الكحص: إذا أراد الاتحاد الاشتراكي أن يعود حزبا كبيرا فعليه العودة إلى المعارضة قال إن التصويت بكثافة للعدالة والتنمية هو عقاب للأحزاب الأخرى سليمان
الريسوني
في أول خروج إعلامي له، بعد سنوات من الانزواء والتأمل، قال محمد الكحص الوجه «الاتحادي» الفارق، بأن الاتحاد الاشتراكي
يلزمه العودة إلى المعارضة بعد أن «فقد توهجه واستنزف جزء كبيرا من رصيده وتكتنف هويته ضبابية كثيفة». واعتبر أن التحالف مع اليسار، بما فيه الراديكالي، يجب أن يكون أولوية للاتحاد الاشتراكي، قبل «الكتلة». وقال عن العدالة والتنمية بأنه قام بمراجعات ديمقراطية، وتبنى أفكار المفكر الماركسي أنطونيو غرامشي، التي نسيها اليسار المغربي.- أسفرت أول انتخابات في ظل الدستور الجديد عن فوز حزب العدالة والتنمية. ما تعليقك على ذلك؟< نتيجة الاقتراع هي أن حزب العدالة والتنمية فاز بالانتخابات وبشكل قوي جدا، لأنه مع نمط اقتراع كالذي نعتمده في المغرب. يجب أن يكون التصويت لحزب معين بكثافة عالية جدا لكي يتمكن من الحصول على هذا العدد من المقاعد. من جهة ثانية، هذه النتيجة بديهية لأن حزب العدالة والتنمية حزب وطني موجود في الساحة السياسية وفي المؤسسات منذ سنوات عديدة، وحتى من الناحية الثقافية كان العدالة والتنمية في محور الصراع والنقاش السياسي، وهذا ساهم في تهييء جزء كبير من الرأي العام للاهتمام بهذا الحزب. ثالثا، الحزب صمد في موقعه في المعارضة كل هذه المدة؛ مع أنه كان من الممكن أن يشارك في الحكومة الأولى للسي عبد الرحمان اليوسفي، لكنه فضل أن يقوم بمساندة نقدية لسنتين قبل أن يعود إلى المعارضة. وفي الانتخابات السابقة احتل المرتبة الثانية بفارق ضئيل عن الحزب الفائز، ومع ذلك ذهب إلى المعارضة، ومؤخرا ظهر حزب آخر في المعارضة، لكنه حزب جديد ولم يكن له حضور شعبي
– تقصد الأصالة والمعاصرة؟< نعم، هذا عامل ساهم ربما في تقوية حظوظ العدالة والتنمية. لذلك، وبناء على هذه العناصر الثلاثة، كان عنصر المفاجأة قليلا.
– هل كان متوقعا فوز العدالة والتنمية بهذا الحجم؟< لا، بهذا الحجم لا. هل يعني ذلك أن المغاربة لم يريدوا هذه المرة أن يتركوا فرصة للمفاجأة، فصوتوا بهذه الكثافة لأنهم كانوا يريدون أن يكون حزب العدالة والتنمية في رئاسة الحكومة؟ هذا التأويل وارد.
