نظام تعليمى مريض …
عن صحيفة الوطن المصرية
السبت 21 شتنبر 20103
«أخبرنى سأنسى.. أرنى فقد أتذكر.. أشركنى سأعى وأفهم».. . هذا مثل صينى ينطوى على حكمة عميقة لا يستلهمها إلا كل ذى عقل فهيم وبصيرة نيرة. وهى فى حد ذاتها تصلح شعاراً أو لافتة عريضة لنظام تعليمى ناجح، لأنها ترفض التلقين الذى يخاطب أردأ الملكات العقلية وهى «الذاكرة»، ويقوم فى أصله على تدفق المعلومات من فم المعلم إلى آذان التلاميذ، فلا تستقر فى أذهانهم إلا ساعات أو أياماً، ويتبخر أغلبها مع مرور الزمن، فتسقط بالتقادم، أو فور انتهاء الامتحانات. وتفضل هذه الحكمة المزاوجة بين السمعى والبصرى فى التعليم، لأنه أكثر قدرة على البقاء فى الذاكرة والأفهام، لمخاطبته حاستين مترابطتين، لكنها تحبذ الحد الأقصى من نظام التعليم الذى يقوم على الحوار بين المعلم والتلميذ، فيشرك الأول الثانى فى العملية التعليمية، ويتيح له فرصة إخراج كل ما لديه من طاقة عقلية، وقدرة على المناقشة العلمية والنقد، وصولاً إلى الإضافة والإبداع.
ومن أسف فإن نظامنا التعليمى ينتمى إلى الطريقة الأولى، التى تعتمد على الحفظ والتلقين، وتوصد الباب أمام الابتكار وإنتاج الجديد والملائم، الأمر الذى حول مدارسنا إلى ما يشبه «الكتاتيب» وحول جامعاتنا إلى مدارس أولية، فضعف مستوى الخريجين، وتضاءلت قدرتهم على أن يحوزوا منهج تفكير مناسباً فى حل مشكلاتهم الحياتية، علاوة على عدم ملاءمة الأغلبية منهم لسوق العمل، لأن الجهات التعليمية التى مروا بها، ثم لفظتهم إلى الشارع، لم تعن بالتدريب، قدر عنايتها بالتدجين، وتعمدها سلب التلميذ فى البداية والطالب فى النهاية أى قدرة على التفكير المستقل، وأى منطق لبناء موقف من المجتمع والعالم، بل والكون الفسيح.
وأضر هذا الوضع ضرراً بالغاً بالبحث العلمى، فبات يدور فى أغلبه حول «جمع المتفرق» أو «اختصار المسهب» و«تطويل المختصر»، ولم يرق إلى المستوى المناسب فى تأدية وظائف البحث الأخرى ومنها «تجلية الغامض» و«استكمال الناقص»، ولا تلوح فى الأفق أى بوادر على أنه سيصل عند أغلبية باحثينا إلى المرتبة الأسمى فى البحث والتدقيق وهى «نقد السائد» و«ابتكار الجديد»، وهما مرحلتان مهمتان ليس بالنسبة للعلم ومناهجه فحسب، بل أيضاً بالنسبة للحياة العملية، بمختلف اتجاهاتها ومناحيها.
فالمؤسسات التى تنتج كل شىء، ابتداء من الكلمة إلى الكتاب، ومن الإبرة إلى الصاروخ، فى حاجة ماسة إلى طاقة بشرية فاعلة، تصبح قيمة مضافة إلى عناصر الإنتاج، أو تشكل رأسمالاً بشرياً حقيقياً. ولن يتأتى هذا إلا بتعليم ناجع، وتدريب جاد ومستمر. ومن دون ذلك لن يكون هناك تقدم، ولا نهضة. وقد طبقت الأمم القوية هذه الحكمة، فرأت فى التعليم عموداً رئيسياً من أعمدة وجودها واستمرارها. وتستعيد الذاكرة فى هذا المقام واقعة نرددها دوماً للزعيم الفرنسى الكبير شارل ديجول حول أهمية التعليم، فهو عندما دخل إلى فرنسا بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها سأل صديقه الأديب الكبير أندريه مالرو، وهما يشهدان انهيار كل مرافق فرنسا ومؤسساتها وبنيتها التحتية: كيف حال الجامعة والقضاء؟ وعندما رد عليه قائلاً: بخير، تهللت أسارير ديجول وقال: الآن أستطيع أن أعيد بناء فرنسا.
نشر بصحيفة الوطن الخميس 18 شتنبر 2013
*****
ونحن فى حاجة ماسة إلى نظام تعليمى يلائم واقعنا، الروحى والمادى، ويوافق ظروفنا الاقتصادية والاجتماعية.
