الجابري قارئا ابن رشد (2/1)

بقلم فريد العليبي ../.. عن الموقع الالكتروني ” الاوان”

1

عندما نقرأ مؤلفات الجابري نلاحظ بيسر حضور ابن رشد داخلها، فقد كان موضع اهتمام كبير من قبله، ويمكن القول أن النص الرشدي يلعب دورا مهما في تشكل فكر الجابري، فقد تمت صياغته ذلك الفكر تحت تأثير جارف لابن رشد ، و البحث التالي نحاول فيه تناول قراءة الجابري لابن رشد، وما يقف خلفها من أسئلةٍ وغاياتٍ ناظمة، وبالتالي رصد خفايا ذلك الحضور.

يخص الجابري ابن رشد بصفات لا تتوفر في غيره من فلاسفة العرب، فقد كان على قدر كبير من النقاء الأخلاقي و النبوغ العلمي، لذلك لم يجد الأمير الموحدي عند محاكمته له من تهمة يوجهها إليه غير اشتغاله بعلوم الأوائل .

و هو يدفع بهذا التميز الذي عليه فيلسوف قرطبة أحيانا إلى حدوده القصوى، من ذلك حكمه على قوله في السياسة باعتباره ” قولا لا نجده في الثقافة العربية، لا لمن سلف و لا لمن خلف ” (1) فإبن رشد الذي يقدمه لنا الجابري” لم يتعصب إلا للحق و الصواب “(2) .

و هو يضفي على ما أدركه فيلسوف قرطبة أحيانا صفة الخطورة و السبق، فأخطر ما توصل إليه ابن رشد و هز الكنيسة هزا عنيفا، يتمثل في كونه أدرك حقيقة يعتبرها الجابري ” من أخطر الحقائق الفلسفية في العصور الوسطى “، ما هي هذه الحقيقة ؟ إنها ” وحدة العقل الهيولاني و أزليته و خلود النوع الإنساني، و هي الحقيقة التي رأي أنها ” ما يقتضيه مذهب أرسطو ” في المسألة التي تركها هذا الأخير معلقة، مسألة : طبيعة العقل الهيولاني : أمفارق هو و أزلي أم لا ؟ ” (3).

يتعامل الجابري مع ابن رشد باعتباره ذلك المجهول الذي يجب أن ينفض الغبار عنه، ليس فقط من زاوية من يجهله تماما، و إنما أيضا من زاوية من يتحدث عنه متوهما معرفته، محذرا على هذا الصعيد من المعرفة الجاهلة التي تجهل أنها جاهلة، و من هنا تأكيده أنه يقدم لنا ابن رشد جديد، في قطيعة تامة مع تلك الصورة التي رسمت عنه من قبل بعض من اعتقدوا أنهم عرفوه .

إنه حريص على تنبيهنا إلى كونه يتصدى للقيام بمهمة خطيرة وجديدة في تعامله مع شخصية فكرية مرموقة، لم يقدرها السابقون و لا اللاحقون من العرب حق قدرها، بينما عرفت لدي اللاتين شأوا عظيما، و هنا المفارقة التي لازمتها ، آملا أن تحدث بأطروحاتها العقلية المفاعيل التي تأخرت طيلة قرون .

و عمل كهذا يستدعي منذ البدء التنبيه إلى حدود القراءات السابقة لمؤلفات ابن رشد، لذلك يلفت الجابري انتباهنا إلى أن الدراسات التقليدية التي تناولت فكر الرجل ظلت في الغالب تلوك ما كتبه المستشرقون، فكانت بمعنى ما إعادة إنتاج للرشدية اللاتينية في ” صيغتها الإستشراقية ” (4).

و هو يجعلنا نحس معه بأسى عميق لأن خزائن علم فيلسوف قرطبة ظلت مجهولة، و يزداد وقع تلك الحسرة لأن مؤلفاته المتداولة سيئة الإخراج في مجموعها، فـ” ما توافر منها لم يكن كله صالحا للاستعمال إلا إذا تحول الباحث إلى محقق “(5) ، و بالتالي فإن الجابري يحاول إقناعنا أن المهمة التي يتصدى لها غير مسبوقة، و هي مهمة مزدوجة، تتمثل في تحقيق تلك المؤلفات و قراءتها في آن . و هذا ما قام به بالفعل بالتعاون مع مركز دراسات الوحدة العربية، عندما أعاد تحقيق و قراءة عدد من مؤلفات ابن رشد الأساسية .

نظر الجابري لإبن رشد باعتباره عالما، على بينة مما كان يتكلم فيه، فقد أحاط بالفلسفة و الشريعة إحاطة شاملة، تلك الإحاطة التي ما كانت لتتوفر له لولا الدراسة الطويلة والمتأنية ، مما مكنه من الاضطلاع بدور المصحح لما راج حول الشريعة و الفلسفة، لقد شرح من جهة أرسطو و صحح النظرة الخاطئة عنه، و قرأ الفلسفة في المغرب باعتبارها متحررة من إشكالية التوفيق التي لازمت فلسفة المشرق، و من جهة ثانية أتى على مذاهب المتكلمين فصفى الحساب معها، معتمدا البرهنة العقلية، مستندا إلى علم غزير بالمدونة الشرعية .

