بدا الهمس والحديث بصوت مسموع منذ منتصف القرن الماضي عن عدم وجوب إحداث نظام مالي عالمي جديد لبروز لاعبين جدد على الساحة لم يتواجدوا في مطلع القرن العشرين عندما وضع أول نظام مالي عالمي على يد أباطرة المال والاقتصاد يومها، وكانوا الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا، لكن اليوم تعتبر أوضاع هذه البلدان -ماليًّا واقتصاديًّا- متهاوية؛ لعدم تمكنها من مواجهة منافسيها، وفي مقدمتهم الصين. هذه المتغيرات دفعت اليوم بالكثير من خبراء المال والاقتصاد إلى المطالبة وبإلحاح لإحداث نظام مالي عالمي جديد، ولا غرابة أن ينقلوا آراءهم هذه على صفحات كتب بدأت تحتل مكانة في المكتبات.
جانب من اجتماعات صندوق النقد الدولي
عندما بدأت موجة تزاوج بعض المصارف العالمية في أواسط ثمانيات القرن الماضي لم تحدث ضجة كبيرة كما هي الحال عادة عندما يُدمج مصرفان أو مصنعان كبيران غربيان. ونشأ عبر تزاوج مصارف مثل تزاوج “تراست بنك” الأميركي في الثمانينات مع أحد المصارف الألمانية، نشأت مصارف يطلق عليها اليوم اسم “المصارف القارية” أي أنها لا تخضع لنظام دولة معينة بل تعتبر إدارتها هي الحكومة المستقلة في اتخاذ القرارات المتعلقة بحركة السوق المالية والبورصة، وكانت هذه أول إشارة لاستقلالية النظام المصرفي أو قطاع المال وتمتعه بحرية الحركة واتخاذ القرارات في أي ظرف من الظروف دون العودة إلى أي مؤسسة تنفيذية رسمية أو حكومية. لكن ومن أجل الحفاظ على ميكانيكية الحركة المالية العالمية نشأ ما تسمى بمصارف المجموعات أو الكتل ، أي مجموعات من البلدان كما هي الحال مع المصرف المركزي الأوروبي، أو المصارف المركزية التي بدأت تأخذ شكلاً معينًا في أميركا الجنوبية وآسيا، وبلدان جنوب شرق آسيا التي كان يطلق عليها اسم (نمور آسيا مع أن التسمية قد اختفت). وينتظر أن تهيمن هذه المصارف على سوق المال العالمية قبل حلول منتصف القرن الحالي، ما يعني أنها سوف تكون لها الهيمنة الأكبر على التجارة والاستثمارات في العالم مستقبلاً مستفيدة من ما يسمى العولمة التي تخطت حدود المفهوم القومي للدول حتى إنها ألغتها تمامًا، مركزة على المصلحة الذاتية ليس إلا، وساهم في ذلك عالم التقنيات السريع المتطور والذي ألغى كل الحدود، وهذا ما نشهده في أمثال صغيرة مثل التعامل المصرفي، أو المصارف أون لاين، أو التجارة أو غيرها.
وسير هذا التحول الجذري في السكة يعجل من ظهور كتل عالمية جديدة من المتوقع أن تصبح خلال العشرين سنة المقبلة كتلاً مستقلة بسبب تحقيقها تدريجيًّا اكتفاء ذاتيًا، بل وفائضًا (المثال على ذلك الصين)، وهذا سيخلف تحديًا كبيراً لقطاع المال الحالي بصيغته القديمة التي تتناسب ومصالح من وضعه سابقًا، لكنه لم يتمكن من الصمود وتحقيق مساعيه للبقاء في المشهد المصرفي في عالم الغد.
دماء جديدة
وإلحاح خبراء المال للتعجيل بوضع نظام مالي عالمي جديد يعود سببه إلى عوامل كثيرة، منها -كما سبق وذكر- تغيير اللاعبين. ففي الغرب (أوربا الغربية والولايات المتحدة) يعتبر تباطؤ معدل النمو الاقتصادي وعدم تمكن الحكومات هناك من إحداث إصلاحات تنظيمية لمواجهة تأثير الأزمة المالية التي بدأت قبل حلول الألفية الثالثة بكثير. هذا الوضع دفع بالكثير من المصانع والشركات الغربية مع اليابان لكسب دماء جديدة عبر الاستثمار في البلدان الناشئة مثل الصين والهند والبرازيل، لكن في المقابل تمكنت هذه البلدان وبالأخص الصين من اقتحام الأسواق الغربية من دون صعوبة، تمكنت مصارفها من اقتحام الأسواق المالية في الوقت الذي تقف فيه المصارف الغربية ذات العراقة مكتوفة الأيدي أمام نمو أسواق الناشئة الرئيسة الجديدة.
