نقلا عن موقع العربية نيت والتي نقلته عن ” الجريدة الكويتية
الآية الكريمة 18 من سورة الجن نصت بشكل جلي وقاطع على “وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً”، لكن خطباء ودعاة “الإسلام السياسي” ومن تعاطف معهم، يدعون– في المساجد- لأحزابهم وأنصارهم وطروحاتهم السياسية، فاتخذوا من بيوت الله تعالى منابر مجانية للدعاية الحزبية، وزجوا بها في ساحة “معترك الخلاف السياسي” وحولوها إلى منابر لتأجيج الطائفية والمذهبية والحزبية الضيقة، وتعميق الكراهية وزيادة الفرقة والانقسام وإفساد ذات البين بين أبناء المجتمع الواحد والمجتمعات الإسلامية.
تحولت منابر بيوت الله تعالى إلى منابر للشقاق والتحزب والتفرق والصراع والفتنة والتحريض، وذلك انحراف كبير وخطير عن الوظائف الأساسية والأهداف السامية لهذه المنابر، لأنها منارات للهدى والنور والسكينة والطمأنينة والأمن النفسي والارتقاء الروحي، ومنابر لجمع كلمة المسلمين وبث التراحم والتسامح وإصلاح ذات بينهم.
ورغم ما تبذله وزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية القائمة على رعاية بيوت الله تعالى في كل الدول العربية من حرص على صيانة المساجد وإبعادها عن الخلافات المذهبية والسياسية، وعناية بأن تبقى بيوت الله تعالى في مسارها الصحيح مخصصة للدعوة والإرشاد والكلمة الجامعة، بعيداً عن المزايدات السياسية والمعارك الحزبية، والتدخل في شؤون الدول الأخرى، فإن الأمر فوق طاقتها في ظل الصراعات السياسية التي تعصف بالمجتمعات العربية في أعقاب ثورات الربيع العربي، ووصول الإسلاميين إلى سدة الحكم.
فلا تستطيع الجهات المسؤولة عن رقابة المسجد ملاحقة الخطباء الذين ينتهكون حرمات بيوت الله تعالى للاستغلال السياسي والحزبي، وجهود وزارات الأوقاف والشؤون الدينية مقدرة، لكنها حتى الآن لا توفر ضمانات كافية لحماية المساجد من التوظيف السياسي والمذهبي والحزبي، فانتهاكات حرمات بيوت الله تعالى للتوظيف السياسي مستمرة في كل المجتمعات العربية، لكن على درجات متفاوتة، تضيق وتتسع تبعاً لهيمنة ونفوذ تنظيمات الإسلام السياسي على المجتمع والدولة.
وهذا ما لاحظناه بوضوح عقب ثورة 25 يناير في مصر، حين عمدت التيارات الإسلامية إلى فرض هيمنتها على المساجد واستثمارها في الدعايات الانتخابية لمرشحيها مع تشويه منافسيها… إذن ما الحل؟
هناك من يرى ضرورة إصدار قانون بحظر استغلال المنابر في الأمور السياسية وتجريمها، ومعاقبة الخطباء المخالفين كحل لهذه القضية، ولكن الحاصل حتى الآن، أنه حتى في الدول التي أصدرت مثل هذا القانون، لم تتمكن من تطبيقه بشكل فعال، لأسباب عديدة، ولعلنا نتذكر كيف تحدى الشيخ المحلاوي- خطيب مسجد الإسكندرية– قانون حظر استغلال المساجد للدعاية الانتخابية، وتبجح قائلاً: نحن لا نعترف بهذا القانون، ومن حقنا أن نستخدم مساجدنا في أمور نراها تعود بالنفع على المسلمين!
تصوروا كيف يجعل بيوت الله تعالى مساجد خاصة به وبجماعته؟! وكيف يستغل منابرها ويحولها إلى منابر سياسية خاصة بآرائه السياسية ويفرضها على الناس؟! صحيح أنه في الرياض تم توقيف إمام سعودي دعا في خطبة الجمعة على وزير الدفاع المصري عبدالفتاح السيسي بقوله “اللهم اجتث بشار والسيسي”، بعدما تدخل أحد المصلين واشتبك معه في عراك، وفي الكويت تم إيقاف أحدهم عن الخطابة بسبب تجاوزه “ميثاق المسجد” الذي يقضي بمنع الخطباء من إقحام المنابر في الأمور السياسية والداخلية والخارجية، وكان الإمام الموقوف قد تحدث بما يسيء إلى علاقة الكويت بمصر.