– إذا طلبنا منك أن تقيم مقارنة بين حكومة عبد الرحمان اليوسفي لسنة 1998 وحكومة عبد الإله بنكيران 2011، ماذا تقول؟< أولا، السياق مختلف، فحكومة اليوسفي جاءت بعد عشرات السنين من القطيعة بين الاتحاد الاشتراكي، واليسار عموما، وبين الدولة، وكانت بمثابة نوع من المصالحة وبناء الثقة والتخلي عن سوء الفهم الذي كان من هذه الجهة أو تلك. ومن الناحية السياسية أيضا كان التناوب بمثابة تطبيع مع الحياة السياسية في المغرب، وهو ما سمي آنذاك بالتناوب، لأن أي ديمقراطية لا يمكن أن تكون صلبة وذات مصداقية إلا إذا كانت فكرة التناوب فكرة طبيعية. اليوم يفوز اليمين وغدا اليسار، وبعد غد الوسط، دون أن يخلق ذلك أي أزمة سياسية، ودون أن يدفع الأمر بهذا الطرف أو ذاك إلى رفض اللعبة. حكومة التناوب جاءت أثناء وضعية اقتصادية آيلة للانفجار، وهذا ما عبر عنه المرحوم الحسن الثاني بالخوف من السكتة القلبية. إذن مرحلة «التناوب» كانت مفعمة بالارتياح والأمل والتطلع نحو المستقبل والرغبة في البناء، بعدما تعبنا، كشعب وكتنظيمات سياسية، من الاصطدامات، التي رغم أن لها مبرراتها، فقد أضعنا فيها بعض الوقت. لقد كانت حكومة التناوب حدثا تاريخيا، ووصول العدالة والتنمية إلى السلطة اليوم هو نتيجة لما حدث مع عبد الرحمان اليوسفي، وهو تأكيد للمنطق الذي بدأتُ به، حيث إن التناوب كآلية يزكي بأننا اخترنا الديمقراطية ونقبل بنتائج الاقتراع. وحين يقع التناوب مرة ثانية فهو يعطي معنى للتناوب الأول، فالحزب الذي يستفيد اليوم من هذا التقليد الديمقراطي الذي تبناه المغرب يحمل نفحات من تجربة التناوب، بل يمكن القول إنه لو لم تكن تلك التجربة لما وصلنا، ربما، إلى ما وصلنا إليه اليوم.
– إذا صح أن نقول، من الناحية الإجرائية، إن وصول العدالة والتنمية إلى الحكم تطور إيجابي لما أسست له تجربة التناوب، فهل يجوز اعتبار هذا، من الناحية السوسيو ثقافية، تراجعا من حزب «تقدمي» إلى آخر «محافظ»؟.< كما قلت لك، يجب التدقيق في دوافع ودواعي التصويت بهذا الحجم من طرف فئات واسعة في كافة أنحاء المغرب، وبنفس القوة والحجم. من الناحية السياسية، العدالة والتنمية موجود في شتى مناحي الحياة السياسية والثقافية في المغرب، لذلك كان متوقعا فوزه. الآن، الحديث يدور عن السوسيولوجيا السياسية للمجتمع المغربي، وأنا شخصيا لا أظن أن البنية العميقة الثقافية الفكرية في المغرب عرفت تغييرا، لا في هذا الاتجاه ولا في ذاك. لنكن واضحين، المجتمع المغربي مجتمع محافظ في عمقه، والجانب التقليداني في ثقافته قوي. كما أن المغرب لم يشهد ثورة ثقافية فكرية. وما يمكن أن نقوله أن اليسار، أيام قوته وعنفوانه، كانت له سيطرة ثقافية، وكان يبسط جناحيه على المثقفين والمبدعين والفئات المتعلمة، وكل المهن ذات الصلة بالفكر والثقافة…، لكن مع الأسف فقد اليسار هذه العلاقة مع الثقافة والفكر وكل الشبكات التي تؤمن هذه السلطة، وبالتالي لم يعد هو المتحكم فيما يناقش في الساحة. اليسار نسي غرامشي (يقصد المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي صاحب فلسفة «البراكسيس»، التي تربط النقد بالعمل، ومبدع مفهوم «المثقف العضوي»، الذي ينخرط في قضايا الشعب) وربما تبنى العدالة والتنمية غرامشي، حيث لاحظنا في السنوات الأخيرة أن هناك تبادلا للأدوار، حيث أصبح العدالة والتنمية أكثر اهتماما بالفئات الفقيرة والمهمشة، وهو الذي استولى مؤخرا على المجال الفكري، وهذا شيء طبيعي لأن اليسار فقد هذه القدرة وأصبح في موقف رد الفعل، الذي يكون غالبا محتشما، ناهيك عن أنه فقد علاقته بمثقفيه والمتعاطفين معه. أنا أومن بأن المعركة السياسية هي معركة ثقافية، فمن يملك القوة الفكرية والثقافية ويحدد الخطاب ومواضيع السجال وطريقته، يمكنه أن يربح الرهان السياسي. أما أن يمارس السياسة بدون مرجعية ثقافية، وبدون خوض هذه المعركة، فإنه يصبح كمن يلعب «اللوطو».
