هذا موقف مثقف عربي شريف!..

 بقلم نجم عبد الكريم

 ايلاف/25/9/2013
***********
عن موقع صحيفة ايلاف
الخميس 26 شتنبر 2013
ظلَّ أدباء ومفكرو شمال أفريقيا حتى سنوات ما قبل منتصف القرن الماضي على غير تواصل بأدباء ومفكري وقراء المشرق العربي.. فكثيرون لا يعرفون من هو محمود المسعدي صاحب (السد) و(حدَّث أبو هريرة فقال).. والذي يُعد قامة أدبية فكرية في تونس.. كذلك هو الحبابي، والعروي، والجابري، من أدباء المغرب، وفي ليبيا يندر أن نجد من يقرأ لعلي فهمي خشيم، وعلي مصراتي، وغيرهما باستثناء صادق النيهوم الذي خرج في معطياته على المألوف مما أوصلها الى القراء العرب.
الدكتور عبد السلام المسدّي المفكر والأديب التونسي يدخل ضمن هذا الاطار.. إلا أنه قد تجاوز ذلك على الصعيد الأكاديمي، حيث امتد نشاطه الى مناطق كثيرة في المشرق العربي.. التقيته منذ أكثر من عقد من الزمان في محافل أدبية متعددة، ولا أستطيع القول أن ما ستقرأونه هو نتاج للقاء محدد، وإنما هو تجمع لعدة لقاءات ومحاضرات ونشاطات ثقافية وفكرية كان يساهم فيها هنا وهناك.
•هناك شبه اجماع عند المفكرين والمثقفين العرب، أن الأمة العربية تمر بمرحلة من الانحطاط!!
– إذا سلمنا بذلك، فإن السبب هو أن الثقافة العربية كانت دائماً وأبداً، تصهر في جنباتها الممكن وغير الممكن، والمعقول وغير اللامعقول، والثقافة العربية كانت دائماً وعلى امتداد التاريخ مثل الحبل الذي يرق، ويسمك، و..، و..
•عفواً في أي من العصور العربية حدث هذا المعقول، وغير المعقول؟!
– رائد العقلانية بتلك الصفة كان منذ القرن الأول والثاني هو الجاحظ، وفي القرن الرابع كان أبو حيان التوحيدي، وفي منتصف القرن الخامس كان أبو حامد الغزالي، ونظراً للظروف التي كان يعيشها فقد سعى الى الشكل الديني من وجهة نظر كلامية، ولذلك يعتبر الغزالي مؤسساً للعقلانية داخل الاطار الديني، وداخل المنظومة الفقهية والكلامية..
•هل جداله مع ابن رشد يدخل ضمن هذا الاطار؟!
أبو حامد الغزالي رد على فئة من الفلاسفة كانت قد سبقته وخاصة أبو نصر الفارابي، والقضية من هذه الزاوية هي قضية جزئية كلامية، تتعلق فيما يخص يوم الحشر وانبعاث الأجساد والأرواح، وقِدَم العالم.. لكن أبا حامد الغزالي عندما قام بتأليف موسوعته الكبرى المسماة (احياء علوم الدين)، كان مستشرفاً انحناء الخط الى الأسفل على يد الفقهاء، وتحول العلم الديني الى علم بالمتاجرة، ولذلك نهض هو ليُحيي ما كان قد مات، أو ما كان مهدداً بأن يموت، ومن هنا جاءت تسمية الكتاب بـ (الأحياء)، ليس فقط إحياء الصفاء الأول للسنة النبوية أو الدينية، وإنما جاء (الإحياء) بمحاولة ادخال العقل لتفسير ما هو غيبي، وما هو تعبدي.. وهكذا إلى أن نصل إلى ابن رشد، ولكنه في مجال الفلسفة والدين.. لا ننسى هذا فهو رجل مزدوج الثقافة والتكوين، وختمت هذه الحلقة العقلانية بـ ابن خلدون واضع علم الاجتماع أو علم العمران.. وإن كنت أنا شخصياً أرى أن ابن خلدون قد أسس لشيء آخر مازلنا لم ننتبه إليه وهو أن ابن خلدون قد أسس لعلم (بيستيمولوجية) عربية، أسس لمشروع تقوم فيه الرؤيا النظرية على أساس فلسفي بما هو نقد للعلم، وعلم بالعلم، وفلسفة للعلم..
