ترجع فكرة الإصلاح إلى القرن الثامن عشر حيث فرضتها آنذاك القوى الأوربية على الدول المتأخرة بهدف استخلاص الديون عبر مراقبة الموانئ والتجارة ثم اتخذت تعلة فيما بعد لفرض الاستعمار المباشر.
كان النموذج الأول لفكرة الإصلاح هو مقولة “الإصلاحات” التي التزمت السلطنة العثمانية بالقيام بها، والتي تردد صداها في كل العالم العربي ومن ضمنه المغرب.
وقد تمثلت النخب الوطنية المغربية فكرة الإصلاح فبادرت إلى المطالبة بإصلاح التجارة، وإصلاح الجيش، وإصلاح التعليم… إلخ. بل إن الحركة الوطنية في لحظة من لحظات تطور وعيها وبرنامجها طالبت الحماية بتطبيق الإصلاحات التي وعدت والتزمت بها في عقد الحماية.
غير أن مدلول مصطلح الإصلاح في هذا الأفق الوطني لم يكن سوى التطوير، والتنظيم، والإنجاز في أفق عملي غير واضح المعالم من حيث أسسه النظرية في حين أن الإصلاح في التصور الأوربي كان يندرج في مدلول التحديث والعقلنة الحسابية وإن في سياق الهيمنة الاستعمارية. فرغم هذا التداول الواسع لمصطلح الإصلاح، وهو التداول الرائج إلى اليوم في إطار الخطة الأمريكية لفرض “الإصلاحات الديمقراطية” في العالم العربي، فإن خلفيته الفكرية تتباين حسب الأطراف والسياقات والفترات التاريخية.
لكن هذا المصطلح كان يتداول أيضا بمعنى آخر وفي أفق فكري آخر، فقد نادى الفقهاء التقليديون أيضا بإصلاح أحوال المسلمين نتيجة تفشي مظاهر الحياة الحديثة في اللباس والمأكل ودخول الآلات والأدوات التقنية ومظاهر الاحتفال والموسيقى، وغيرها. فهذه المستحدثات في نظر هذه الفئة هي سبب ضعف المغرب وانحطاطه لأن النخب العصرية انبهرت بما هو أجنبي وانتهت بتقليده، وفرطت في مقومات الحياة التقليدية. وهكذا أدانوا هذه البدع والمناكر التي هي المستحدثات التقنية التي غزت البلاد مع ما رافقها من عادات وسلوكات.
بجانب مقاومة الفقهاء والفئات التقليدية لبعض مظاهر التجديد نلاحظ أن العديد منهم لم يستوعبوا مضمون بعض الأفكار الحديثة التي روجها الأوربيون كفكرة الحرية مثلا. فهذا الشيخ أحمد الناصري يعتبر الحرية “مسألة أحدثها أو طرحها الأجانب (الفرنج)، وهي فكرة وضعها الزنادقة قطعا لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله، حقوق الوالدين، وحقوق الإنسانية رأسا.. والحرية الشرعية هي تلك التي ذكرها الله في كتابه وبينها رسول الله لأمته وحددها الفقهاء في باب الحجر من كتبهم “(الناصري: الاستقصا 1945، ج. 9، ص 115/114العروي: مفهوم الحرية، ص 11 ).
لقد استخدم الإصلاح هنا بمعنى آخر وفي أفق آخر مع النخبة التقليدية المحافظة التي دعت إلى إصلاح أحوال الناس بما يتفق مع حياة السلف الصالح، وإلى تقنية الحياة العصرية من المناكر والمستحدثات والبدع. فنحن هنا أمام إصلاح لكنه إصلاح مضاد أو معكوس، يناهض التطور ويدعو إلى العودة إلى الوراء. كنموذج على هذا النمط من الإصلاح موقف الفقيه ابن الموقت الذي عبر بوضوح عن هذا الوعي التقليدي وعن المفهوم الإصلاحي المضاد. فهو يرى أننا كلما تقدمنا في الزمان الدهري اقتربت الساعة وعنت نهاية العالم وفسد الزمان وكثرت البدع والمناكر التي هي علامات النهاية. ويأخذ هذا الموقف لدى ابن الموقت صورة شبه مكتملة تتمثل في الإدانة القوية للحاضر، وتقسيم الزمان تقسيما حادا وحاسما، والدفاع عن التقدم المعكوس حيث النموذج وراءنا والسقوط أمامنا (ابراهيم أعراب: سؤال الإصلاح والهوية – إفريقيا الشرق 2006، ص. 165 ).