– هل يمكن أن نقول إن التصويت بهذه القوة للعدالة والتنمية كان تصويتا عقابيا ضد أحزاب «الكتلة»، التي شاركت في الحكومة منذ 1998، وضد أحزاب «ليبرالية» مثل الأصالة والمعاصرة، وأحزاب يقال إنها لم تتحرر من ربقة السلطة؟< أظن أن أي تصويت من هذا الحجم لحزب معارض، وفي أي بلد، هو عقابي بالنسبة للآخرين. في سنة 2007، بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات، وقبيل الإعلان عن تشكيلة الحكومة، شاركت في ندوة «المساء»، وقلت إنه من غير المعقول أن لا يأتي أحد من الاتحاد الاشتراكي ليقول للناس: لقد خسرنا وفشلنا، وقد وصلتنا الرسالة، وأننا «فهمناكم» وسنقوم بكذا وكذا. اليوم، أليس مطلوبا أن نقدم مثل هذا الاعتراف ولو بأشكال مختلفة كأن نقول للناس: لقد عاقبتم حزبنا ولا شك أننا أخطأنا أو على الأقل وقع بيننا سوء تفاهم… عوض كل هذا ننتظر العاشرة ليلا، تظهر النتائج، وبعد ذلك نقفل مقرات الأحزاب ونذهب لنقيم التحالف، ثم نردد خطابات بلاغية مكرورة. في ظروف مثل هذه نفتقد القيادي الجريء، الذي يقول للناس: أنتم غاضبون..أنا أيضا غاضب، أنتم قلقون.. أنا أيضا قلق. وبناء على نتيجة تصويتكم سوف نقرر ما سنقوم به. هذه مسائل من أبجديات العمل السياسي.
– هناك من داخل الاتحاد الاشتراكي من يعتبر أن الحزب دخل مرحلة الموات، بفقدانه قاعدته الاجتماعية المشكلة أساسا من الطبقة الوسطى؟< ربما هذا له جانب من الصحة. هناك تحولات في المجتمع، لكن لا يمكن أن نلقي باللائمة فيما يتعلق بضعف الاتحاد الاشتراكي على الناس، فالاتحاد ربما فقد الصلة بهذه الفئات وفئات أخرى، لأن المفروض في حزب اشتراكي ديمقراطي أن تكون قوته الشعبية مشكلة من العمال والفلاحين والطبقات الوسطى وجزء من البورجوزية الوطنية المتنورة. للأسف كانت هناك نوع من القطيعة ترتبت عنها خيبة أمل. هل انتظارات المواطنين كانت أكبر مما في وُسع حزب بإمكانيات «الاتحاد» أن يحققه، خصوصا في المحيط والظروف التي دخل فيها الحزب إلى المسؤولية؟ هل كان هناك تفاوت بين الانتظارات والإمكانيات التي كانت متاحة؟ هل قصّر «الاتحاد» في بعض الأشياء؟. هل كان بإمكانه فعل الأحسن؟…هذا كله ممكن، لكن الابتعاد عن التواصل مع الناس، الذي ترتبت عنه خيبة أمل بهذا الحجم تعكس أن هناك خللا ما. هنا على الاتحاد الاشتراكي أن يراجع نفسه، بعدما استشعر فقدان الجاذبية نحو الفئات المفروض فيها طبيعيا أن تسانده. لقد كنت دائما أقول إن في المغرب على الأقل 30 في المائة من الناس مبادئهم وطريقة حياتهم وحتى مصالحهم، بالمعنى النبيل للكلمة، هي إلى جانب حزب اشتراكي ديمقراطي، لكن يبقى عمق السؤال، وهذا من المسائل التي اختلفنا فيها في وقت معين داخل الاتحاد الاشتراكي، هو أن نحدد ماهي مقومات الحزب الاشتراكي الديمقراطي في عصرنا الحالي وفي بلد مثل المغرب، وما هي طبيعة تنظيماته وخطابه ووسائل عمله وما هو متعلق بالتطور المجتمعي الذي تجب دراسته والبحث عن مداخل جديدة لاستعادة الثقة التي فُقدت للأسف.