في العصر الحديث، عندما حصلت الصدفة التاريخية مع الآخر كان العرب بصدد النهوض فقُمعت نهضتهم بسبب حركة استعمارية جاءت في القرن التاسع عشر نتيجة للثورة الصناعية، التي كانت تبحث لنفسها عن مجال حيوي، فبدأت بجمع الموارد الطبيعية من معادن مختزنة في بطون الأرض، ثم من تسويق أو ترويج لبضاعتها.. ومنذ ذلك الحين، لم تكف يد الآخر عن التدخل لنسف أي مشروع كبير ينهض بالأمة العربية، وما زلنا لحد الآن نعيش السيناريو التاريخي مرة أخرى، استمراراً لنسف الخط الذي يمارسه الآخر، حتى تتفكك قوى الثقافة الكبرى، وعلى رأسها الثقافة العربية.
•معنى ذلك أن الدكتور المسدّي يعزو ما تعانيه الأمة العربية من إنحطاط في العصر الراهن إلى حِقب الإستعمار التي تعرض لها الوطن العربي؟!
– بل يمكن أن أضيف أسباباً أخرى ترد على خواطرنا، هي في حد ذاتها من إملاءات الاستعمار – أيضاً – وعلى سبيل المثال غياب حرية الفكر في وطننا العربي، وفي هذا السياق لا بد لي أن أشير أن المسؤول عن غياب الحرية هو ذلك التواطؤ الذي ساهمت فيه عدة عوامل منها أن هناك صاحب المال  وهناك صاحب الفكر، وهناك صاحب القرار، ومعلوم أن العلاقة بين هؤلاء الأطراف الثلاثة، علاقة متوترة جداً في بيئتنا العربية، فنعلم أن رجل المال هو في حاجة إلى رجل السياسة، لأنه في حاجة إلى الأمن والاستقرار حتى يستثمر، ونعلم أن صاحب القرار- أي رجل السياسة – هو في حاجة إلى صاحب المال.. وكثيراً ما يغازله، وكثيراً ما يسترضيه.. لكن رجل الفكر يظل في بيئتنا العربية مرضياً عنه مادام مُعلناً الولاء، ومغضوباً عليه كلما حاول أن يجرؤ بكلمة نقدية!!
•المزاوجة بين المال والفكر التي كَثُرَ التبشير بها في السنوات القليلة الماضية، ترى ماهو دور السواد الأعظم من الناس البسطاء فيها؟!
– أظن أن رجل السياسة، ورجل المال في بلادنا العربية كانا إلى وقت قريب يستشعران أنهما في غنى عن رجل الفكر، ولكن الوضع الكوني قد انفجر، وأصبح صاحب القرار وصاحب المال يؤمنا إيماناً قوياً بما كان المثقف يقوله على أن البديهيات، وهو أن الحرب، والصراع الكوني اليوم، إنما هو صراع ذو خلفية ثقافية، واليوم أيضاً أفاقت الأنطمة العربية لتعترف بأن هذه الحروب، حرب ثقافية، لن يقوى عليها رجل السياسة، ولن يستطيع أن يسويها المال، وإنما من الضروري أن ينبري رجال الفكر لاعادة التوازن إلى هذه التركيبة الثلاثية..
فمنذ الأحداث الزلزالية الكبرى، صار رجل السياسة يستنجد خفية برجل الفكر، حتى يساعده على مقاومة الشراسة الثقافية المكتسحة!!
•أمن أجل هذا أصبح بعض رجال السياسة ممن استولوا على المال وهم أصحاب قرار أيضاً، صاروا يصدرون كتباً، ليجمع الواحد منهم ثلاث صفات هي : المال، والقرار، والفكر..؟!
– أنا شخصياً لا أعتقد أن نشر كتاب أو كتابين، أو كتابة روايتين كافٍ للإلتحاق برجل الفكر، فالفكر إحتراف، والتفكير في الشأن العام، أن يتحول الأكاديمي والمثقف إلى مثقف عضوي، أن يعيش رجل الفكر هموم مجتمعه، وهموم التاريخ، وهموم السياسة، هذا الإختصاص لا يمكن الاستغناء عنه، ولا أحد بقادر على أن يقوم بدل الآخر، ولذلك فنحن نرى منذ إنهيار الكتلة الاشتراكية عام (1985) أن الذي هيأ لهذا الخصم الجديد هم رجال الفكر (فوكوياما)، و (هنتنجتون)، وهما من المثقفين الذين حركوا الآلة السياسية، وحركوا صناع القرار، ونحن مطالبون في وطننا العربي أن يستفيق أهل الفكر وأصحاب القرار، ورجال المال، لأن رجل الفكر هو الذي يمكن أن يتصدى بأمانة في مواجهة الحرب الثقافية..