لقد رأي في ابن رشد فيلسوفا مصححا و مدققا، يتحرك في شتى الإتجاهات الفلسفية و الفقهية، و عينه مركزة على نقطة واحدة، هي إعادة الأمور إلى نصابها بعدما لحقها من ضرر علي يد السفسطائيين المغالطيين و المتكلمين الخطابيين، مما يعني أن وراء تلك الشبكة الواسعة من اهتمامات أبي الوليد هناك مطلب واحد يؤلف بينها، و هو الذي ذكرناه، فعمل ابن رشد الضخم يخضع لغاية موجهة تتمثل في إعادة البناء، يقول الجابري “ابن رشد يعيد بناء كل من الفلسفة و العقيدة القرآنية، بالعمل من جهة على تلخيص الفلسفة من تأويلات ابن سينا و الرجوع بها إلى الأصول، إلى أرسطو بالذات و العمل من جهة أخرى على تخليص العقيدة الإسلامية من تأويلات المتكلمين و في مقدمتهم الأشاعرة و الرجوع بها إلى الأصول ” (6)، و من هنا كان تركيزه على ثلاثية ابن رشد بشكل خاص، أي على مؤلفاته الأصيلة التي تفصح عن هذا التوجه أكثر من سواها، و نقصد تهافت التهافت و الفصل و الكشف .

اعتمد ابن رشد بحسب الجابري طريقة تقوم على توجيه النقد لهؤلاء الخصوم، ثم إبراز البديل الذي يرتئيه، أي إنه توخى استراتيجية الهدم و البناء، فبعد تبيان تهافت الحجج الرائجة يبني على أنقاضها أطروحاته، بما يذكر باستراتيجية سقراط في محاوراته، فقد كان مطلعا على تلك الطريقة، و هو الذي لخص أحد أبرز كتب أفلاطون و نعني الجمهورية حتى أنه لا يتواني في وصف متكلمي زمانه بالسفسطائيين، كما أن إلمامه بالمنطق الأرسطي يجعله على بينة من تلك الاستراتيجة. ربما لأجل هذا تعامل الجابري مع النصوص الرشدية من خلال قراءة تتخذ نقطة ارتكاز لها عقلانية فيلسوف قرطبة، و بعد تثبيت هذه النقطة و تحصينها جيدا يكشف عن الآليات التي اعتمدها ابن رشد و هو يتجه نحو المناطق المظلمة في الموروث العربي ، لكي يسلط عليها أضواء الفلسفة الكاشفة ، و هذا ما نجده بشكل خاص في تعامله مع السينوية و الغزالية و مشتقاتهما .

يتعلق الأمر إذن بوظيفة تصحيحية ، فإبن رشد لا ينقد في كتابه تهافت التهافت على سبيل الذكر الغزالي لمجرد النقد، بل ليدقق المسائل و الأفكار و المفاهيم، تماما مثل الأستاذ الذي قدم له تلامذته تمارينهم فنظر فيها و صحح أخطاءهم، يقول الجابري : ” يقف ابن رشد ليس موقف القاضي بين الغزالي و أرسطو فحسب، بل أيضا موقف الأستاذ المصحح لما ينسبه الغزالي لأرسطو” (7).

لقد تعامل معه بإعتباره فيلسوفا له خطاب جذري، فهو عندما يقف قبالة خصوم الفلسفة فإنه يواجههم مواجهة شاملة و على أرضهم بالذات، فكان صاحب روح حربية تحسن ضبط استراتيجياتها و تكتيكاتها في ذات الوقت ، فتكون لها في النهاية الغلبة، لذلك نراه يكبر في ابن رشد عدم مهادنته لأي فرقة كلامية، مذكرا بما قاله في خاتمة كتابه فصل المقال حين كتب : ” التأويل الحق ليس يوجد لا في مذاهب الأشعرية، و لا في مذاهب المعتزلة، أعني أن تأويلهم لا يقبل النصرة و لا يتضمن التنبيه على الحق، و لا هو حق، و لهذا كثرت البدع ” (8).

و بالفعل فقد وقف ابن رشد ضد الفرق جميعها لما ألحقته من ضرر بوحدة الأمة عبر تأويلاتها الفاسدة و تلفيقاتها الضارة، التي أفشتها بين الناس فتفرقوا مللا و شيعا، يقول ” من قبل التأويلات و الظن بأنها مما يجب أن يصرح بها في الشرع للجميع، نشأت فرق الإسلام حتى كفر بعضهم بعضا، و بدع بعضهم بعضا، و بخاصة الفاسدة منها، فأولت المعتزلة آيات كثيرة و أحاديث كثيرة، و صرحوا بتأويلهم للجمهور، و كذلك فعلت الأشعرية، و إن كانت أقل تأويلا، فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن و تباغض و حروب، و مزقوا الشرع و فرقوا الناس كل التفريق ” (9)، و يقف الجابري الموقف ذاته في عصره هو، حيث الأصولية و ما فرخته من فرق متحاربة، فزرعت الانقسام بين صفوف أمة، هي في الأصل مقسمة واهنة القوى ، و ربما نلمس هنا بعض خفايا ذلك الحضور الرشدي اللافت في ثنايا خطابه، و هو الذي تساءلنا عنه في مقدمة هذا المقال .

2

و من هنا نفهم السبب الذي لأجله قرأ الجابري ابن رشد من خلال مفتاح السياسة على وجه التحديد ، يقول ” واضح إذن ان الشاغل الذي كان يؤطر تفكير ابن رشد في الكتاب الذي بين أيدينا ( الكشف ) كما في الكتاب الذي سبقه ( فصل المقال ) لم يكن مجرد شاغل كلامي نظري يل هو أساسا شاغل اجتماعي سياسي يتمثل في ” الأضرار ” التي نجمت عما قامت به الفرق الكلامية من ” التصريح للجمهور ” بتأويلاتها و ما نتج عن ذلك من شنآن و تباغض و حروب ” و تمزيق للشرع و تفريق للناس ” ” كل التفريق” ” (10) و هذا الشاغل السياسي هو الذي يفسر حسب الجابري نكبة ابن رشد عندما ” وقعت الفلسفة ( في شخص ابن رش ) ضحية للساسة ” (11)