وبنمو منطقة جنوب شرق آسيا، أي بلدان مجموعة آسيان، وتضم ( اندونيسيا وماليزيا والفليبين وسنغافورا وتايلند وفيتنام ولاوسي وميامار وكامبوديا) فإن ذلك يعتبر من أهم الاقتصاديات النامية مقارنة مع الكثير من اقتصاديات الغرب، ومركز جذب للمستثمرين والمصدرين الأوروبيين وبالأخص الألمان.
ومع أن النمو في بلد مثل الهند لن يتجاوز عام 2014 سوى 6.5 في المائة (أقل من المتوقع)، لكن يظل أفضل بكثير من الأرقام التي تظهر في توقعات النمو في أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة الأميركية، والملفت أن الصين والهند وبلدان جنوب شرق آسيا تضع خططًا إصلاحية لاقتصادها، وخاصة ما يتعلق بالاستثمارات المباشرة للأعوام العشرة القادمة؛ لأنها لا تواجه مثل البلدان الأوروبية الغربية تأثيرات انعكاس مشكلة الديون وأزمة اليورو، ولن تكون الاستثمارات في الغرب فقط، بل وأيضًا في بلدان نامية، لكن هذا ما تقوم به الصين منذ فترة لا بأس بها. لكن واشنطن وبسبب أزمة اليورو تنظر بقلق إلى نموها الاقتصادي المتباطئ، وخفضت توقعاتها للنمو للعام الحالي والمقبل أكثر مما كان متوقعًا.
كل ما يجب عليهم هو تفهم العالم الجديد؛ لأنهم وحيال الأحداث المناخية الصعبة الكثيرة أدركوا أنه لا يمكن مواجهة التحديات الحقيقية بالأساليب التقليدية.
أفضل الباحثين الأوروبيين في كل التخصصات المالية والاقتصادية والمصرفية عليهم مماشاة نظام المعلومات والتقنية المستقبلي. فهذا المشروع العشري وبدأ عام 2013 وسوف يدعم من الاتحاد الأوروبي بالمليارات سيكون عمله مستقبلاً استكشاف السيناريوهات المستقبلية لعالمنا الحالي، إضافة إلى ذلك سوف يتم تطوير كمبيوتر عملاق ونظام أساسي لتحليل البيانات، عليهما التعرف مبكرًا على الأزمات وإمكانية تحديد الفرص.
النظام المالي يزداد سوءًا
يكتب الدكتور “توبياس برايس” الخبير المالي الألماني -منذ عام 2008- بأن النظام المالي العالمي الحالي، ورغم أن الإنسان قد وضعه والوضع يزداد سوءًا ، فلا يعرف أحد كيف سوف تتمكن الولايات المتحدة الأميركية من التعامل مع ديونها، وكيف ستتعافى اليابان من آثار الكارثة النووية التي لحقت بها، وما هي انعكاسات التطورات في العالم العربي على الاقتصاد العالمي، وما سيكون مصير اليورو؟ وليس واضحًا هل ستبقى الصين على استقرارها، فالشق هناك يزداد بين الفقراء والأغنياء! على كل هذه الأساس لا يمكن الحديث اليوم عن استقرار مع مواصلة النظام المالي الحال، إننا بعيدون جدًا عن الاستقرار.
لكن ما الوسيلة لمواجهة وضع من هذا النوع؟
ليس هناك أي خبير مالي لديه الوصفة الصحيحة، لكن يقول البروفسور “برايس”: لقد أجريت بحوثًا مع خبراء مال آخرين مثل البروفيسور “أوجين ستانلي” من جامعة بوسطن استخدمنا فيها النهج المعتاد للبحوث في الاقتصاد، فقمنا بتطوير مجموعة من النماذج التي تظهر افتراضات معقولة، ومعايرة أجهزة الاستشعار مع البيانات التجريبية من العالم الحقيقي.