•كأن الدكتور المسدّي يشير الى مصطلح (مثقفو السلطة)؟!
– أنا لا أرى في هذه الإضافة ما يفيد تحليلنا، اللهم إلا أن يكون المثقف في أحد أمرين : إما أن يمارس على نفسه الرقابة الذاتية، إرضاءً لصاحب السلطة، أو أن لا يمارس هذه الرقابة الذاتية، ويمكن أن يكون قريباً من السلطة، بل ويكون جريئاً في موقفه مع كل المحاذير التي يمكن أن يصادفها.. وكذلك هناك الكثير من المثقفين الذين هم غير ملتزمين وغير موالين، ولكنهم لا يجرأون على أن يعالجوا واقعهم التاريخي معالجة عضوية، أقول : أن رجل المال ورجل السياسة الآن، إذا أرادا أن يستعينا، وأن يستنجدا برجل الفكر، الوهم الشائع هو أن هؤلاء إذا ضغطوا على الزر أتاهم المثقف ساعياً!!..
•أليست هذه حقيقة يا دكتور؟!
– مع الأسف هذا جزء كبير من الحقيقة، ولكن نحن نريد أن نصلح الأشياء، ونريد أن نؤسسس لعمل جديد غير مسبوق، نريد أن نسلك طريقاً غير معبدة..
•ألا ترى معي يا دكتور أن بعض المثقفين، صاروا يؤثرون ذواتهم حتى وإن كان ذلك على حساب مصالح الأمة!!.. وإن البعض منهم لديه الوصفة الترقيعية التي يحلل بها لنفسه كل المحرمات؟!
– أنا في الحقيقة أُحمّل رجل الفكر المسؤلية، والأعباء، أكثر مما أُحمّل رجل القرار.. ولكن في هذه الظروف، أنا شخصياً أتصور أن استنجاد رجل السياسة أو رجل المال بالمثقف يجب أن يتم وفق بنود ظنية، أو مصرح بها في التعامل، فالمثقف له شروط يجب أن تُحترم، حتى يدخل في عملية شراكة المال والسياسة والفكر، وهناك شرط وحيد يمكن أن يغنينا عن كل ما سواه، وهو أن يكون المثقف العربي في بلاده متمتعاً ولو بالقليل القليل، مما يتمتع به المثقف الغربي، فالمثقف في الغرب يُحمل كلامه على محمل من براءة التأويل، ويقبل منه النقد البناء، وله الحق في حرية القول والتعبير، وألا يُتهم بالخيانة الوطنية إلا إذا كان موالياً لجهة أمنية..!!
فلن يتوفر لأمتنا السير قُدماً بطريق العدالة والرخاء، ما لم يتوفر للمثقف ولرجل الفكر حرية النقد البناء.
•بعد هذه السنوات الطويلة من حياتك داعياً إلى إعلاء كلمة الحق، ومناصراً للثقافة والفكر، فكيف ترى ما يخبئه المستقبل للعلاقة بين الثقافة والسلطة؟!
– المأساة لها عدة وجوه، ورجل الثقافة والفكر في بلادنا العربي، قد دفع دفعاً إلى أن يؤثر السلامة!!
•لماذا؟!
– خوفاً من إفتقاده براءة التأويل فيما يقول….!!
•وإذا حدث، وتمت إساءة الظن في معطياته الفكرية والثقافية؟!
– إذا حدث ذلك، فإنه سيدفع الضريبة!!.. يدفعها غالية الثمن مع الأسف، ويقدم نفسه وقوداً للمعركة، دون أن يستفيد أحد بنار تلك المعركة؟!!.. فهي عملية إنتحارية تبدأ فردية، ثم تصبح جماعية.. لأن المثقف الحقيقي في بلادنا يعيش توتر العلاقة مع السلطة، ولذلك أصبح المثقفون في كثير من واقعنا العربي، يمارسون على أنفسهم رقابة ذاتية، يصلون بها – أحياناً – إلى أبعادٍ لم يطلبها أحد منهم، لأن في الأنظمة العربية هناك خطوط حمراء.. وخطوط خضراء.. وبين الأحمر والأخضر.. هناك خطوط صفراء.. فدور المثقف العربي أن يكون دائماً في الصف الأول على الخط الأحمر، ينقر نقرات نقدية، إذا أشعلت له الأضواء يمكن أن يتأخر ويعود، أما مثقفونا في كثير من الأوطان، قد أصبحوا يهجرون المنطقة الحمراء، ويهجرون المنطقة الصفراء، ويقعون فقط عند المنطقة الخضراء..
