عن موقع صحيفة المجلة
المكان الروائي من النقد إلى فلسفة الأدب
عالم الرواية
لا يخضع المكان الروائي للانخطاف، وبالمقابل، لا يخضع المكان الشعري للسرد أو الحوار. بنية الفنين هذين، من خلال الإحساس بالزمن، تجعل العلاقة مع المكان مختلفة للغاية، إلى الدرجة التي تجعل الوعي الشعري للمكان مناقضا للوعي الروائي للمكان ذاته. إلا أن المكان الأدبي لا يخضع وحسب، لاختلافات الجنس الأدبي، بل لسيرورة الوعي نفسه، فمكان الطفولة مختلف عن مكان الرشد، وهو هو ذاته لم يتغير.
الحنين، أو التعلق، وهما المشمولان بالوعي الطفولي للمكان، اعتمد عليهما كثيرا في فهم عملية الأدب، بصفة عامة، لا، بل ذهب البعض لفهم الأدب باعتباره حنينيا أو تعلقيا (نوستالجيا). وفي العادة، ينوب الجسد، في الشعر، عن المكان في الرواية، بمعنى أن الجسد الحامل للوعي الشعري والمعبر عنه في علاقة ما مع المكان، يكون هو البديل العملي لمكان الرواية، فبذلك يتوقف الوصف والسرد وتتصعد اللحظة، ويكون الالتحام ما بين المكان الخارجي، والمكان الرمزي، الجسد، هو النقطة التي تتفجر فيها اللحظة الشعرية. لا يستطيع الوعي الشعري التوقف طويلا أمام المكان إلا باختزال مضغوط للحد الأقصى، والوقت المسموح لإبراز دور المكان في الوعي الشعري لا يتجاوز في كل الأحوال وقت اللحظة الشعرية المكثفة، الانخطافية وحادة الاختزال. هنا يكون الجسد مكانا متنقلا حاملا للمكان الأكبر، المنسي، والمشفر والمختزل لكل تعلق وتشبث أو تذكر.
في الوعي الروائي، على العكس، تماما، من الجسد البديل الشعري، يكون المكان سلطة على الجسد، ونافيا لرمزيته وكثافته، ولا يكون الجسد أكثر من أداة أو جزء تفصيلي من صورة المكان الخارجي. فيأتي ضمير المتكلم الخاص بالراوي ليعيد تركيب الجزء المحذوف من القصة، فتتم عملية المكان بالكامل. أما عندما يكون ضمير الغائب مفتاحا للسرد وشكلا من أشكال الروي، فإن تأجيل الجسد، الحامل الرمزي للمكان الشعري، يكون الرابطة الأقرب ما بين رمزية الجسد الشعري وحضور المكان الحقيقي. وللمفارقة فإن ضمير الغائب في الروي قد يعيد سلطة الجسد الرمزي الشعري أكثر من ضمير المتكلم، الأخير الذي يكون أحيانا مجرد موجه للحبكة أو موزع للأدوار وكاشف لبنية الشخصية الروائية.
من هنا، يكتسب ضمير الغائب سحرا مضاعفا في الروي، أكثر من ضمير المتكلم. وفي وقفة مع القصة الفذة لميلان كونديرا «البطء» نجد افتتاح الحدث كله بالإشارة إلى سيارة تريد تجاوز سيارة أحدهم (الراوي، ربما)، ويتساءل الراوي عن سبب سرعة الرجل وتجاهله لزوجته التي تجلس إلى جانبه دون أن يضع يده على يدها! لا بل إن سلطة الغائب تتوسع في هذه القصة الفذة من خلال حضور أمير من القرن الثامن عشر والنزول من عربته، في مشهدية سحرية تحبس الأنفاس، خصوصا بعد مرور القصة على غائب يشعل أركان القصة كلها، وهي ما عرفت بسيدة تركت قصتها الغرامية السرية في كتاب يتناوب فيه ضمير المتكلم وضمير الغائب تقنية سرد روائي سمح للمؤلف عالي الموهبة بأن يقطع تراتبيات السرد والوصف كيف يشاء دون أن يحس القارئ بأي إعاقة للقصة.