ولاشك أن التحول الذي حدث في وعي النخبة الوطنية ولدى رجل كعلال الفاسي في نهاية الأربعينات هو تحول جذري قياسا إلى مثل هذه الأفكار وذلك بسبب الانفتاح على أفكار النهضة في الشرق، حيث نجد لديه فهما عصريا للحرية، ودعوة لحرية الفكر والحريات السياسية إضافة إلى القبول الواسع بأشكال التحديث الاجتماعي والسياسي.
لقد طورت الحركة الوطنية وعيا متقدما حول الإصلاح وتجاوزت الكثير من الأفكار التقليدية المتزمتة، بل دعت إلى محاربة المؤسسات المكرسة له كالطرق والزوايا، كما تقبلت تنظيم الحياة الاقتصادية والسياسية تنظيما عصريا وطورت خلال مرحلة النضال ضد الاستعمار أفكارا عصرية حول الدستور والديمقراطية، وهي الأفكار التي تبنتها وطورتها بشكل جذري الحركة التقدمية منذ السنوات الأولى للاستقلال.
إلا أن صراع هذه الأخيرة مع النظام جعل هذا الأخير يستنهض في حربه هذه أفكار وقوى وآليات التقليد إلى أن أصبحت له تمظهرات سياسية وحضور واع على المشهدين السياسي والثقافي. وموازاة مع ذلك، تبنت قوى التقدم شعار الحداثة السياسية، كما تبنت، لكن مع احتشام أكبر، شعار الحداثة الثقافية.
يفيدنا الاستعراض السابق لتطور مفهوم الإصلاح وسياقاته المختلفة وخلفياته الفكرية والإيديولوجية، وحمولته الأخلاقية في تبين حدوده ومداه ولعله سيساعد على تبين أن الأفق والمرجع الحقيقي للإصلاح هو الحداثة والتحديث، أي أن الإصلاح هو خطوة في درب التنظيم، والعقلنة، والتحرر، واستيعاب منطق العالم المعاصر. وكل مناداة بالإصلاح لا تستحضر هذا الأفق التحديثي ستظل مراوحة في المكان منذورة للانتكاس والنكوص.
لكن ما هو هذا التحديث؟ وما هي هذه الحداثة التي نتعلق بأهدابها ونرفعها شعارا وربما حلا سحريا؟ استعمل هنا مفهومي الحداثة والتحديث في مدلول متقارب، حيث يشير مفهوم التحديث إلى السيرورة في وجهها الدينامي بينما يشير مفهوم الحداثة إلى الحالة في صورتها النموذجية الافتراضية.
يجب أن نشير أولا إلى أن شعار الحداثة لا يكفي لفهمه واستيعاب مضامينه. ولنعترف بأننا أقرب ما نكون إلى ترديد المصطلح والتبجح به أكثر مما نحن أقرب إلى فهمه واستيعابه، وبالأحرى تطبيقه في حياتنا المنزلية وعلاقاتنا المهنية وتنظيماتنا السياسية، أي في حياتنا الخاصة مثلما في حياتنا العامة.
ولعل سبب ذلك يعود من جهة إلى جدة التجربة وإلى جدة المصطلح وإلى ضمور الاجتهاد الفكري التحديثي، كما يعود من جهة أخرى إلى رسوخ التقليد في مجتمعنا، هذا التقليد الذي نحن منغمسون فيه كليا ومنشرطون به لدرجة أنه تحول إلى عائق إبستمولوجي (معرفي) قوي يحول بيننا وبين فهم واستيعاب جوهر الحداثة.