– هل مازال الاتحاد الاشتراكي بمقوماته الحالية يمتلك شروط استمراره كحزب قوي؟< حزب اشتراكي ديمقراطي مسألة مصيرية بالنسبة للمغرب. حزب اشتراكي ديمقراطي، قوي، حاضر، متغلغل في المجتمع، ليس فقط سياسيا، بل فكريا وثقافيا، يعبر عن مطامح وواقع وقيم جزء من المجتمع المغربي. هذا الحزب، مما لا جدال فيه، ضرورة للمغرب، ليس فقط هل هو ممكن أم لا، بل ضرورة.
– هل هذا الحزب هو الاتحاد الاشتراكي؟< إما أن يقوم الاتحاد الاشتراكي بثورة داخلية، وبتغيير جذري داخله لكي يصبح هو هذا الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي همُّه ومثاله ليس هو المقاعد أو التمثيلية، رغم أهميتها، بل همه حماية فكرة ضرورية للمجتمع المغربي. وإذا لم يقم «الاتحاد» بهذه الثورة فإن هذا التيار الغاضب سوف يخلق في يوم من الأيام هذا الحزب. الاتحاد الاشتراكي له الأسبقية، كما له بعض عناصر الشرعية لكي يقوم بهذه المهمة، فإما أن يقوم بها أو لا يكون. وهذه القناعة موجودة لدى الكثير من «الاتحاديين».
– في هذا السياق، هل ترى أنه من الأحسن للاتحاد الاشتراكي أن يدخل إلى حكومة عبد الإله بنكيران، أم يعود في نظرك إلى المعارضة وإلى تثوير وبناء ذاته التنظيمية؟< بصراحة، مسألة الدخول إلى الحكومة أقول فيها ما قلته في 2007؛ فأنا لا أظن أن مجرد الخروج إلى المعارضة سوف يعيد للحزب قوته ووهجه، بل هناك العديد من الأشياء التي يجب القيام بها، وهي أشياء صعبة وقاسية على الذات، لكنها مهمة لإعادة البناء، فعندما يتفق الاتحاديون على المشروع الحزبي الذي يريدون بناءه، آنذاك يمكن أن يتخذوا الموقف الذي من شأنه أن يدعم مشروعهم. المسألة ليست ميكانيكية: إذا خرجت إلى المعارضة سوف يلتف الناس حولك، وإذا دخلت إلى الحكومة سينفضّون من حولك. الناس يمكن أن يعودوا إلى الحزب إذا رأوا أن هناك توجها إحيائيا ذا قيم وجاذبية، وهذا يتطلب وقتا طويلا ويراهن على الأجيال الجديدة، التي يجب أن يكون همها هو البناء أو على الأقل المساهمة فيه. أنا أتساءل: عندما كان «الاتحاد» في الحكومة ما الذي كان يمنعه من أن تكون له قيادة حزبية ليست في الحكومة وتبني الحزب مع المسافة والنقد الضروريين والمساندة الموضوعية والاقتراح؟ أما قرار الدخول إلى الحكومة من عدمه، فيجب أن يكون قرارا حزبيا، على أن لا يكون نهائيا. الحزب الحي يمكن أن يدخل إلى الحكومة ثم يخرج منها متى ما تبين له ضرورة ذلك. في هذه اللحظة، لا يمكنني أن أعطي موقفا، بل الأجهزة هي التي يجب أن تقرر لأنني ابتعدت مدة عن أجهزة الحزب، لكن بعد ذكر هذه العناصر التحليلية أود أن أوضح بأن الحزب الذي فقد توهجه واستنزف جزءا كبيرا من رصيده وتكتنف هويته ضبابية كثيفة لا يبدو لي أنه قادر على تحقيق إعادة البناء وخلق الحزب الاشتراكي الديمقراطي الكبير القوي، اليوم، إلا بالعودة إلى المعارضة.