هذا من ناحية، من ناحية ثانية، تعقد المسألة الثقافية في أوطاننا العربية بامتزاج ما هو دنيوي، بما هو غيبي.. وهذه الإمتزاج أفسد على كثير من رجال الفكر طمأنينة التفكير.. رجل الثقافة العربية في حاجة إلى أمن نفسي، يريد أن يشتغل دون خوف من سوء التأويل لدى السلطة، وكذلك من سوء التأويل لدى السلطة الدينية والعقائدية، كما حدث لفرج فودة مثلاً..
•هناك في واقعنا العربي إخواناً قد نسجوا لأنفسهم خطاباً يصل إلى حد الإستفزاز، وشعارهم (من لم يكن معي، فهو ضدّي)..
– مقاطعاً – : أظن أن المثقف العربي في الوقت الراهن محكوم عليه أن يفصل فصلاً منهجياً وقاطعاً بين إسلام ديني، وإسلام سياسي، والخطر الأكبر أن الذين يمارسون الإسلام السياسي، لا يسلمون بأن هناك إسلاماً دينياً.. يمكن ألا ينسجم معهم، وهم ينصبون من أنفسهم كناطقين فرديين باسم المرجعية الدينية، وهنا تتعقد من جديد علاقة السلطة برجال الفكر، انطلاقاً من هذه المحاذير، فهي نوع من الرد الوقائي تلجأ إليه السلطات العربية، حتى لا يزج بالمجتمعات في فتنة التأويل والغيب..!!
•دكتور : إن الاجتهادات التي أدت إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر استعدت علينا قطاعات كبيرة من العالم، وبالتالي، فإن الهوة بيننا وبين النهوض من كبوة الانحطاط العام صارت شاسعة!!
– أنا لي إحتراز كبير في الربط الآلي بين الحادي عشر من سبتمبر، وموجة الإسلام السياسي النضالي بهذا الشكل القاطع، ولا أظن الغرب كان يطمئن إلى مفهوم الإسلام الديني، حتى وإن خلا من شحنة الإسلام السياسي..
•بعد أن كان هذا الغرب يشجع الاسلام السياسي بالمال والعتاد لخدمة أهدافه!!
– تماماً.. لأن الأمريكان قد شيدوا ثقافة خاصة بهم منذ أن تأسست أمريكا، حيث أسسوا فكراً لمفهوم البراجماتية.. التي تحولت من تيار فلسفي إلى إنجاز عملي سياسي.. والبراجماتية هذه تقتضي ألا نعول على مثاليات سابقة مسلم بها، وإنها تقضي فقط بحسابات المصلحة.. عاشت الولايات المتحدة على زخم البراجماتية إلى أن جاء دورها إثر الحرب العالمية الثانية، وفجرت القنبلة النووية، وبدأت البراجماتية تدخل في مأزق.. المأزق الثاني عندما فقدت الولايات المتحدة سلطة الإستشراف لما يحدث في بعض المناطق، ولا سيما عندما راهنت على الشاه إلى آخر لحظة، ثم فوجئت بما لم تكن تقرأ له حساباً.. وكذلك ثبت فشل الذرائعية أو البراجماتية في فيتنام، بعد أن دخلت هذه البراجماتية سباق بدون فرامل.. ونفس هذه البراجماتية كانت تقتضي أن تتخذ أمريكا من المسلمين حلفاء استراتيجيين، ولكنها ضيَّعت على نفسها الفرصة، وبعد أن سقطت كتلة الإشتراكية، كان لزاماً أن تبحث عن خصم جديد تواجهه، والتناقض الكبير في هذه البراجماتية الأمريكية أنها دائماً تحوّل العلاقات السياسية، إلى علاقة ميكيافيلية، فما فعلته في أفغانستان، وما فعلته مع العراق ضد إيران.. كل هذه صور مؤيدة لفلسفة الميكافيلية الأمريكية الجديدة.. والحادي عشر من سبتمبر كان إفرازاً طبيعياً لأشياء كثيرة، الأمريكان هم مسؤولون عنها بالدرجة الأولى.. لأن الشراسة الأمريكية في نطاق العولمة، وفي نطاق المنظومة الإقتصادية الجديدة، وسيولة المال.. والشركات العملاقة المخترقة، كل هذا بعث الخوف في كل الأطراف.. إذاً ما آل إليه الوضع الكوني الآن بمنطق التاريخ هو نتيجة حتمية ضرورية لاختلال التوازن الدي تسببت فيه الولايات المتحدة بشكل خاص.. مما جعلنا نعيش آلاماً لم تعشها الإنسانية منذ عهد الامبراطورية الرومانية..!!