ورسوخ التقليد في مجتمعنا يعود إلى أسباب تاريخية وجغرافية وسياسية عميقة، فالمغرب شبه جزيرة معزولة في أقصى الغرب الإسلامي ظلت بمثابة قاعدة أو ثغر دفاعي في مواجهة الهجومات المسيحية، ولم يعرف، باستثناء فترة ازدهار الأندلس، حراكا فكريا أو ثقافيا عبر تاريخه بل ظل مستوردا ومستهلكا للأفكار وللغة الآتية من الشرق، هذا إضافة إلى رسوخ نظام المخزن والتنظيمات الاجتماعية الموازية له كالنظام القبلي والوظيفة الدينية للدولة. وقد عمل النظام السياسي بعد الاستقلال على الاستجابة الجزئية المحدودة لمطالب التحديث السياسي لكنه قاوم بشدة مظاهر التحديث الثقافي.
إن فهم واستيعاب معنى التحديث والحداثة يتطلب إذن إيلاء البعد الفكري والثقافي الأهمية التي يستحقها وإحداث التوازن تجاه الهيمنة التي يمارسها العنصر السياسي على عناصر التركيبة الاجتماعية. وهذا هو ما يتطلب إعادة الحيوية الثقافية ولقوى التقدم والحداثة والحرص على الاقتران بين التحولات السياسية والتحولات الثقافية، والكف عن التبني الخجول للتحديث الثقافي لأن لا تحولات سياسية عميقة بدون تحولات ثقافية وفكرية وذهنية عميقة، وبخاصة لدى النخب التي تتولى مهام التحويل الاجتماعي. فالحداثة السياسية بدون حداثة ثقافية هي حداثة جوفاء وعمياء.
إذا كنا نريد حداثة حقة فإن علينا عدم الاكتفاء باقتطاف بعض ثمارها بل علينا أن نغرس شجرتها ونتعهدها بالعناية والرعاية، لأنها سيرورة عسيرة وطويلة الأمد وليست نموذجا جاهزا للاقتطاف والارتداء والاستهلاك.
صحيح أن الحداثة اختيار فكري وإيديولوجي إرادي وواع من طرف قوى التقدم والنخب التحديثية، لكنها من زاوية أخرى استجابة لحتمية كونية فالحداثة، من حيث هي قوة، هي سيرورة كونية كاسحة سمتها الأساسية هي الدينامية والانتشار الفوري الأقصى، آليتها المداهمة والاستلحاق واستجلاب التلقي الإيجابي. فنحن جميعا راكبون في قطار الحداثة بما في ذلك أولئك الذين يعارضونها أو يرفضونها أو يأكلون النعمة ويسبون الملة كما يقال.
لكن الحداثة ليست فقط نتيجة اختيار إيديولوجي واع واستجابة لمنطق انتشارها بل هي أيضا وبالضرورة، نتيجة اختيار براغماتي. فالحداثة، حتى وإن “لم تكن هي الفردوس الموعود، إلا أنها هي الإطار القادر على استيعاب وحل مشاكلنا في العديد من مستويات الحياة: في التطبيب والعلاج، في النقل، في التدريس، في تسريع الإنتاج، في تنظيم أساليب الإدارة والحكم.. إلخ”.
إن الحداثة سيرورة تعبئة دينامية شاملة للعالم mobilisation totale du mondeوإخراج لكل المجتمعات من غفليتها وأسانتها وقذف بها في أتون مباراة كونية تنافسية لا ترحم، حيث تندمج فئات اجتماعية واسعة في العمليات الاقتصادية والسياسية، وتنخرط في دينامية التنافس، وحيث يتحول العنصر البشري إلى قوى منتجة ومستهلكة، ويخرج تصور الزمان من دائرة التكرار والمراوحة ويصبح عملة ثمينة نادرة بالتدريج تتراتب في أفق التقدم والتصاعد. وحيث تكتسب المعرفة طابعا علميا أكبر.