و هذا يخول لنا الجزم أنه قرأ فيلسوف قرطبة باعتباره مصلحا، ينشد إصلاحا فلسفيا و دينيا في نفس الوقت، نافيا عن كتاباته أن تكون سجالية، مقصدهما إفحام الخصم و التلبيس عليه، فهذا دأب المتكلمين، فقد كان يتجاوز ذلك لكي يؤصل إصلاحا يمكن أن يجعل الأمور تسير في اتجاه آخر مخالف تماما لما آل إليه الوضع على شتى الصعد، مرتكزا على علم عصره . و هنا بالذات يفهم سر إكبار ابن رشد لأرسطو من ناحية، و دفاعه عن الشريعة الإسلامية من ناحية ثانية، فالفيلسوف الأندلسي كانت تحركه قناعة مؤداها أن ما تقره الشريعة يتطابق مع الفلسفة ، أي ما جاء به أرسطو من حيث الغاية القصوى، التي هي الفضيلة، لأجل هذا كما يقول الجابري فإن” إعجاب ابن رشد بأرسطو لا يوازيه و لا يتفوق عليه إلا إعجابه بالقرآن و إيمانه به ” (12).

و فضلا عن هذا فقد قرأ الجابري ابن رشد باعتباره مدافعا لا تلين له قناة عن العلم و الحرية ، فقد كان منحازا لعلم عصره في أبعاده و مستوياته المختلفة، و هو يفسر ذلك بولعه بالحقيقة في مواجهة ضلال المتكلمين، فحتى عندما يتعلق الأمر بكتاب مثل الكشف عن مناهج الأدلة، و هو الكتاب الذي يختلف من جهة الموضوع عن شروح ابن رشد على أرسطو باعتبار أن الأمر يتعلق فيه بالرد على الفرق الكلامية المختلفة، فإن الدفاع عن العلم يحضر بقوة، يقول ” نتبين في الكتاب الذي بين أيدينا كتابا في الدفاع عن العلم و بعبارة أدق التصور العلمي الفلسفي للكون، الذي يشيده العقل، بعيدا عن أي شاغل آخر غير طلب الحقيقة، و ذلك ضدا على تأويلات المتكلمين ” (13).

و ابن رشد منحاز أيضا لحرية الاختيار، مناهض للجبرية، آخذ بمبدإ السببية، و لا يتواني الجابري عن التصريح أن فيلسوف قرطبة و هو يلزم نفسه بذلك يقدم تحاليل عميقة، تتجاوز أحيانا زمنها، و تستبق ما جاء بعدها بقرون، فهو يبدو برأيه ” مناقشا قضية الحرية الإنسانية و مسألة القضاء و القدر و مسألة السببية و ما نسميه اليوم بالحتمية، مناقشة عميقة أقرب إلى الفكر الحديث، خاصة نظرية ” تلاقي سلاسل الأسباب ” التي فسر بها كورنو مسألة الحتمية “(14).

وقد تعامل مع ابن رشد باعتباره يتحلى بالأمانة العلمية، فهو موضوعي في أحكامه، يصغي إلى المخالفين و يلتمس لهم العذر عندما يتطلب الأمر ذلك، و لا يتقول عليهم الأقاويل، ممسكا بميزان الحق الذي ليس شيئا آخر غير العلم و البرهان، و قد شبه الجابري مرارا ابن رشد بالقاضي العادل، الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، فهو ” يعطي الحق للغزالي إذا كان الحق معه، و يقف مع ابن سينا إذا كان الصواب في جهته، و يقف ضدهما معا إذا كانا خارج الصواب، و الصواب عنده في هذا المجال هو ما يسميه ” البرهان ” و هو أيضا ” العلم ” …. و المرجع هو أرسطو ” (15).

إنه قاض في مجال المعرفة ، يتعامل مع القضايا الخلافية بينه و بين خصومه كما لو كانت قضايا تنظر فيها هيئة محكمة مؤلفة من قضاة عادلين، فهناك عرض للقضية و إتاحة الفرصة أمام المتهم لكي يدافع عن نفسه، ثم يلي ذلك تمحيص للتهم قبل إصدار الحكم .

و ابن رشــــــــــد لا يلعب بحسب الجابري دور القاضي فقط، بل إنه محامي أيضا، فهو قاض يحكم على الغزالي مثلا بكونه اقترف جرما في حق الفلسفة و الشريعة، و محام ينحاز إلى الفضيلة التي تطلبها الفلسفة و الشريعة سواء بسواء، ” ان دور ابن رشد هنا دور مضاعف : فهو محام و قاض في الوقت نفسه ” (16).

و هو ينزه ابن رشد عن أن يكون صاحب مطلب نفعي فقد كان فوق إيديولوجيات زمانه ملاحظا ” غياب الهاجس الإيديولوجي لديه ، إذ لم يكن ( … ) ينتمي لفرقة من الفرق الكلامية و لا كان يطمح إلى تأسيس مذهب و بعبارة أخرى أوضح : لم يكن يعمل بأية صورة من الصور من أجل ” استتباع العوام طلبا للرئاسة ” ” (17) و من هنا ينبع علمه و فضيلته . و ينزهه سياسيا أيضا، فهو رغم اختلاطه بالبلاط الموحدي ترفع عن خدمة الأمراء، بل كان يخاطبهم مخاطبة الند للند : ” أتسمع يا أخي “، زاهدا في المناصب السياسية متحررا من جاذبيتها، و ينسب إليه الجابري دورا مهما في نحت المذهب الذي سارت عليه الدولة، فهو ” لم يتأثر بمذهب الدولة بل بالعكس كان له تأثير واضح منذ شبابه في السياسة الثقافية للموحدين ، مما جعل مذهبهم مفتوحا، لا هو بالأشعري الخالص و لا بالظاهري الخالص و لا بـ ” السني ” المتشدد ” (18). لم يكن ابن رشد إذن واقعا تحت تأثير مذهب إيديولوجي أو منفعة سياسية لقد كان ” منقطعا للعلم، العلم الذي لا يبغي صاحبه من ورائه تحقيق أي شئ آخر غير المعرفة التي تطمئن النفس إلى غلبة الحق و الصواب فيها، مرجعيتها الوحيدة العقل و أحكامه ” (19).

