محمد أركون: مـن الــعلم إلـى الــفكر
يكاد ينحصر موضوع البحث والتفكير لدى محمد أركون في تاريخ الفكر والثقافة العربيين الإسلاميين، كما يكاد ينحصر الجهاز المفاهيمي الذي اعتمده في التطرق لمجال بحثه في الفكر الغربي المعاصر. هذا بالإضافة إلى أن طبيعة تكوينه الأكاديمي جعلته يستقر في إطار الفكر العلمي متجنبا إغراءات الإيديولوجيا التي استهوت كثيرا من معاصريه. لقد ساير محمد أركون تطور العلوم الإنسانية واستوعب مفاهيم أهم حقولها مثل الأنتربولوجيا والإتنولوجيا واللسانيات والتاريخ والفلسفة لجعلها الأداة الأساسية لاقتحام النصوص القديمة ومواجهة مختلف المواقف السائدة تجاهها.
يصعب علي جرد شبكة المفاهيم الناسجة لفكر محمد أركون في مثل هذا المقام، خاصة وأن هذه المهمة لن يتقنها إلا المتخصص في المجال. أود فقط إثارة بعضها لما لها من مكانة في حقلها الأصلي، ولما يمكن أن يكون لها من دور في فتح الأفق أمام المثقف الذي يولي الاعتبار لأهم بعد وسط أبعاد الحياة: المستقبل. ولن تفوتني الإشارة إلى أن المفاهيم التي أذكرها هنا وردت في محاضرتين ألقاهما بفاس (ربما كانت أول فرصة يتناول فيها الكلمة بالمغرب) وسط السبعينات بدعوة من أستاذي الفاضلين، مؤسسي شعبة الفلسفة بجامعة سيدي محمد بن عبدالله: جمال الدين العلوي رحمه الله ومحمد سبيلا أطال الله عمره.
النقد. يعتبر النقد من المفاهيم المخترقة لكل فكر محمد أركون. إنه الباحث العربي الذي بدأ نقديا وانتهى نقديا. أكيد أن كانط كان ملهمه حينما أورد هذا المفهوم وسط عنوان كتاب من كتبه، غير أن الميل إلى تبني النقد حصل مع بداية اقتحامه لتاريخ الفكر العربي الإسلامي. وقد تبنى محمد أركون النقد بمعناه الفلسفي القاضي بوضع المسافة بينه وبين موضوع البحث، موقف يولي أهمية كبرى لما نسميه بالشروط: شروط النشأة، شروط الإحاطة بالموضوع، شروط إحياء الموضوع، شروط تجاوز الموضوع …إنه المفهوم الذي يفرض على الباحث، إن هو تبناه بعد إدراكه لفضله، التفكير في إطار مقولة الحدود، أي الانتباه للحدود الموجودة وكذلك للحدود المرتبطة بعمليتي الهدم والبناء. وظف أركون النقد في معناه الفلسفي الذي يحمله القول الشهير “اعرف نفسك بنفسك” حتى لا يطغى تجريد المفهوم على حيوية المعيش والتجربة الذاتية، وحتى لا تمحو الفكرة السائدة المبادرة الحرة الأصيلة.
المجتمع. انفتح محمد أركون على الدراسات الإنسانية المعاصرة مع بداية اهتمامه بالتراث العربي الإسلامي خاصة تلك التي أعطت توجهات جديدة للعلوم الإنسانية حيث تعاطى المهتمون بها للمجتمعات البعيدة عن المركز، وأولوا أهمية كبرى للثقافات الراسخة وسط هذه المجتمعات بدء باللغة ومرورا بالعادات والتقاليد المؤسسة لعلاقات أفراد تلك المجتمعات ببعضهم البعض، وكذلك بمحيطهم المادي وبباقي المجتمعات الأخرى التي يتقاسمون معها الأرض والكون. هكذا تم اللجوء في التحليل إلى الخصوصية بدل الشمولية وإلى الهامش بدل المركز، والاختلاف بدل الهوية الخالصة، والقطيعة بدل الاستمرارية والثقافة بدل الطبيعة، والنسبي بدل المطلق….وتجدر الإشارة إلى أن هذه العلوم الإنسانية لم تَكُف في عملية بناء مفاهيمها وتصوراتها عن الاستناد إلى التطور الحاصل فيما يسمى بالعلوم الدقيقة، خاصة الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا.
لن يفوت المهتم بفكر محمد أركون الانتباه لما يوليه من أهمية للمقاربة الحديثة للمجتمع في تعامله مع الفكر العربي الإسلامي القديم والجديد معا. لقد كان من المدافعين عن مسألة التعدد والاختلاف السائدة داخل العالم العربي على مستوى اللغة والمعتقد والعادات والتقاليد، اقتناعا منه بكون الثقافة المحلية تملك قوة بصم كل ما يتلقاه أفرادها من أفكار ومعتقدات، كما أنها تشكل دائما وساطة بين ما يمكن تسميته بالفكر العارف السائد داخل محيطها وبين الدارس العازم على تناول هذا الفكر. ولقد جاء دفاعه هذا عن التعددية والاختلاف نتيجة اعتبارات علمية بالدرجة الأولى حتى تأتي نتائج البحث منسجمة مع موضوع الدراسة، وحتى لا يختزل الفعل العملي الملازم للفعل الفكري الإقحام والإقصاء والتعسف والعنف.