إلا أن الوجه التقني والاقتصادي والسياسي للتحديث يطغى على السطح بحيث يبدو وكأن الحداثة هي هذه التحولات التي تظهر على السطح الاجتماعي، في حين أن هناك دينامية داخلية أعمق وأكثر حدة وهي الصراع الثقافي بين صورتين للعالم. فالحداثة في عمقها سيرورة معرفية استكشافية للطبيعة الخارجية وللطبيعة الداخلية، ورفع لحجب الأوهام والأساطير التي تغلف المعرفة البشرية، وفهم للوقائع الاجتماعية والبشرية فهما وتفسيرا تاريخانيا من حيث تفاعلاتها وتأثيرها في بعضها البعض بعيدا عن أي تفسير أسطوري.
تصور الحداثة من طرف القوى التقليدية وكأنها غول شرس ملئ بالشرور يلتهم ويحطم كل شيء. والحق أن الحداثة قوة ذات وجهين إيجابي وسلبي. فهي ليست ملاكا طاهرا ولكنها في الوقت نفسه ليست نجاسة أو شرا. هي جهد إنساني لفهم العالم كما هو ولتسخير هذه المعرفة لخدمة الإنسان. إن الحداثة سيرورة استكشافية معرفية، وسيرورة تحررية، مثلما هي سيرورة تعبوية لكل قدرات الإنسان وطاقات الطبيعة.
إلا أن التأويلات غير الدقيقة لعلاقة الدين بالحداثة هي سبب الالتباس المنسوب إلى هذه العلاقة. ليس هناك بصدد هذه المسألة نموذج واحد لعلاقة الحداثة بالدين. هناك النموذج الفرنسي الخاص والمتميز بعلاقة متوترة بين الدين والحداثة، لكن هناك نماذج أخرى مختلفة نذكر من بينها النموذج الألماني والنموذج الأمريكي.
فالحداثة ليست ضد الدين، بل هي محاولة لحماية الممارسة الدينية واعتبارها تجربة روية أساسية للإنسان من حيث أنها ليست فقط إجابة عن قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية بل هي الاستجابة الأنطولوجية لمحددات ولمحدودية الشرط الإنساني تجاه قضايا الموت والقدر والبعث والجزاء.
وهي أيضا محاولة لعقلنة التصورات والممارسات والتأويلات الدينية وتنقيتها من العوائق الميتولوجية، ورفض لتسخير الدين كإيديولوجيا وكأداة للسيطرة السياسية، ورفض لتحويله من قوة روحية متعالية إلى أداة لصراعات الناس وحرب المصالح والمناورات السياسية التي لا تتورع عن استخدام كل شيء في الصراع السياسي بما في ذلك المثل الأخلاقية والجمالية والدينية نفسها. فالتجربة الروحية العميقة للفرد ليست بحاجة إلى إسلام سياسي أو إلى نزعة إيديولوجية أو إلى إطار سياسي ينضاف إليها إضافة أو إكراها أو تهديدا، أو باتخاذ الموتى هراوة لضرب الأحياء كما قال أحد شعرائنا (ادريس الملياني: سنديانة الشعر ص 128 ).
يشنع بعض الباحثين على الحداثة كذلك أنها تتعارض مع الأخلاق وأن الحداثيين أناس لا أخلاق لهم. وإذا ما أحسنا النية بهدف إقامة مناقشة موضوعية حول علاقة الحداثة بالأخلاق بعيدا عن أية مهاترات إيديولوجية أو أحكام مسبقة متجنية، فإن بإمكاننا التأكيد أن للحداثة أخلاقيتها الخاصة ومفهومها الخاص للأخلاق. فالحداثة ليست لا أخلاقية، بل أن أخلاقيتها تختلف عن مفهوم الأخلاق التقليدية. الأخلاق الحداثية لا تكتفي بأخلاقية الضمير الفردي لأن الضمير على ضرورته لا يكفي ولا يشفي غليلا، ولا يحول دون انتهاك المعايير الأخلاقية وخاصة في عصر الوفرة والاستهلاك والمتعة. أخلاقية الحداثة هي أخلاقية موضوعية، أخلاقية مؤسسية وقانونية. فالحداثة لا تكل الأخلاقية إلى الضمير الفردي بل تسندها إلى هيئات وقوانين تضبطها وتحد من تجاوزاتها. الأخلاقية هنا تعني احترام القانون واحترام الآخرين، والاعتراف لهم بحقوقهم وحرياتهم، وكف الأذى عنهم لا فقط مخافة عذاب الضمير بل تحت طائلة العقاب والجزاء والردع المؤسسي.
