء والتعجل ومثل الجبن والتهور.
– البراكسيس Praxix: تعطي الأولوية للعمل على النظر وأسبقية التجربة على النظرية وتفرد قيمة للممارسة على حساب التأمل المعرفي وتعود الى الواقع الموضوعي قبل الارتماء بين أحضان الظن والخيال والماوراء والسفر في عالم المجردات.
– اتيقا التربية Ethique de l’eduction تتمثل في التنصيص على رسالة التعليم الأخلاقية والتنويرية وتبين نبل مقاصدها ومدنية ثمارها في مقابل أمراض الجهل والهمجية والتوحش وهي مصائب يمكن ان تحل بالبشرية في ظل غياب تربية متكاملة.
غاية المراد أن اتيقا التربية تستبعد أساليب حشو الأدمغة والبرمجة والتصنيع وانتاج حشود يمكن توجيهها والتحكم فيها وتحرص على تنمية المواهب والحريات وملكات الابداع والخلق وتهذيب الأذواق وتترك زمام المبادرة للمتعلمين لكي ينتجوا من خلال ثقافتهم ومكتسباتهم المعرفية ومهاراتهم التجريبية أنفسهم وأنماط تواجدهم في العالم.
من المفروض كذلك تحقيق استقلالية الفضاء التربوي عن التجاذبات السياسية والنزعات السلطوية وعلمنة المؤسسة التربوية وابعادها عن النظرة الدينية المذهبية وتركيز قيم التسامح الديني والاختلاف والتنوع والتعددية وجعلها مسألة وطنية تستلزم التنوير العمومي والتثقيف المستمر والتجديد البيداغوجي الناجع وترتكز على فلسفة منفتحة.
فهل تحل هذه المبادىء المشكلة التربوية؟ وكيف يمكن أن نربي فلذات أكبادنا لزمن غير زماننا؟ وما السبيل الى تعليم عصري يمكن الانسان في حفظ البقاء وحسن العاقبة؟
******
عن موقع التجديد العربي