– فيما يتعلق بمسألة التحالفات، ما هي الأولوية بالنسبة إلى الاتحاد الاشتراكي لترتيب المشهد السياسي المغربي؟ هل هي «الكتلة» أم أحزاب اليسار؟< اليسار بالنسبة إلى الاتحاد الاشتراكي هو الأسبقية والمجال الحيوي. إذا كان الاتحاد الاشتراكي يريد أن يستعيد دوره ومكانته وهويته كحزب اشتراكي ديمقراطي، فاليسار بهذا المعنى هو التحالف الطبيعي والدائم ليس فقط بالمنطق الانتخابي، بل أساسا بالعمل الفكري والميداني، يسار اشتراكي ديمقراطي إصلاحي بدون عقدة، يتفاعل ويغتني من ثقافات وتيارات يسارية أخرى أساسية للديمقراطية لأنها مدارس للتكوين وإنتاج الأفكار والتعبئة والعمل النقابي والجمعوي على سبيل المثال لا الحصر.
– لكن في المغرب هناك «يسارات» تقف أحيانا على طرف نقيض، منها الذي يدخل إلى المؤسسات ومنها ما يقاطع هذه المؤسسات؟< مع ذلك هناك وشائج وقيم مشتركة. يمكن أن نختلف في الوسائل، لكن يجب أن نحترم بعضنا، ففي فرنسا مثلا، تجد مناضلي «العصبة الشيوعية الثوريةLCR»، إلى جانب التروتسكيين، ينتقدون الحزب الاشتراكي الفرنسي بشكل قوي، لكن حين تأتي المعارك الميدانية في المسائل النقابية أو المعارك الانتخابية، فإنهم يهزمون اليمين، وبعد ذلك يذهب كل واحد إلى عمله.
– هل استطاع الإسلاميون بالمغرب، في نظرك، أن يتحولوا إلى ديمقراطيين حقيقيين، كما هو الشأن بالنسبة إلى الأحزاب الديمقراطية المسيحية في الغرب؟< بالنسبة إلى المغرب أظن أن الحزب الذي قام بمراجعات ديمقراطية لعبت دورا في الإدماج، هو العدالة والتنمية. ربما النقاش والسجال الذي كان بيننا، والذي بلغ أحيانا درجات من الحدة، وبعد ذلك تلته نقاشات أكثر عمقا وأكثر هدوءا لأن كل واحد تعرف على الآخر وأصبح هناك نقاش راق، أظن أن ذلك كله لعب دورا في هذا الاتجاه، فالحزب الذي استفاد من كل هذا هو العدالة والتنمية. ولهذا السبب، فإن جزءا كبيرا من المغاربة لم يتخوفوا من التصويت بكثافة لهذا الحزب الديمقراطي الإسلامي، ولا ننسى أن العديد من الديمقراطيات المسيحية هي التي بنت الكثير من الديمقراطيات الكبرى في أوروبا، وبعد ذلك تخلت عن عدة أشياء، وأصبحت أحزابا ديمقراطية عادية، ولا أحد أصبح يجادلها من أين تمتح وما هي مرجعيتها، لأن ما يطرح للنقاش العمومي هو إنتاج فكر بشري قد يحتمل اجتهادات فيما يخص الحياة العامة ويحتمل الخطأ، ويمكن أن نتفق مع جزء منه أو نختلف حوله بشكل عادي. وجود العدالة والتنمية اليوم في الحكومة هو مناسبة لتعميق هذا التوجه، أولا تحت واقع التدبير، وثانيا لأن هناك في المغرب رأيا عاما ومجتمعا حيا يراقب العدالة والتنمية كما يراقب غيرها.