تعليم ينمى الثقافة العامة، والذوق الرفيع، والخلق القويم، والسعادة الغامرة، ويعيد صياغة علاقة الفرد بالحياة والكون على الوجه الأكمل، لينتشل الإنسان من أن يتحول إلى شىء أو سلعة رخيصة، ويراعى، فى الوقت ذاته، حاجة سوق العمل، فيوفر لها كوادر مدربة على أفضل وجه ممكن. ولا بد لهذا التعليم أن يراعى أيضاً ضرورة تعزيز القدرة على التفكير غير النمطى، وتحسين تعامل الفرد مع المشكلات الحياتية بتفاصيلها الدقيقة، والتكيف مع الظروف التى تواجهه فى حركاته وسكناته. فمن العبث أن تقذف مدارسنا وجامعاتنا إلى مختلف دروب الحياة كل سنة الملايين من أناس غير قادرين إلى إدارة حياتهم بصيغة سليمة، ترتقى بها، وتوفر على الإنسان الوقت والجهد والمال. وحين يحقق التعليم هذه الغايات وتلك الأهداف فإنه يعزز «القدرة الناعمة» للدولة، بعد أن يدفع إلى شرايينها قوة بشرية جاهزة لكل الاحتمالات، فى السراء والضراء، فى السلم والحرب.
وهذه العملية ليست محض افتراض ينبع من الخيال الجامح، وليست مجرد رجاء ينبت من الأمانى المقنعة، بل هى معطيات وحقائق جلية، تراكمت على مدار السنين من تجارب أمم أخرى، أخرجها نظامها التعليمى الناجع من الظلمات إلى النور، ومن التخلف إلى التقدم. والأمثلة فى هذا المقام عديدة، لا يمكن نكرانها، وهى ليست مقصورة على الغرب فقط، بل موجودة فى أماكن أخرى على سطح الأرض، ولعل التجربة الماليزية خير برهان، وأنصع مثال، على استخدام التعليم كأداة أساسية فى عملية التنمية.
وكى نرتقى هذه الدرجة فنحن نحتاج إلى ثورة هائلة فى مناهجنا التعليمية، فنسند تأليفها إلى من يجدر بهم أن يؤتمنوا على صناعة عقل أمة، وليس إلى شلة من المنتفعين والمرتزقة التى تتعامل مع الأمر بأنانية شديدة، لا يهمها سوى الحصول على بعض الأموال من الخزينة العامة لقاء كتب دراسية هزيلة. ونحتاج أيضاً إلى الاهتمام بالمعلم، ماديا ومعنويا، وتأهيله تربويا وعلميا للقيام بالخدمة الجليلة المنوطة به، والاعتراف بمحورية دوره فى العملية التعليمية برمتها، وإفساح المجال له، ليصول ويجول، على هامش المناهج المقررة، فيمنح تلاميذه بعض معرفته، ويحضهم على القراءة والمطالعة، بلا حدود وفى كل الاتجاهات. وهذه المسألة تفترض أن يتم تغيير طريقة اختيار المعلمين المتبعة حاليا، وإبداع طريقة جديدة، تعطى فرصة للنابهين والمجدين والمجيدين والمبدعين بأن يصلوا إلى المدارس والجامعات.
ونحتاج أيضاً إلى اتباع طريقة من التعليم «التكاملى» و«المستمر» الذى لا يقتصر على المدرسة فقط، بل تشاركها المؤسسات الاجتماعية الأخرى، من أسر ودور عبادة ونواد وجمعيات أهلية. ولا أعنى هنا أن تقوم هذه المؤسسات بتكرار مناهج المدارس فى صيغة دروس خصوصية كما هو متبع حاليا، بل يكون لها مناهجها الخاصة، المتفق عليها، والتى يضعها تربويون وعلماء ومفكرون ومختصون، كما هى الحال بالنسبة للمدارس. كما لا يجب أن يختصر التعليم فى مراحل العمر الأولى، فينتهى بمجرد تخرج الفرد من المدرسة الثانوية الفنية أو الجامعة، أو اكتفاء البعض بمرحلة التعليم الأساسى فقط، بل يجب أن يكون تعليما ممتدا فى الزمان، يستمر من المهد إلى اللحد، فيظل الإنسان يتعلم من دون توقف، ليس من أجل الحصول على شهادة، بل للارتقاء بذهنه ومهنته وحرفته وإنسانيته. وفى كل هذه الأحوال والدرجات من الضرورى أن تتسم العملية التعليمية بحيوية فائقة، وتحقق للمتعلمين والمتدربين مزيدا من المتعة والسعادة والرضاء عن النفس، وليس مزيدا من الشقاء والتعاسة والتوتر والخوف، كما هى الحال لدينا الآن، حيث أورثت الامتحانات، خاصة الثانوية العامة، الأسر حالة من الرعب والضيق، الذى لا مبرر له، ويمكن تجنبه لو كان هناك تعليم مختلف، وتقويم مغاير لتحصيل الطالب وإلمامه.
ونحتاج أيضاً إلى ربط التعليم بالبحث العلمى، وتعزيز صلة القربى الراسخة بينهما، فينفتح هذا على ذاك، فى تفاعل خلاق، وتغذية مرتدة لا تتوقف أبدا. وأولى الخطوات فى هذا الشأن هى إعلاء قيمة المؤسسية فى البحث، وتعزيز روح الفريق بين العلماء والباحثين ومنتجى المعرفة بشتى ألوانها. فالبحث لا يتقدم فى ظل هذه القطيعة الدائمة بين الباحث ومؤسسته، أو تهالك هذه المؤسسة وعدم قدرتها على توفير المناخ العلمى السليم، الذى هو شرط ضرورى لأى نهضة تعليمية وعلمية.
نشر بصحيفة الوطن يوم الجمعة 20 شتنبر 20013
********