كأن الدكتور المسدّي يريد أن يقول – بالنسبة لعلاقة الإسلام السياسي بأمريكا في الماضي ومواجهتها اليوم – ينطبق عليه مثل (إنقلاب السحر على الساحر)..؟!
– طبعاً.. هنا تتحول إلى مسألة استشرافية، وبكل معطيات القراءة الإستشرافية للتاريخ، فإن هذا وضع لن يدوم، ولن يدوم المرء على ما هو عليه..
•لن يدوم بالنسبة لنا، أو بالنسبة لهم؟!
– بالنسبة لأمريكا طبعاً.. وأنا بخلاف كل أولئك الذين يؤمنون بسياسة الأمر الواقع، أدري ما أقول، وأعي ما أقول : إذا تواصلت هيستيريا القوة، فإن كل العالم سيدخل في مرحلة تحرير وطني جديد.. ولن نكون فرادى هذه المرة، فكل أطراف العالم سيكونون مستعمرات استعماراً اليكترونياً، استعماراً إفتراضياً، فعندما سيكثر الضغط، سينفجر الوضع!!
•معنى ذلك أن مكافحة الإرهاب ستتطور إلى مواجهات عالمية؟!
– هذا بدون أي ريب، ولا يتصور أن الأمريكيين سيسمحون بفكرة المغامرة، والسياسة الكونية بنيت في العصر الحديث – منذ النهضة الحديثة – على أساس أن رجل المغامرة لا يصلح للقيادة السياسية، اليوم نشهد صورة واضحة للمغامرة، قمة الهرم في أمريكا تبحث عن مغامرة بأي ثمن كان.. وبمنطق التاريخ أظن أن هذا الأمر يجعل من العالم يعيش في حالات من التوتر، وأحياناً يصل هذا التوتر إلى حد الزلازل.. ولكن مهما كانت شدة هذا التوتر، وقوة تلك الزلازل فإنها ستستمر إلى حين.. أي عدة سنوات، ولكن ما بعد ذلك ستكون هناك إعادة تشكيل جديد لمراسم الكون ولخريطة العالم، بما يعيد التوازن للعالم بشكل من الأشكال..
•وهل تعتقد أن العالم العربي سيعتلي موقعاً مرموقاً عندما يعاد تشكيل توازن العالم حسب رأيك..؟!
– إذا لم نكن أقوياء من الداخل، فسنكون في مؤخرة الصفوف!!
•وأين تكمن مقومات قوتنا؟!
– يمكن أن نقول أن السمة الصريحة للواقع العربي، قد تمثلت في فشل الجامعة العربية، التي كانت هي النواة المفترضة لأن تؤسس شيئاً لمستقبل الأمة العربية، ونعلم جميعاً كيف تلونت المصطلحات!! فبعد أن كنا نتحدث عن الوحدة العربية، صرنا نتحدث عن الإتحاد العربي، إلى أن تنازلنا شيئاً فشيئاً، فصار الكلام عن المصالح المشتركة، ثم العمل العربي الموحد، فالعمل العربي المشترك.. إلى أن ظهرت التكتلات الإقليمية، التي يقال رسمياً أنها لا تماحك المؤسسة الأم – أي الجامعة العربية – ولكن بشكل من الأشكال، هي كذلك!! وفي كل هذا هناك عطالة تاريخية، وسبات تاريخي، ناهيك عن تجارب الاتحادات التي أجهضت.
•والحل..؟!
– ما ينقصنا في واقعنا العربي هو أننا نفتقد إلى أناس يكونون قد عاشوا تجربة النضال السياسي، ثم عاشوا تجربة العمل السياسي بتحمل المسؤولية، ثم يتفرغون إلى ممارسة التفكير السياسي أي (التنظير).. دون أن تغازلهم أنفسهم في أن يعودوا إلى النضال الميداني أو إلى العمل بالمسؤليات.. هؤلاء هم قطع نادر في واقعنا العربي، لأننا مع الأسف نلاحظ دائماً أن رجل الفكر إذا استنجدت به السياسة، وتحمل مسؤولية سياسية، فإنه وهو داخل المسؤولية، ينزع عن نفسه ثوب العالم المفكر، ويلبس جلباب السياسة، وعندما يخرج، وينزع قميص السياسة، فإنه لا يجد جلباب العلم من جديد!!