و فضلا عن هذا قرأ الجابري ابن رشد باعتباره على خلق عظيم يجمع بين العدالة الشرعية و الفضيلة العلمية و الخلقية، إنه فيلسوف حريص على الحق و الحقيقة، و الخير و الفضيلة، فقد كان ملتزما بآداب الحوار محترما لقواعده، مهما كان الخصم الذي يجادله، ففيلسوف قرطبة وفي للاعتراف بحق الاختلاف و الحق في الخطأ أيضا، حريص على ضرورة فهم الرأي الآخر في إطاره المرجعي لا خارجه، و هو يتعامل مع الخصم من منطلق التفهم و التزام الموضوعية، معتقدا في نسبية الحقيقة و إمكانية التقدم العلمي .

و ضمن هذه الضوابط التي ألزم ابن رشد نفسه بها يتداخل وفق الجابري الابستمولوجي مع الأخلاقي ويرتبطان بأواصر صلة لا تنفصم عراها، يقول ” هذه القواعد و الأصول الابستمولوجية المؤسسة للحوار الموضوعي البناء، تنطوي هي نفسها على مضمون أخلاقي رفيع ” (20).

يؤكد الجابري أنه يقوم بهذه القراءة على ضوء الابستمولوجيا و ينأى بنفسه عن الايدولوجيا ، إنها قراءة ابستمولوجية خالصة، و من هنا جدتها، ففي كتابه نحن و التراث يشير إلى أنه يقدم قراءة جديدة لفلسفة ابن رشد، مفصحا عن القطيعة الابستمولوجية باعتبارها محددا من محددات تلك القراءة، مبينا أنه ” ينظر إلى المدرسة الفلسفية التي عرفها المغرب الإسلامي على عهد دولة الموحدين كمدرسة مستقلة تماما عن المدرسة ـ أو المدارس ـ الفلسفية في المشرق، فلقد كان لكل واحدة منها منهجها الخاص، و مفاهيمها الخاصة، و اشكالياتها الخاصة كذلك ” (21).

تستند الأطروحة الأساسية للجابري إلى القطيعة بين المدرستين المغربية و المشرقية التي تتبدى برأيه على صعيد المنهج و المفاهيم و الإشكالية، فالأمر يتعلق بفلسفتين مختلفتين نوعيا، اختلاف بين فلسفة مغربية عقلية برهانيه إصلاحية، تستمد مقومات وجودها من ثورة ثقافية كبرى أنجزها المهدي بن تومرت، تمردت على التقليد و عادت إلى الأصول ، و ارتكزت على الأرسطية في صفائها و نقائها بعد أن تم تطهيرها مما هو دخيل عليها، و بين فلسفة مشرقية خلطت الديني بالفلسفي و تأثرت بالافلأطونية المحدثة، فابتعدت عن أرسطو الحقيقي، و قدمت لنا أرسطو آخر مشبع بالعرفان و الغنوصية.

الجابري قارئا لابن رشد (2/2)

 


3
اللافت أن الجابري خلال قراءته لفيلسوف قرطبة يفصح عن مقاصده دون مواربة فهو مع الوحدة العربية والديمقراطية والحداثة والعقلانية، ومدماك ذلك يجب أن ينبع رئيسيا برأيه من الثقافة العربية ذاتها، أي من الطروحات العقلانية النقدية الثاوية في الموروث العربي نفسه وفي المقدّمة منه ابن رشد، وهو لا يتعامل مع هذا الفيلسوف باعتباره هدفا في حدّ ذاته، بل من حيث هو وسيلة يمكن أن تخدم قضية راهنة، فإبن رشد قد مات ولكن العرب لم يموتوا، وإذا كانت هناك مهمة تستحقّ النهوض للقيام بها فهي استدعاء الحيّ في ابن رشد ليؤدّي وظيفته في زماننا.

إنه مسكون إذن بهاجس إنجاز قراءة جديدة للموروث الفلسفي العربي، ولكنها ليست أي قراءة كانت، إنه يتطلع إلى قراءة لم يسبقه إليها أحد، يكون لها وقع الرجّة، وهو يجد في ابن رشد ضالّته لكونه يمثل حقلا خصبا للقيام بتلك القراءة على ضوء مفهوم القطيعة الابستمولوجية، ففيه تتجلى تلك القطيعة في أبهى صورها، بالنظر إلى الموقف النقدي الصارم الذي اتخذه تجاه فلاسفة المشرق، فما قدموه غريب عن الفلسفة وأقرب إلى التصوف، يقول “إن ابن رشد ينظر إلى الفكر النظري في المشرق كفكر واحد تجمعه وحدة المنهج، وإنه يرفض هذا المنهج بقوة لكونه منهجا غير برهاني، الشئ الذي يعني أن المنهج الذي يصدر عنه فيلسوف قرطبة أو يدعو إليه، منهج يختلف اختلافا كليا عن منهج المشرقيين” (1).

