محمد عابد الجابري.. مدرسة ‘الأنا’ المفتوحة على ‘الآخر’

الجابري يتخذ من مسار حياته المعرفية مجالا رحبا لفهم العقل العربي وسبر مغاوير تكوينه، ونقده يصبو الى بناء الغد الأفضل والعيش الكريم.

العرب ادريس علوش

[نُشر في 12/09/2013، العدد: 9318،

محمد عابد الجابري مفكر وفيلسوف اتخذ من مسار حياته المعرفية مجالا رحبا لفهم العقل العربي، وسبر مغاوير تكوينه، وتشريح بنياته، وسياسته، وأخلاقه، ونقده نقدا يرمي إلى بنائه في أفق تفاعله وتقاطعه المادي والجدلي مع المستقبل وآفاقه الرحبة التي تنشد الغد الأفضل والعيش الكريم للإنسان العربي أنّى كان وأنّى وجد، وهو أيضا المثقف العضوي بكل ما يحمله المعنى الغرامشي من دلالات للمفهوم، خصوصا أنه انخرط في صيرورة النضال الوطني ضد الاستبداد الكولونيالي في سن مبكرة.

بعد حصول المغرب على استقلاله واصل محمد عابد الجابري نضاله على واجهات متعددة الحزبية منها والتعليمية والتربوية والجامعية والمجتمعية، إضافة إلى اجتهاداته النظرية والفكرية والأيديولوجية، باعتباره المنظر الأساسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وهو الذي صاغ تقريره الأيديولوجي الذي قدم في مؤتمر الحزب الاستثنائي سنة 1975.

فيلسوف خجول

عن العرب يقول محمد عابد الجابري في أحد الحوارات التي أجريت معه: “العرب، كسواهم من الشعوب، يحاولون الإنجاز، يحاولون العمل. هنالك الصين والهند والباكستان، وهنالك أميركا اللاتينية وأفريقيا، وهنالك روسيا؛ وهي، بشكل أو بآخر، في مثل وضعنا. أي أن كلَّ بلد يحاول أن يعمل، وليس العرب وحدهم في الدنيا يعملون ومطلوب منهم أن يعملوا أو ينهضوا. نحن، كالآخرين، نحاول أن ننجح، اليوم أو غدًا.

لسنا وحدنا: هنالك الغرب وتناقضاته، وهناك غير الغرب. والغرب متعدد، ويعاني المشكلات نفسها التي نعانيها، وفق خصوصيات معينة، ومطلوب منه العمل، ويعمل. أما القول “نحن العرب… ونحن العرب…”، فلا طائل تحته! نحن واحد من “نحن” كبيرة جدًّا هي العالم الذي يسمَّى الآن ‘جنوبًا'”.

قال عنه المفكر السوري جورج طرابيشي:”كنا زميلين ولم نكن صديقين”.

ثم صرنا صديقين دون أن نكفّ عن أن نكون زميلين، وهذا قبل أن تتطوّر بيننا تلك العلاقة الغريبة التي تمثّلت في زهاء ربع قرن من الحوار اللاحواريّ منذ شرعت بالإعداد للجزء الأوّل من مشروع ”نقد نقد العقل العربي” ردّاً على مشروعه الرائد في ”نقد العقل العربي” .

ذلك أنّي التقيته، أوّل ما التقيته، على مقاعد الدراسة في جامعة دمشق، قسم اللغة العربية. كان ذلك سنة 1959 يوم كان كلانا طالباً يجمعنا درس مشترك هو ذاك الذي يعطيه كبير أساتذة اللغة العربية الذي كان سعيد الأفغاني.

لا أذكر أنّه في سنوات الدراسة تلك وقع بيننا أيّ صدام، ولا كذلك أيّ تفاهم. كنّا زميلين، ولم نكن صديقين.

وكان بيننا ضرب من تنافس مكتوم، أو على الأقلّ هذا ما صارحني به يوم صرنا صديقين: تنافس لا على الأولوية في الصفّ، فقد كنّا كلانا من المتفوّقين، بل على الشعبية لدى البنات في الصفّ: فقد كان خجولاً بقدر ما كنت أميل بالأحرى إلى الجرأة”.

الإنسانية والخصوصية

وفي الغرض ذاته، يقول المغربي عبد السلام بنعبد العالي: “عرفت السيد محمد أستاذاً منذ أواسط الستينات. الميزة الكبرى التي كانت تميّزه هو أنه لم يكن ليشعرك على الإطلاق أن لديه علماً يريد أن ينقله إليك، وإنما كان على استعداد دائم لأن يتعلم معك.

‘امتلاك التراث الإنساني يتم عبر خصوصيتنا’

كان يشعرنا أن الأرض ما زالت خلاء، وأن علينا أن نؤسس الأمور من جذورها. بهذا المعنى يمكن أن نقول إن الفلسفة وتدريسها وتعريبها في المغرب أمور قامت على أكتافه.

كان يعلم أن الأمور لن تكون أول الأمر على ما يرام، لكنه كان يدرك أتم الإدراك أن التأسيس لا يمكن إلا أن يتصف بالنقص وعدم الاكتمال، وأن طريق التأسيس شاق وعسير. لذا كنت تجده ينقض على الفرص كلما سنحت ليستثمرها من أجل ذلك التأسيس. في هذا الإطار عمل كل جهده لأن ينتزع تدريس الفلسفة من الأساتذة والمفتشين الفرنسيين، فقام بتهيئة أول الكتب المدرسية لتدريسها”.