حركة 20 فبراير تذكرني بحركة ماي 68- ما مستقبل الحراك الاجتماعي، وفي مقدمته حركة 20 فبراير، التي كرست عرف الاحتجاج الأسبوعي في الشارع، خصوصا بعد التصويت المفاجئ ليوم 25 نونبر؟< هذا بين يدي الحركة نفسها، وهي التي سوف تقرر مصيرها، فهي تتوفر على هيكلة، وكلنا يعرف التيارات المختلفة داخلها، من حزبيين ومستقلين. عندما ظهرت حركة 20 فبراير، ذكرتني بحركة ماي 1968 في فرنسا، لأنني وجدتها حركة شبابية في تكوينها، وطرحت مجموعة من الإشكاليات المتعلقة بأوضاع اجتماعية ومطالب ثقافية، مع رغبة عارمة في الحرية، وهذا أمر طبيعي بالنسبة إلى الشباب، الذي يكون قلقا ومتمردا بطبيعته على كل أنواع السلطة بدءا بسلطة العائلة، ومرورا بالسلطة الأكاديمية ثم السلطة السياسية. لماذا قارنت حركة 20 فبراير بماي 1968؟ لأنه قبل 20 سنة كنت أشاهد برنامجا للصحافية الشهيرة كريستين أوكرانت، وكان اسم البرنامج هو «ماذا فعلت بعشرينياتك؟»، وفي إحدى الحلقات استضافت الصحافية دانييل كونبينديت، الذي هو الزعيم الأبرز لحركة ماي 1968، وعرضت تصريحا له وهو في العشرينات من عمره يقول فيه إن «الانتخابات فخ للأغبياء»، وكان يتحدث عن الانتخابات التي شهدتها فرنسا بعد رجوع الرئيس شارل دوغول، والتي قاطعها جزء كبير من الحركة تحت شعار «Élections, pièges à con»، فسألته: ما تعليقك الآن على ما قلته وأنت في العشرين من عمرك بينما كان هو حينها في الخمسينيات من عمره؟ فأجاب دانييل كونبينديت ساخرا: «أنا هو الغبي الآن». وكما هو معروف، فإن دانييل كونبينديت أصبح الآن زعيما من زعماء الخُصر في أوروبا، لذلك فالعديد من الذين انخرطوا في حركة ماي 1968 هم الآن زعماء ومشاهير في السياسة والعمل والإشهار، والبعض الآخر فلاسفة ومثقفون. في 1968 كان عمري حوالي أربع سنوات، ومع ذلك عندما بدأنا، أنا ومجايلي، نخوض في السياسة، أثرت في انتمائنا ثلاث محطات أساسية، هي المسيرة الخصراء والقضية الفلسطينية وحركة ماي 68. لذلك، حتى نعود إلى حركة 20 فبراير، أقول إن الديمقراطيات بطبيعتها تتيح الفرصة كي يكون التعبير في الشارع جزءا من العملية الديمقراطية، عندما يستشعر جزء من المجتمع، أو المجتمع ككل، بأنه لا يُنصت إليه في المؤسسات التقليدية للوساطة، من أحزاب ونقابات ومجالس وحكومة…، مادام الاحتجاج في الشارع يتم بشكل حضاري سلمي، لذلك أرى أن احتجاجات حركة 20 فبراير ستستمر وربما تأخذ غدا أشكالا أخرى، ربما تنظيمية عبر تأسيس النقابات أوالأحزاب. حركة 20 فبراير عبرت عن احتقان داخل المجتمع، ونجحت في تعبيرها وحققت مكاسب. ربما ما تحقق في المغرب مؤخرا من مكاسب دستورية وسياسية كانت نظريا ضمن الصيرورة الطبيعة للمغرب، لكن هذه الحركة عجلت بها. يجب أن نعترف لهؤلاء الشباب بأن ما كان موجودا لدى الجميع بشكل سابت أو محتشم سارعوا إلى الجهر به.- هل رمت حركة 20 فبراير حجرا في البركة الآسنة؟< نعم، ونجحت في ذلك، فليست هناك قدرية. لذلك لن تنتفي الحركة هكذا، يمكن أن يندمج جزء كبير منها في أحزاب أو تخلق إطارات جديدة، أو تساهم في العمل الجمعوي والثقافي، دون أن تفقد إمكانية اللجوء إلى التظاهر في حالة عدم التجاوب مع تطلعاتها. المهم هو أن هذه الحركة هي جزء من الصحوة الديمقراطية المغربية. لذلك كما قلت لك فالحركة سيدة نفسها ويجب الاستماع إليها واحترام الآراء التي تعبر عنها، وعلى المخاطَبين المعنيين بالأمر أن يقارعوا حجتها بالحجة، سواء بالاستجابة للمطالب أو بشرح الأمور المستعصية، وكذلك بالإدماج في عملية التغيير.