يلاحظ الجابري أنّ المغرب والمشرق على مستوى التفكير تفرقهما طبيعة الإشكالية المطروحة، فالإشكالية في المشرق تتعلق بتحديد السبل المثلى للوصول إلى توحيد السلطة وضمان استمرارية الدولة، نظرا لتفشي الصراع بين الأقوام والملل والنحل والمذاهب المختلفة، فالتوحيد الإيديولوجي كان مطلوبا لتحقيق توحيد سياسي واجتماعي، وهذا الطلب نعثر عليه سواء في علم الكلام أو في الفلسفة، فالحلم بالعدل والتوحيد والمدينة الفاضلة الموحدة والقوية يفصح عن ذلك، بينما الإشكالية في المغرب ذات طبيعة أخرى لاختلاف الوضع، فالمذاهب والملل والطوائف منعدمة أو تكاد فانصرف الفلاسفة إلى تأصيل البرهان.

ومن هنا فإنّه يقرأ ابن رشد على ضوء هذه المحدّدات الثقافية والسياسية، للكشف عن العوامل التي ساعدته على التوجه ناحية الفصل بين الدين والفلسفة، إذ لم يجد حاجة للقيام بمهمة الوصل بينهما، بل على العكس وجد نفسه معنيا بمهمة مناقضة تماما ونعني الفصل التام بينهما، حتى لا يلحقهما الضرر، جراء ذلك الخلط الذي تورط فيه في المشرق الفارابي وخاصة ابن سينا، يقول “لقد كانت الفلسفة في المشرق متجهة إلى الوراء، لقد استعملت العقل لإضفاء نوع من المعقولية على ما هو “لا عقليّ” على نزعتها التصوفية، ومن هنا اكتست طابع “الفلسفة الدينية” الهادفة إلى إنشاء “دين فلسفي” مستمد من فلسفة صابئة حران، الشئ الذي كان فلاسفة المغرب والأندلس واعين به كل الوعي …أما فلسفة ابن رشد فلقد كانت فلسفة مستقبلية، على الرغم من ارتباطها بأرسطو، ان الفكر الرشدي كان أقرب إلى فكر عصر النهضة في أوربا، منه إلى فكر ابن سينا ” (2).

قرأ الجابري ابن رشد على ضوء العصر الذي عاش فيه، أي على ضوء الثورة الموحدية التي تمثل بمعنى ما الحاضنة الفكرية لفلسفته، وخاصة ما بلوره ابن تومرت من أفكار جديدة في كتابه أعز ما يطلب، الذي اعتبره الجابري “أشبه ما يكون بمقال جديد في منهجية التفكير والبحث في شؤون العقيدة و الشريعة”(3)، يتضمن نقدا واضح المعالم لقياس الغائب على الشاهد الذي تغذى منه فلاسفة المشرق و متكلّموه على حدّ سواء.

ومن هنا فإن الجابري يقرأ ابن رشد من خلال ابن تومرت و بواسطته فابن رشد وابن تومرت يمثلان حلقتين مرتبطتين بعرى وثيقة، فابن تومرت بدأ المهمة وابن رشد أكملها، انه يرى في فيلسوف قرطبة تجسيدا على مستوى الفلسفة لعقلانية كانت مفقودة عربيا فـ”العقلانية الرشدية عقلانية واقعية، والعقلانية الفارابية السينوية عقلانية صوفية ” (4).

وعندما يواصل الحفر في تربة الثقافة بحثا عن سرّ هذه القطيعة ينتبه إلى سيطرة فكرة الفيض في المشرق، التي كانت بمثابة الأساس الذي قامت عليه تلك الفلسفة، بينما تغيب هذه الفكرة تماما لدى فلاسفة المغرب، حتى أن ابن رشد يرى فيها مجرد خرافة لا تصمد أمام معول النقد.

وفي ثنايا هذه القراءة يكشف الجابري عن أسئلة أساسية ثلاث تتحكم بمشروع ابن رشد الفكري وهي : “كيف يجب أن يُقرأ القرآن، كيف يجب أن يُفهم ويُؤول هذا الأصل الأول في الفكر الإسلامي؟ كيف يجب ان تُقرأ “الفلسفة” فلسفة أرسطو أصل كل فلسفة ناضجة وصحيحة؟ كيف يجب أن تُحدد العلاقة بين الدين والفلسفة بشكل يُحتفظ بهما معا ويحفظ لهما استقلالهما؟”(5)، معتبرا أن هذه الأسئلة هي التي أضفت على مؤلفات ابن رشد الطابع المنهجي الذي طغى عليها، مما يعني أنه معني رئيسيا في قراءته لإبن رشد بإشكالية المنهج، أي بطبيعة المساءلة الرشدية للإشكاليات التي تحكمت بزمانه، والتي يرى أنها لا تزال تعيش بمعنى ما معنا، وتفرض علينا مواجهتها من موقع البرهان الآن وهنا.

وعلى هذا الصعيد يرى في ابن رشد صاحب برهان ومحاجة عقلية، فهو يحفر عميقا في تربة علم الكلام ليكشف عن المخفي بين طياتها، ويربط الصلة التاريخية بين بعضها البعض لكي يؤلف بين الأجزاء المتناثرة ويرسم لوحته عن هذا المبحث، حتى يغدومفهوما، وفي معرض ذلك تتبع مسار العلاقة بين الدين والفلسفة، واستكشاف التوترات التي اكتنفتها، لكي يخلص في الأخير إلى استنتاج أنهما ينشدان غاية واحدة، ولكن طريقتيهما مختلفتان كل الاختلاف. فمن زاوية العلم الذي كان ابن رشد مدافعا عنه فإن المتكلمين سفسطائيون وخطابيون ومغالطيون، ومن هنا فإن الجابري يقرأ ابن رشد باعتباره نازع أقنعة، فهو يكشف الغطاء عن هؤلاء فإذا هم والعلم على طرفي نقيض، رغم كل ضوضائهم وصخبهم عن الحجج والبراهين، وإلا كيف نفسر قياسهم للغائب على الشاهد أو إنكارهم لمبادئ منطقية مثل السببية والهوية؟
لقد ركز الجابري نظره على قياس الغائب على الشاهد، معتبرا إياه نقطة القوة في النقد الذي وجهه ابن رشد لخصومه من المتكلمين، فهؤلاء وقعوا بين براثن هذا القياس الفاسد، إذ لا يصح القياس إلا عندما يتعلق الأمر بأفراد يشتركون في نفس الطبيعة، بينما ينعدم ذلك هنا، فالمتكلمون يقيسون الشاهد أي العالم الواقعي وما يحيل إليه من طبيعة ومجتمع وتفكير، على الغائب وهو التصورات التي شيدوها في أذهانهم عن الله.