يأتي دوستويفسكي في المرتبة الأولى لسرد الغائب، فلا الجسد الشعري، ولا الروائي، ما يؤسس للسرد، إنما تعدد الأصوات. فالجسد موضوع للقتل وللتعذيب، وهو حامل شقي للمعرفة الناتجة من فرد معزول وآخرين متحدين معا دونه هو، كما في رواية «في قبوي». أما «الأبله» فيطيح بالأشخاص قتلا أو انتحارا أو جنونا. هذا الانسداد المكاني يفهمه البعض على طريقة المؤلف نفسه، والذي كان «الخلاص» الديني هاجسه المسيطر، مما يجعل من المكان علبة تضم أشخاصا تتحدث في سرها وتتخيل مع ذاتها في حواريات تتعدد فيها أصوات الأنا الواحدة، أكثر مما هو حوار بين اثنين، فتكون التفاصيل دقة في التعبير لا نقلا للصورة. على عكس أدب نجيب محفوظ، مثلا، والذي يغدو فيه الحوار صورة لمعركة أحجام ما بين المتحدثين، وتأتي تفاصيل المكان لإحداث مزيد من الربط ما بين حجم الشخصية وحصتها في الصراع، والمكان الذي نشأت فيه، كما لو أن نجيب محفوظ يريد أن يقول إن ملامح هذه الشخصيات ليست مستمدة من تفاصيل الشارع والجسور والحارات الصغيرة، وحسب، بل هي جزء لحمي منه، تتحرك كيف يتحرك. خصوصا أن البيئة الدرامية التي تتحرك فيها هذه الشخصيات، لم تتأثر بالتغيرات الدراماتيكية التي شهدها القرن العشرون وكان التحول فيها بطيئا للغاية.
محفوظ ودوستويفسكي
والغرابة أن نقطة جوهرية تجمع مابين دوستويفسكي ومحفوظ، وهي التعلق القومي بالجماعة، أو التعصب القومي، من خلال كون دوستويفسكي في الأصل من الديسمبريين المعتنقين لما كان يسمى وقتها العرق السلافي، وكانت ستتسبب بقتله كما يعلم الجميع بصدور حكم الإعدام عليه الذي وصل درجة التنفيذ إلى اللحظات الأخيرة قبل العفو!، ومحفوظ في بداياته كان يحفر في التاريخ الفرعوني لمصر، إلا أنه حدد اتجاهاته أكثر في تجربته المديدة. وعلى الرغم من هذه النقطة المشتركة فإن العلاقة مع المكان اتخذت شكلا مختلفا ما بين الاثنين إلى الحد الأقصى.
يمكن أن تطيح الأفكار بالمكان الروائي، وتحوله إلى نقاط علامات رمزية الطابع. وهو ما يتأثر بالوعي الديني، أو الصوفي في شكل خاص. فيصبح تاريخيا أومتخيلا أو لا وجود له. وفي قراءة الألماني هيرمان هيسه لا وجود لمكان روائي بالمرة، خصوصا في روايته الأشهر «لعبة الكريات الزجاجية» وكذلك في «ذئب البراري» و«سد هارتا». لكن في قصصه القصيرة التي كتبها في شبابه «نولب الربيع الباكر» فهناك نوعية مختلفة وأكثر بساطة في الأسلوبية ويراها البعض أجمل من الغموض والتعقيد الذي شاب روايته التي منح عليها جائزة نوبل للآداب وهي «لعبة الكريات الزجاجية». والأخيرة من أدب نوبل الذي لم يجد شعبية واسعة لدى محبي الرواية، إلا أنها تقوم على حبكة محكمة عالية الترميز، مما منحها صعوبة وإلغازا شديدين. على عكس الأميركي هيرمان ميلفل الذي ملأ روايته «موبي ديك» بتفاصيل عالم البحر والمحيطات، إلى الدرجة التي توصل فيها علماء إلى استخراج قاموس للمصطلحات البحرية من رواية موبي ديك!