التاريخ. انتبه محمد أركون عبر اهتمامه بالعلوم الإنسانية واستيعابه لها إلى أهمية البعد التاريخي في التعامل مع موضوع الفكر. لقد كان يكرر دائما أنه لا يمكن التعامل مع قيمة حقيقة الفكرة انطلاقا من مضمونها الداخلي المحض. ينشأ الفكر، كما هو شأن كل فعل إنساني، في مرحلة تاريخية معينة ويتطور داخل الزمن وعبره، وهو يخضع بذلك لقوانين يفرضها هذا الزمن، أو على الأقل لفعالية هذا الزمن الذي يعمل وفق قوة التعدد والاختلاف، قوة تؤدي إلى التقدم والتراجع، إلى الاستقامة والانعراج، إلى التقطع والتقاطع، إلى الانغلاق والانفتاح ، إلى الأمل وخيبة الأمل، إلى الجديد والقديم…
بهذا يتم عمل إرادة الإنسان وسط إرادة أخرى (أو إرادات أخرى) قد تدفع بها في اتجاهها الذي وضعته، ولكنها قد تعمل أيضا في اتجاه يكون غريبا عن اتجاهها ، بل مناقضا له. لا يتم فعل الإنسان في التاريخ خارج فعل التاريخ في الإنسان. ومن لم يستوعب أهمية قوة التاريخ يسقط في تياره الجارف ليدفع به حيث لا مجال للأمل في الحياة. وبما أن للتاريخ مكر فإنه قد يغدق عليه بالأوهام ليغمره في إطار الانفعال والتهميش.
كان أركون حريصا على إدراج مقولة التاريخ في دراساته للفكر العربي الإسلامي حتى يمنح الأصالة والمتانة والقوة لخطوات البحث ونتائج الدراسة. كان يعترف بفعل التاريخ حتى يتجنب الحكم القطعي والموفق النهائي، ويتجنب بالخصوص ادعاء الهوية الخالصة والكاملة والفريدة.
الاجتهاد. مفهوم ساقه محمد أركون من الفكر العربي الإسلامي القديم لإعطاء الأهمية للحيوية التي عرفها هذا الفكر في مرحلة من تاريخه، وليؤكد على إحياء هذا التقليد الحميد والضروري، مع منحه روح العصر الذي نعيش فيه، أي ربطه بالتطور الذي عرفته الحياة الإنسانية حاليا على جميع المستويات: الوجداني والفكري والعلمي والعملي… ينبغي إحياء الاجتهاد في الفقه واللاهوت والفلسفة مع الاستقرار وسط المنظور العلمي.
استعملت أعلاه تعبير منح روح العصر للاجتهاد الحالي، وقصدي من هذا التعبير هو تمييز محمد أركون، صحبة قلة من المفكرين العرب المعاصرين، بتبني موقف الاستقرار وسط مجال العلم لدراسة الفكر والثقافة بما في ذلك الإديولوجيا والمعتقد، بدلا من الانغماس في هذين المجالين الأخيرين للحديث عن العلم. لقد دشن طاليس التفكير الفلسفي اعتمادا على منهج العلم ونتائج العلم. واستمر هذا التقليد لدى الفلاسفة اليونان ولدى الفلاسفة العرب الذين طوروا فكر اليونان. كما شكل الانطلاق من العلم نحو التفكير الفلسفي أساس الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وبعدهما منطلق مختلف العلوم الإنسانية. كيف يمكن قلب الآية إذا في عالمنا العربي المعاصر للانطلاق من تصور معين للدين للخوض في مناهج العلم ونتائجه. لا يمكن أن يتم الاجتهاد على هذا المنوال. إنه ضرب في معنى الجهد الذي تنطوي عليه كلمة اجتهاد وإحلال للاجهد مكان الجهد. لهذا كان محمد أركون رافضا لمثل هذا الموقف، وشديد المواجهة له. كان مفكرا يمارس الفكر بالطريقة التي سادت لدى المفكرين عبر التاريخ، أي الطريقة الإنسانية الشمولية.
تكمن ميزة أركون إذا في كونه يجتهد في تطوير مفهوم الاجتهاد ذاته، مما يجعله يتماشى مع المعنى الاشتقاقي للكلمة من جهة ويسمح بالإبداع على مستوى الموضوع المتناول من جهة ثانية. يؤدي العمل على الجهتين إلى رد الاعتبار للإنسان ولخاصيته الأساسية الكامنة في كونه حرية: ينبغي أن تحافظ أساسا على ما يجعل منها حرية ويضمن لها أن تظل حرية.
لن أنهي قولي دون التأكيد على أهمية هذا المفهوم في فكر مجمد أركون. وما أظن أني سأخون روح فكره إن قلت: لعبت الحرية، في نظر أركون، دورا أساسيا في نشأة الفكر العربي الإسلامي القديم وفي تطوره، ولن تتجدد النشأة الفعلية الصحيحة إلا بممارسة المثقف العربي المعاصر لحريته في التعاطي للفكر العلمي والأخذ بنتائجه، وأيضا في اختيار موضوع بحثه، ووضع مرجعياته، وتحديد مناهجه، والإفصاح عن رغباته وآماله. للأسف إن ثمن الحرية غال في معظم البلدان العربية، وللأسف الشديد إن ثمن حرية الفكر أغلى. لهذا فإن التحدي الكبير الذي يضعه المثقفون العرب (من بينهم وأبرزهم محمد أركون) أمام كل من ينصب نفسه مسؤولا عن سلم وسلامة المواطنين داخل العالم العربي هو تخفيض ثمن حرية الفكر، علما أن المبدأ الذي ينبغي أن يسود في هذا المجال هو ضمان مجانية هذه الحرية مع توفير شروطها في الإنتاج وتحسين ظروفها في الاستهلاك.
* أستاذ بكلية الآداب الرباط