يمسك ابن رشد الذي يقدمه لنا الجابري بالحلقة الضعيفة في سلسلة البنيان الذي شيده خصومه، وهو قياسهم للغائب على الشاهد، فهم يخلطون بين عالمين منفصلين، بينما يرسم هو بعناية فائقة الحدود بينهما فقد “انطلق في تصوره المنهجي الجديد للعلاقة بين الدين والفلسفة من مبدإ أساسي سبق التأكيد عليه وهو : الفصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة، فصلا جذريا أساسه أن لكل منهما طبيعته الخاصة التي تختلف جوهريا عن طبيعة الآخر، ومن هنا كان الفصل في قضية منهجية أساسية، وهي تأكيد ابن رشد على خطإ استعمال قياس الغائب على الشاهد في معالجة العلاقة بين الدين والفلسفة، بل في معالجة قضايا كل من الدين والفلسفة، وبالتالي التأكيد على الخطإ الناجم من محاولة دمج قضايا الدين في قضايا الفلسفة أو العكس، لأن عملية الدمج هذه غير ممكنة في نظر ابن رشد، إلا بالتضحية إما بأصول الدين ومبادئه، وإما بأصول الفلسفة ومبادئها” (6).

4
وهذا الذي بيناه حتى الآن يتيح لنا إمكانية استنتاج أن الجابري أنجز قراءته مدفوعا بإحساسه أن هناك وجه شبه كبيرا بين زمن ابن رشد وزماننا، فقد اعتبره معاصرا لنا من حيث الإشكاليات التي طرحها مثلما تقدم ذكره، ومن ثمة فهو سلاح مناسب لخوض معارك راهنة، إنه يحمله مهمة تاريخية كبرى يعاصرها العرب اليوم، وهكذا فإنه كأنما يعتبر العودة إلى ابن رشد بمثابة استرداد سلاح ماض تجاهله أصحابه لفترة طويلة، بينما كان في متناولهم، ولكنهم لم يقدّروا قيمته فلحقتهم الهزائم والخيبات المتتالية، فجاء هو لكي ينبههم إلى قيمة ذلك السلاح، مصمما على وضعه بين أيديهم بعد أن أزال عنه غبار السنين.

وهو لا يقدم في ثنايا تلك القراءة أجوبة مباشرة ، بقدر ما يقدم إشارات وتنبيهات تفيد ذلك، و كان وهو يقرأ ابن رشد مدركا أن أفضل مهمة يمكن انجازها هي تجريد قوى الإرتكاس من سلاح احتكار التراث وخاصة الجانب العقلاني فيه بتحرير ابن رشد من سلطانها وتوظيفه سلاحا ضدها، وإذا كانت تلك القوى تلعب على عواطف الجموع لتجييشها فإنّ الجابري يخاطب قارئه من خلال فيلسوف قرطبة لكي يرسخ لديه البرهان والعقل والتحليل والنقد.

وهو لا يقرأ ابن رشد من خلال جرد لأفكاره وتعدادها، وإنما أشكلتها والوقوف على مفاهيمها وأطروحاتها، فسؤال القراءة يؤرقه : كيف نقرأ ابن رشد ولماذا نقرأه هو تحديدا؟ ويصرح أنه يقدم قراءة جنيالوجية تاريخية تكوينية وهو ما يبينه في مقدمته التحليلية لكتاب ابن رشد تهافت التهافت(7).

وإذا كنا نلمس لديه انبهارا بالنص الرشدي، فإنه انبهار لا يحجب التعامل معه من موقع القراءة المتأنية، وإرادة الحفر بين طبقاته للكشف عن خباياه وما أكثرها.
إنه يستدعي ذلك النص إلى فضاء لم يدخله سابقا، هو فضاء الابستمولوجيا فيخضعه إلى الفحص والمساءلة، ولا يخرج من هناك إلا وقد ارتدى حلة جديدة، تجعله متآلفا مع واقع لا يزال في حاجة إليه، فيتجول ذلك النص في بيئة عربية حبلى بإشكاليات طرحها ابن رشد نفسه، وربما يُفسر هذا بإقرار الجابري أن الواقع العربي ظل في حالة انحباس تاريخية منذ ابن رشد وربما قبله، حيث لم يتغير جوهر بناه المختلفة، التي حافظت على حالها على مدار السنين.

نحن إذن إزاء قراءة تتعامل مع ابن رشد باعتباره شريكا في تطارح إشكاليات عصرنا مؤكدة في الوقت ذاته أن ابن رشد لا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا شاركناه نحن أيضا فهم الإشكاليات التي عصفت بعصره، أي وجوب أن نحسن التعامل معه فهما ونقدا، وأن نقف على معنى الحاجة إليه من حيث هي حاجة راهنة، ومن هنا الوصل بين لحظتين تاريخيتين ومعرفيتين من خلال نقطة جامعة، هي مواجهة التمزّق الملّيّ والطائفيّ والمذهبيّ والتعصب الديني، يقول الجابري :”لا يمكن أن يكون ابن رشد حاضرا بيننا، ينوب عنا في التعبير عن بعض همومنا إلا إذا نحن “حضرنا معه” أولا وشاركناه همومه واهتماماته ” (8).