فالحداثي أخلاقي بمعنى عقلنة السلوك ومراعاة الضوابط القانونية، والإيمان بتساوي الأفراد، وقدسية الحرية الشخصية، وسمو الحقوق (وبخاصة حقوق المرأة)، وإلزامية الواجبات.
إلا أن فترة الانتقال الطويلة من أخلاق الضمير إلى أخلاق المسؤولية وبطء تمثل آليات وقيم الحداثة قد يعطي الانطباع بوجود تسيب وعدم ضبط وإلى نشازات لأن الفاعل السياسي -مهما ادعى من طهرية- فهو ليس ملاكا، وهو ما يفرض على أية حركة سياسية – إذا ما كانت تريد أن تكون فاعلة في العمق، وأن تطبع وتسم التاريخ – ضرورة تفعيل آلية اكتساب الثقافة الحديثة، ثقافة المحاسبة والنقد الذاتي التي تعني البدء بمحاسبة الذات قبل محاسبة الخصم، أو الآخر.
تتخذ مسألة سلوكات الأفراد الذين ينسبون أنفسهم لتيار الحداثة أهمية قصوى باعتبار التنافس المعنوي والأخلاقي المطروح اليوم في مجتمعنا بين التيارات التحديثية والتيارات التقليدية والتراثية التي تقدم نفسها -في إطار الدورات التنافسية للنخب- كنموذج للغيرية والاستقامة الأخلاقية والحرص على الصالح العام، إضافة إلى ادعاءات حماية الهوية والماضي والروح.
فالمسألة الأخلاقية اليوم هي جزء من المسألة الإيديولوجية أو التنافس والتصارع الإيديولوجي اليوم وهي أداة ورأس رمح في هذا التنافس التاريخي الطويل المدة.
يتعين إذن أن نعي الصلة الوثيقة بين الإصلاح والتحديث وأن ننادي بالإصلاح في أفق تحديثي أي في أفق تحقيق القيم الأساسية للحداثة، والعقلانية، والديمقراطية، ومواكبة التطور العلمي والتقني للبشرية المتقدمة.
كما يتعين أن نأخذ الحديث في منظور شمولي لا يقصر التحديث على المجالين السياسي والاقتصادي بل يربطه بركائزه وضماناته المتمثلة في التحديث الثقافي.
وأود هنا إثارة الانتباه إلى أهمية وأولوية التحديث الثقافي، وهي الأولوية التي برهنت عليها بالعنف الملموس أوضاعنا السياسية الحالية سواء من حيث تصدير مجتمعنا للعنف أو من حيث استهلاكه محليا. وهو نفس الموقف الذي عبر عنه مرارا أحد مثقفينا الكبار وهو الأستاذ عبد الله العروي الذي نادى منذ أربعين سنة بأولوية الإصلاح الثقافي على الإصلاح السياسي، واعتبر الإرهاب تعبيرا عن حالة ثقافية بالدرجة الأولى.
وهنا لابد من ضرورة التفكير في أسباب عدم اقتناع النخب السياسية المتعاقبة -التي تمثل بشكل أو بآخر المستوى الثقافي العام السائد- بضرورة وأولوية التحديث الثقافي وعدم قدرتها على بلورة وعي استشرافي ممكن.
هل يتعلق الأمر بقوة التقليد وبقدرته على إعادة إنتاج ذاته باستمرار وبقوة، أم بهيمنة الوعي التقني الذي يعطي الأولوية للبنيات التقنية والاقتصادية، أم بعقم النخب السياسية والفكرية وعدم قدرتها على الانفلات والإبداع أم ماذا؟
وعلى كل، فإن علينا أن نكون على أتم الوعي بأن من المحكوم علينا، في المدى المنظور، أن نظل نركض باستمرار وراء أرنب الحداثة الفرار كما قال الشاعر، وذلك لأن الحداثة هي بكل بساطة قدر العصور الحديثة.