المكان الشعري، لا ينهك النص بتفاصيل المجسم الخارجي الذي هو الواقع. وهو مجرد ملهم لخلق مناسبة أو اقتناصها. من هنا نجد المكان، في الشعر، يتلخص بالطبيعة أكثر مما يتلخص بالواقع الخارجي المدني. لهذا تكثر مفردات: الليل، الظلام، الصباح، الأرض، الشجر، العاصفة، الريح، الماء، البحر، النهر، الغابة، الرعد، البرق، المطر.. إلى آخر المسميات المشيرة للطبيعة كعالم مستقل عن الوعي البشري. على عكس المكان الواقعي الذي هو نتاج وعي إنساني مباشر، وهي كل ما يتعلق بشؤون الإنجاز البشري من بناء وألوان ومستخدمات وسوى ذلك. لهذا نرى الخلاف الأكبر في المدارس الشعرية الجديدة، يكمن فيما يسمونه أنفسهم «التفاصيل» أو «شعرية التفاصيل» التي تنهض بوجه شعرية الطبيعة، فعوضا عن مسميات الطبيعة المشار إليها آنفا، نجد مسميات الواقع كمثل مقبض الباب والمرآة والوجه والمساحيق وأدوات الطعام واللباس، وسوى ذلك من مسميات الواقع الإنساني.
منشأ فلسفي
أهمية المكان في العمل الأدبي، ذات منشأ فلسفي، في المقام الأول. خصوصا في عالم الرواية. فلسفي، لأنه نظرة كليانية إلى العالم قد تكون صاعدة أو هابطة. سماوية أو بشرية. ومهما أوغلت الأدوات النقدية في هذا الأمر، فإن المكان يظل مستقلا في نظرية المعرفة باعتباره جزءا منفردا عن الوعي ويتم تصديره من خلال رسائل وحمولات دلالية. لذلك عندما يكثر رواة أفذاذ كدوستويفسكي من تعدد الأصوات، في إشارة إلى هيمنة الذات على العالم، فلا يمكن الركون إلى أساس نقدي، وحسب، للموضوع، بل الجانب الفلسفي أو النظرة إلى العالم، التي هي في الأصل من يجعل المكان تفاصيل أو حوارات أو افتقادا أو مكانا وحسب تتحرك فيه الشخوص. وهي المسألة التي خلت في كثير من الروي العربي – تجاوز هذه النقطة إبراهيم الكوني، عندما أصبح المكان لديه هو الراوي وكانت الصحراء سرد الآخر للذات – حيث تجاهل المؤلفون النظرة الفلسفية للعالم، أو الدينية، للقارئ وللشخصية في وقت واحد معا. ووقعت قصصهم تحت ضغط الموضوع لا الأدوات. أهمية نجيب محفوظ القصوى، أنه أسس لسرد فلسفي، في الأصل، لا مجرد لغو أو «رغي». فنحت التفاصيل والوضوح المجهري للشخصية، هو جزء من نسق معرفي قديم يبدأ بالاحترام الفطري للعالم الخارجي ومنحه مدلولات مختلفة أو مقدسة، كما عرف عن الحضارة الفرعونية التي تكتب أشكالا وتسمي الحروف صورا، وفي هذه الثقافة تأتي البصريات والتفاصيل كأدوات تعبيرية للغائب، أو المطلق. جاء أدب محفوظ مسكونا في هذا النظام الدلالي العميق، فكانت تفاصيله الظاهرية، إشارات ومرموزات لعالم يعج بالأسئلة التي لا إجابة لها. من هنا، يجب دراسة نجيب محفوظ في فلسفة الفن، لا النقد الأدبي. وهو ما نميل إليه، على الدوام، سواء في الشعر أو الرواية. وإلى ذلك موضوع المكان، الذي لا يستوعبه النقد الأدبي من كافة جوانبه، بقدر ما تطوف به الفلسفات ما بين الأنثروبولوجية منها أو السيميائية، وغيرها من أفكار تتنازل عن وضوح الأدوات النقدية، مقابل الفوز بفلسفة الصانع نفسه، وصولا إلى فلسفة المصنوع.
**************