وللأسف ليس من تقاليدنا نحن العرب أن واحداً منا قد صاغ مشروعاً ثقافياً أو تربوياً أو إقتصادياً، فتناديه القمة السياسية، بأن يأتي لتطبيق ذلك، لأن الفرد عندنا يذوب أمام البطل الأول أو أمام قمة الهرم….
•كيف من الممكن اجتياز مهمة إرضاء قمة الهرم على حساب المجموع؟!
– بالوعي.. وأنا ألاحظ الآن وعياً جديداً عند السياسيين العرب يحدث الآن، ولكني أنظر إليه من ثقب ضيق جداً بعدسة مجهرية.. التحول الكبير الحاصل الآن هو واقع داخل ضمائر السياسيين العرب، فبعضهم أفاقوا فوجدوا أنفسهم أمام حقائق جديدة، أُعطي شاهداً واحداً فقط.. في مساء الحادي عشر من سبتمبر، كان بعض الرؤساء العرب قد بادروا بالتعبير عن موقفهم، بوصف ذلك الحدث، بأنه جريمة وحشية فظيعة، هل كان السياسي العربي في تلك اللحظة مستشرفاً لما ستفسر إليه تلك الأحداث..؟! قطعاً لا.. ولذلك فإن هذا القول فيضٌ وسخاء، وكثيراً ما يكون هذا السخاء سبباً في أن يصبح صاحبه في منطقة التسلل، على ملعب السياسة الدولية..
•دعني دكتور أنتقل معك بالحديث عن تقييمك للفضائيات، وتقييمك لما تبثه من الغث، والتجهيل، والتهميش..؟!
– هي تدخل في منظومة أوسع منها في كثيرٍ من الحالات لتثبت أن أنظمتنا العربية تستلذ في أن يعزف الشباب عن الإهتمام بالسياسة وأن يفرغ لكل ما هو امتاع وتسلية.. حتى أن مفهوم الثقافة عندنا أصبح مفهوماً خاطئاً، أستطيع أن أطلق عليه ثقافة التلهية، والإلهاء.. طبعاً هذه الفضائيات تأتي لتكريس هذا الواقع، وتغطي أكبر مساحة من وقتها للعمل التهريجي الذي يشوش على الفكر، وعلى الضمير، وعلى الإستقرار، وعلى فلسفة الأشياء..
وإذا بنا نستلذ، وننساق مع كامل الأسف، في هذا النطاق تدخل الفضائيات.. والغريب أن فضائيات القطاع الخاص، نجد أن نصيب الفكر والثقافة فيها متميز عن الفضائيات الرسمية!!
•هل الكتاب قد ظُلم في خضم هذا التهافت على الفضائيات؟!
– تماماً.. الكتاب ظُلم قبل كل شيء، بشيء آخر، منذ تدخلت أجهزة النقد الدولية، وقدمت الوصفات من البنك الدولي.. تريد هذه الوصفات أن تضغط على الدعم الحكومي.. فقدمت النصائح لدول العالم الثالث بأن تقلص من الدعم، وإذا بالكتاب يكون الكبش الأول، والضحية الأولى في نطاق إعادة الهيكلة الإقتصادية العالمية، وضُرب الكتاب ضربة قاضية في كثير من الأوطان العربية، نتيجة هذا الوضع الإقتصادي الجديد..
•أمتفائل أنت يا دكتور مسدّي لأوضاعنا العربية، سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً..؟!
– أنا شخصياً أؤمن بالنضال، أؤمن أن المثقف ليس في وسعه أن يسكت على كلمة الحق، ولكن من باب النجاع يمكن لصياغة الموقف أن تكتف بمرونة يتحاشى بها المفكر المصادمة المباشرة مع صاحب القرار.. أؤمن أن النضال بالفكر، بالكتابة، بالاصلاح  بالرأي، هو دين لا ينقطع.. ومجرد أن يتلبس الإنسان بفكرة النضال، يلغي من ذهنه سؤال النجاح والفشل..
على هذا الأساس، من الناحية الفكرية أنا متفائل جداً، والأحداث العالمية ستعيننا في هذا الباب.. أما من الناحية السياسية فلا أقول أنني متشائم، إنما المرحلة ما زالت بعيدة من الوصول إلى الديموقراطية بمفهومها الصحيح..

‫شاهد أيضًا‬

الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي

على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…