لكن هذه المعالجات غير كافية، ولن تقضي على ظاهرة “اختطاف المساجد”، واستباحة منابرها للأهواء السياسية والأغراض الحزبية الضيقة، ولا يمكن مواجهة هذه الظاهرة بمجرد إحكام رقابة وزارات الأوقاف على المساجد، والتأكد من التزام الخطباء بميثاق المسجد وتسجيل خطبهم لمتابعة أدائهم وتقييمه، حتى القانون الذي يحظر استغلال المساجد في الأمور السياسية ليس حلاً ناجعاً.
إننا بحاجة إلى رقابة مجتمعية فاعلة، لحماية بيوت الله تعالى وإبعادها عن الخلافات السياسية والمذهبية، ولابد من رفع وعي المجتمع وترسيخ قناعته بأن بيوت الله تعالى يجب أن تكون بمنأى عن خلافاتنا السياسية والطائفية والمذهبية، ويجب تضافر الجهود المجتمعية والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني كافة للتوافق على “ميثاق شرف” مجتمعي، في أن تظل بيوت الله تعالى بيوتاً للعبادة والصفاء والسكينة والارتقاء الروحي، بحيث يكون الرأي العام المجتمعي هو الحصانة والمناعة القويتان ضد المتجاوزين المستبيحين لحرمات المساجد في الأغراض السياسية.
فالدولة والجهات المسؤولة لن تستطيعا– وحدهما- منع من تسول له نفسه من الخطباء الأيديولوجيين من اختطاف المنابر، ولن تنتهي ظاهرة اختطاف المنابر واستباحة المساجد طالما هناك قطاع مجتمعي مؤيد لتسييس المنابر الدينية، وخطباء يخوضون في قضايا سياسية ومذهبية على المنابر تحت حجج واهية ومبررات مضللة، يبثها فقهاء ومشايخ الإسلام السياسي من أن “من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم”، وأن الإسلام “دين وسياسة” وأنه ليس “ديناً روحانياً لا علاقة له بالسياسة كالمسيحية”.
هذه الحجج الزائفة يروجونها لإقناع الجمهور بحسن عملهم في إقحامهم بيوت الله في العمل السياسي، ولكنها من قبيل الحق الذي يراد به الباطل، فنحن نؤمن حقاً بأن ديننا لا ينفصل بقيمه وتعاليمه عن شؤون المجتمع والدولة، ونحن نؤمن بأن من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، كما نؤمن بأن على الخطيب أن يعالج قضايا المجتمع العامة.
كل هذه الأمور مسلَّمٌ بها، ولكن الإسلام الذي دعا إلى الاهتمام بأمور المسلمين هو نفسه الذي دعا إلى تقاربهم وتوحيد كلمتهم وتعاونهم وإصلاح ذات بينهم، لا أن توظف منابر المساجد فيما يفرقهم ويثير الفتن بينهم، ويعمق الانقسام في صفوفهم كما يفعل دعاة ومشايخ الإسلام السياسي في توظيفهم الانتهازي للمنابر الدينية والمسيئة لبيوت الله تعالى.
الإسلام الذي يحتجون به هو القائل “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ”، وما يفعله هؤلاء بعيد كل البعد عن هذا التوجيه القرآني، إذ كيف يكون تأجيج الخلافات المذهبية وإثارة النزاعات السياسية، وتهييج الجماهير، ودفعها للتظاهرات، وقطع السبيل، والتخريب والتدمير والتحريض على العنف، أموراً يقرها الشرع الحنيف؟!
المساجد بيوت الله تعالى، وليست ملكاً لجماعة أو حزب سياسي أو خطيب ديني، فبأي حق يعتدي هؤلاء على حرمة المساجد وقدسيتها؟! وبأي حق يحول خطباء الإسلام السياسي منابر بيوت الله تعالى إلى منابر سياسية خاصة يبثون من خلالها آراءهم الشخصية، فيحرضون ويخوّنون ويكفّرون ويشوّهون ويهيّجون الجماهير ويفسدون ذات البين ويسيؤون إلى العلاقات؟!
ختاماً: لن تستعيد مساجدنا هدوءها وسكينتها وأمنها ووظائفها الأساسية، إلا إذا تمكنّا من تفكيك “الحواضن الاجتماعية” لظاهرة اختطاف المساجد وتحويلها أبواقاً لنشر أيديولوجية الإسلام السياسي، لتعود مساجد لله وحده، تدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.