لقد جمعنا كميات هائلة جدًا من البيانات المالية التجريبية، وعلى أساس هذه حاولنا وضع نماذج محسنة جديدة ليتم تطويرها والتي لا تتطلب تبسيط الافتراضات. على سبيل المثال طرحت أنا وزميلي من جامعة بوسطن السؤال: كيف تحدث الفقاعة المالية في الأسواق العالمية ومتى يظهر الجشع؟ ولقد وجدنا أشياء مدهشة جدًا؛ إذ حجم كل هذا يزداد في السوق في البداية ببطء شديد، ولكن في نهاية الاتجاه لاحظ المرء زيادة سريعة جدًا. والمميز هو في أي شكل يزداد الحجم، بغض النظر للكميات الهائلة من البيانات التي تحتوي على 2،6 مليار تعامل في سوق الأوراق المالية، تمكننا من العثور على قانون يمكن وصفه بقوانين السلطة.
الأحداث ذات الحدة الكبيرة تحدث كثيرًا وأكثر مما قد يتوقعه المرء، كما أنه يمكن أن تأخذ أي حجم تعسفي تقريبًا. كما أنه يمكننا أن نكتشف بأن قوانين السلطة تكون صالحة بغض النظر عن توقيت التطورات، وهذا مهم جدًا؛ لأنه يمكننا أن نتعلم شيئًا عن انفجار فقاعات المالية، وبالتالي توقيت انفجارها؛ ما يجعلنا قادرين أيضًا على جعلها تنفجر قبل أن تصبح كبيرة جدًا وتمزق اقتصاديات ومال بلدان بكاملها.
لماذا يجب أن ننتظر قدوم فقاعات المال؟
السبب في ذلك -حسب قول الخبير المالي- أن النظام المالي لم يعد بالإمكان مراقبته، ويعتقد المرء أن كل شيء ينظم نفسه بنفسه، وعلى أفضل وجه، وهذا غير صحيح، فالنظام المالي سابقًا إقليمي، أما اليوم فحتى المصارف الإقليمية أصبحت مشاركة في لعبة البوكر، وهذا يخفي مخاطر كبيرة للتعاون. إن قواعد ادام سميث (مؤلف اسكتلندي للاقتصاد الكلاسيكي في بداية الثورة الصناعية، وحدد القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية) لا تصلح إلا للأوقات الجيدة، فكيف يجب علينا خلق نظام مالي من أجل المحافظة على الاستقرار؟ والجواب هو أن أي شكل من أشكال النظام يحتاج إلى صمامات أمان تكبح جماع اتساع دائرة أي مشكلة إقليمية تقع. إلا أن هذا لا ينطبق على النظام المالي فحسب، لذا نحتاج أيضًا إلى شيء شبيه بجهاز محاكاة الطيران. ففي الكثير من الفروع الإنتاجية وعند تصميم أشياء جديدة كالسيارات أو الطائرات أو غيرها فإنه يتم تجربتها على جهاز كمبيوتر ضخم قبل إنزالها إلى الأسواق، فلماذا لا نطبق ذلك أيضًا على نظم اقتصاديات السوق والنظم المالية الجديدة، بهذه الطريق يمكنها تحديد التبعات مسبقًا. فعلى سبيل المثال يمكن إجراء اختبار عما يمكن أن يحدث عندما نترك كمية السيولة النقدية المتداولة تزداد من دون حدود.
إن اتساع دائرة عرض السيولة المتداولة يكون ناجمًا عن تزايد كميات القروض غير المسددة في السوق، ومن أجل تسديدها يصبح من الضروري اللجوء إلى قروض أخرى. هذا يجبر الاقتصادي على ضرورة النمو.
ولا يخفي الخبير المالي بأنه من المحتمل أن الإنسان وضع نظامًا ماليًا للأسواق لا يستطيع السيطرة عليها. بالطبع لم يكن هذا هو القصد، فدور أسواق المال الجمع ما بين العرض والطلب إلا أن هذه العملية لا تتم بشكلها المبسط بناءً على معايير النظام المالي الحالي الذي وضع قبل ظهور عناصر ومقومات جديدة، أو بأخرى غريبة عليه، هي نتيجة تطور أنماط الإنتاج والتصريف، وبالتالي حركة السوق وحركة البورصة وميكانيكية العمل المالي الدولي، وبالأخص دخول لاعبين جدد لم يكونوا متواجدين من قبل، وهذا له تأثيرات سلبية كبيرة غير مرغوب بها.