كان الجابري مدركا أن الصراع ضد ممتهني الخطابة الدينية لأغراض سياسية في عصرنا يشبه تماما صراع ابن رشد ضد متكلمي عصره، فالطرفان المتصارعان متماثلان، العقل والفلسفة من جهة، والنقل والخطابة والكلام من جهة ثانية، لقد رأى فيه محاربا ضدّ التعصب والدغمائية، فهو الفيلسوف الذي يواجه المتكلمين مواجهة شاملة فلا يستثني أقربهم إلى العقل والعقلانية، ونعني المعتزلة، طالما أن منهجهم ومنهج غيرهم من الفرق هو عينه، بمعنى تعارضه التام مع ما هو برهانيّ، يقول “ومع أن ابن رشد يستثني المعتزلة عند عرضه الموجز لطرق الاستدلال لدى الفرق الكلامية المشهورة في زمانه، لكون كتبهم لم تصل إلى الأندلس كما يقول، فإنه يجمع طريقتهم إلى طريقة الأشاعرة ويعتبرها من جنسها” (9).

إن قراءته لابن رشد تندرج كما هو بين ضمن محاولة تقضي بتأسيس رشدية جديدة، عينها مركزة على تحقيق نهوض وتجديد عربيين، وبالتالي فإن تلك القراءة تتخذ طابعا أوسع من مجرد محاولة فلسفية تأملية صرفة، إذ لها رهان عملي تروم انجازه، فهي منشدّة إلى مشروع ينشد بديلا عقلانيا حداثيا لوضع عربي يسوده الجهل والاستبداد.

والجابري لا يخفي هذا الرهان بل يبرزه، إنه يطلب مقصدا واضحا، وهو تجديد الثقافة العربية، هذا التجديد الذي لن يكتب له النجاح إلا إذا انطلق من عناصر عقلانية تتضمنها تلك الثقافة نفسها، أما إذا استند ذلك التجديد إلى عناصر برانية فإن مصيره الإخفاق لا محالة، وهو ما نبهنا إليه سابقا.

وهكذا فإن ابن رشد يمثل بالنسبة إليه فيلسوفا يجب أن نتعلم منه العلم والأخلاق أيضا، إذ “سيبقى نموذجا للمثقف العربي المطلوب اليوم وغدا، المثقف الذي يجمع بين استيعاب التراث وتمثل الفكر المعاصر والتشبع بالروح النقدية وبالفضيلة العلمية والخلقية”(10).

إنه يريد التأسيس لرشدية عربية تأخر ظهورها لمدة قرون، لذلك نراه يتحدث عن “استنبات رشدية عربية إسلامية، هي وحدها القادرة في نظرنا على أن تعطي لحياتنا الثقافية ما هي في حاجة إليه من القدرة الذاتية على التصحيح والتجديد”(11).

لقد قرأ ابن رشد متناولا سيرته الشخصية ومؤلفاته في نفس الوقت، فـ”سيرته الذاتية (ابن رشد) هي مسيرته العلمية نفسها”(12)، فهو يرى أن هناك حاجة ماسّة لابن رشد عربيا، وأن هذه الحاجة علمية بالأساس ولكنها إيديولوجية أيضا، خاصة من جهة الاجتهاد والنقد واتباع سبيل الفضيلة “إن استعادة ابن رشد الفقيه وابن رشد الفيلسوف وابن رشد العالم ضرورة تمليها علينا ليس فقط تلك المكانة المرموقة التي يتبوؤها هذا الرجل في تاريخ الفكر الإنساني، والتي غابت في تاريخ فكرنا العربي، بل تمليها علينا كذلك حاجتنا اليوم إلى ابن رشد ذاته : إلى روحه العلمية النقدية الاجتهادية، واتساع أفقه المعرفي، وانفتاحه على الحقيقة أينما تبدت له، وربطه بين العلم والفضيلة على مستوى الفكر ومستوى السلوك سواء بسواء”(13)، وفي ثنايا قراءته نلمس تلك الحسرة المكتومة، فابن رشد أدى وظيفته كونيا بينما ظل عربيا مجهولا فلم تحدث كتاباته مفاعيلها المطلوبة.

وقراءة الجابري لابن رشد محكومة بثقل اللحظة وما يعتمل فيها من مشكلات، إنها قراءة توجهها وتحركها إرادة البحث عن حل معضلة واقعية يعانيها العرب اليوم، وهي تفشي الظاهرة الأصولية باستتباعاتها المختلفة، فـ”التخفيف من التطرف الديني إلى الحد الأقصى لا يمكن أن يتم بدون تعميم الروح الرشدية في جميع أوساطنا الثقافية ومؤسساتنا التعليمية ” (14).

لقد بالغ الجابري ربما في تقدير قيمة هذا الجانب، فمهما كانت مكانة ابن رشد فإن معركة التحديث والتنوير والعقلنة لا يجب ربطها ميكانيكيا بفكر مهما كانت أهميته باعتباره وحده العامل الحاسم، فذلك يعني التغاضى عن جوانب اجتماعية وسياسية مهمة، ففي غمرة احتفائه بابن رشد نسي أن الفكر ليس له من قيمة إلا باعتباره يساعد على التحليل الملموس للواقع الملموس بما يمكن من تغييره، أما مهمة التغيير في حد ذاتها فتستوجب أسلحة كثيرة أخرى.