وأضاف قوله: “وإن الوقت هو وقت زرع البذور، إلا أن زرع البذور لا يمكن البتة أن يتم دون وعي تاريخي، لذا وجب علينا أن ننفتح على التراث، على تراثين: التراث العربي الإسلامي وكذا على التراث الإنساني، إلا أن كل تملك لما يُسمى تراثاً إنسانيا لابد أن يتم عبر خصوصية هي خصوصيتنا”.

وقد تحدّث الباحث اللبناني فرحان صالح حول فكر الجابري في مقالة له منشور بمجلة “الحداثة” البيروتية، بعنوان «محمد عابد الجابري: كان منتجا مغربيا لا غربيا» عن توصّل هذا المفكّر في كتابه “ابن رشد: سيرة وفكر” إلى اعتبار ابن رشد نقطة التحول والانطلاق لمشروع ثقافة عربية أكثر عقلانية في عصره.

ثقافة عقلانية

ودلّل فرحان صالح على أن الجابري، عبر ابن رشد، استكمل قراءة التراث الفلسفي والفكري العربي الإسلامي، ذلك أن كتابه “نحن والتراث” محطة نقد فيها الفلسفة العربية من خلال أعلامها الكبار من أمثال الفارابي وابن سينا وابن باجه وابن رشد وابن خلدون.

ويذهب فرحان إلى تأكيد حقيقة أن الجابري يعتبر ابن رشد أول من قدم الميتافيزيقا كمحمول فلسفي واحد على الصعيدين العربي والعالمي، قبل ديكارت، إلا أنه لم يتحول إلى ديكارت، لأن العصر العربي آنذاك لم يكن ناضجا لاستيعاب وقبول ما طرحه، فأحرقت كتبه وتم التنكر لإنجازاته.

وفي هذا الشأن، يقول فرحان صالح: «هذا التصنيف الاجتهادي للجابري، والذي أدى به إلى الخوض بالتفاصيل للتمييز بين أقطار المغرب عن المشرق، لا يدفعنا لمجاراة البعض والذهاب بعيدا، خاصة وأن الجابري وفي كل ما صرح به وعمل له، كان حريصا في الربط المعرفي بين المشرق والمغرب، وما الاهتمام بما كان يكتبه من قبل المثقفين الشرقيين سوى الدليل”

وقال فرحان: «هذه الدوائر والأسس التي قامت عليها نظريات الجابري لم يكن من رابط بينها، إلا المصارعة أو المصالحة، إذ لا يرتقي فيها العرفان إلى مستوى البرهان، ولا يسمو فيها البيان إلى نظام البرهان”.

ظل المفكر محمد عابد الجابري وفيا لفعل الكتابة النقدية، وظل ينشر إسهاماته في تطوير وبلورة المعرفة الإنسانية في العديد من المنابر العربية، بالإضافة إلى مواصلة سلسلته “موافق” التي كان أخرها العدد 79، وهي في شكل كتيب للجيب مساهمة منه في تقريب الكتاب من أنامل المتلقي والتي كان عبرها يناقش مواضيع الساعة في شكل مقالات.

تشكل الهوية الوطنية

آخر مقال للجابري حمل عنوان ” “الاعتزال”.. وهوية الدولة الأولى في المغرب”، وقد نشر بزاويته الأسبوعية في ملحق ”وجهات نظر” لـجريدة ”الاتحاد” الإماراتية يوم الثلاثاء 4 مايو-آيار 2010 والذي نقتطف منه هذه الفقرة: “معلوم أن نظريات ابن خلدون التي عرضها في مقدمته الشهيرة تتركز، كما أكد هو نفسه، على أسباب قيام الدول وسقوطها وما يحدث فيها من العمران، ومعلوم كذلك أن آراءه في هذا الموضوع قد استخلصها أساساً من استنطاق تجربته السياسية في أقطار المغرب العربي، ومن تجارب الأمم السابقة، والتجربة الحضارية العربية الإسلامية بالتحديد.

أما المحور الأساسي الذي تدور حوله نظرياته تلك فهو العصبية والدولة في علاقتهما بالدعوة الدينية.

وهذه العلاقة تتحدد عنده كما يلي: ”العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه”، وفي مقدمة ”ما في معناه” المصاهرة، ثم ”الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك”، و”الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم”، وأخيرا “الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها”.

إذا نظرنا إلى هذه التحديدات من زاوية الموضوع الذي يشغلنا في هذا المقال والمقالات السابقة، موضوع الهوية الوطنية وتشكلها، فإنه بالإمكان الربط بين سؤال ابن خلدون: ”كيف تتكون الدول؟” وبين سؤالنا: كيف تتشكل الهويات، باعتبار أن ”الدولة الوطنية” و”الهوية الوطنية” هما بمثابة سفحي جبل واحد ومن هنا يمكن النظر إلى ما دعاه ابن خلدون بـ”الدعوة الدينية” وبعبارة أوسع الثقافة “ولم يكن هناك فرق كبير بينهما في زمنه”، وما أطلق عليه اسم “العصبية” وهي عنده قد تتسع لتشمل مجموعات من التحالفات القبلية وأماكن ”أوطانها” ومصادر عيشها وأسلوب حياتها الخ، أقول يمكن النظر إلى هذين العنصرين بوصفهما يشكلان في ترابطهما ليس فقط ”البنية الكلية” لـ”الدولة” بل أيضا لـ”الهوية الوطنية”

******عن  صحيفة العرب

12 شتنبر 2013

‫شاهد أيضًا‬

الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي

على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…