إنه يقرأ ابن رشد بعيون العصر ومشكلاته، منبها إلى أنه يمثل مفتاحا للتفسير والتغيير وقراءته هذه كانت عرضة للنقد، فالموروث ولى وانقضى عهده، ولا يمكن أن نجد فيه حلولا لإشكاليات العصر، فالجابري كأنما يتهرب من طرح الأسئلة الحقيقية على نفسه لكي يطرحها على الأموات، معتقدا ان الإجابة موجودة بين طيات ما كتبوه. غير أن هذا النقد يتغافل عن أن الموروث يظل يعيش معنا مما يفرض تصفية الحساب معه من موقع العقلانية النقدية بالذات، وهذا ما حاول الجابري القيام به.

بقيت الإشارة إلى ان تلك القراءة تنزع إلى تقديم فيلسوف قرطبة في ثوب المسلم الحريص على دينه وإيمانه، الذي يحاول جاهدا أن يبرز الصورة الحقيقية لذلك الدين، فإبن رشد يتقمص على يد الجابري ثوب المدافع عن العقيدة / الشريعة، ولكنه لا يقوم بالدفاع كيفما اتفق، وإنما يعتمد دفاعا عقليا برهانيا، من خلال قراءة داخلية للدين تربطه بمقاصده العملية وخاصة الأخلاقية منها، ومن هنا يتجاهل الجابري كل الإشارات التي يتضمنها النص الرشدي وخاصة ما ورد في مختصر كتاب السياسة لأفلاطون بخصوص النمط المجتمعي المراد تأسيسه ودور المرأة فيه (15) من حيث تقلد منصب الرئاسة وحيازة الحكمة (16) والتي يمكن أن يفهم منها التعارض مع مبادئ الشريعة وثوابتها، ربما خشية ان يؤول ذلك إلى زعزعة تلك الصورة التي يرسمها لإبن رشد، والتي في حال تشققها فإن المستفيدين هم أولئك الذين يحضرون بالغياب في قراءة الجابري، أي الأصوليون أو المتكلمون المعاصرون الذين ألحقوا الضرر بجسد الأمة وأثخنوه بالجراح.

وقد يكون مفيدا التنبيه إلى أنه يتحرك في حقل زرعته الأصولية الدينية بالأحكام الزائفة، فهو يريد أن يقول لها وهو يلبس قناع ابن رشد أن الشريعة مقصدها الفضيلة، ولا شئ غير ذلك، وليس هناك من سبب يستدعي تمطيطها لكي تفرض سلطانها على كل مناحي الحياة، وهي غير متعارضة مع الفلسفة والعلم على هذا الصعيد بالذات، فللعلم مجاله المخصوص، وهو حرّ في دراسة الكون والكشف عن القوانين الموضوعية المتحكمة به، دون أدنى تحريم أو تكفير، ولطائر مينيرفا أن يحلق في الآفاق، والقرآن ليس كتابا في العلم وإنما للفضيلة، وفيه إشارات فقط للكون والنظام الذي يسوده، وهي تصلح لعامة الناس، دون أن تصل إلى ادعاء تقديم قوانين علمية مفصلة، فهذه من مسؤولية العلماء.

وهكذا فإن قراءة الجابري لابن رشد يحركها رهان عملي غير خاف، وبمعنى ما فإن الجابري يجد في ابن رشد ضالته، فيستعمله سلاحا في معركة تدور رحاها أمامه، وهو طرف من أطرافها، ومن هنا فإن تلك القراءة لا تفلت من وطأة الايدولوجيا التي تتلبسها، لقد بدت قراءة الجابري لاتاريخية فهي تتغافل عن أن ابن رشد لا يمكن أن يكون معاصرا لنا ولا نائبا عنا، خاصة إذا نظرنا إلى العصر من جهة ما بلغته الإنسانية من تقدم، فنحن نحتاج لإبن رشد مثلما نحتاج أي فيلسوف آخر، ولكن لا بغرض استدعائه لكي يقيم بيننا فالأموات مهما بلغ تأثيرهم هم الأموات، ولا يجب ان نسمح لهم بالإمساك بتلابيبنا، كما أنه لا يجب التغافل عن العصر ومكاسبه الكونية، وإذا كان الجابري يرى في ابن رشد مفتاحا لمقاومة التعصب الديني والأصولية فإن هذا وان اتفقنا معه فإنه لا يجب أن يخفي أن تلك المقاومة لا ينبغي ان تنحصر في توظيف الرشدية فقط، بل في الجوانب النيرة الثاوية في الموروث العربي مشرقا ومغربا، وما أنجزته الفلسفة والعلوم الإنسانية على صعيد كوني.

لقد كان الجابري حريصا على القطع مع القراءات الإيديولوجية الذرائعية والاتجاه ناحية قراءة ابستمولوجية، غير أنه كان هو أيضا سجين إيديولوجيا مضمرة، وليس من الصعب الكشف عنها وهو ما ألمحنا إليه، وقد يكون من الصعب على الفلاسفة ومنهم الجابري الإفلات من قبضة الايدولوجيا ولو لعنوها علنا ألف مرة.

و لنا أن نسأل في الأخير هل كان الجابري سيتجه صوب قراءة ابن رشد لو لم يكن هناك دافع واقعي حتم عليه ذلك، ونعني إحكام قوى الإرتكاس قبضتها على المجتمع العربي مستعملة المقدس الإسلامي موظفة التراث في معركتها؟، ربما كان لتلك القوى الماضوية فضل كبير ليس فقط على الجابري وإنما على كثيرين غيره من المفكرين العرب المعاصرين، الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على العودة إلى الموروث للكشف عما فيه من جوانب عقلانية، بغية توظيفها في المعركة ضد تلك القوى بالذات، وبالتالي معانقة مجتمع المستقبل، وإذا جاز هذا توجب على الفلسفة أن توجه تحيتها لتلك القوى مرة واحدة على الأقل

‫شاهد أيضًا‬

الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي

على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…