التاريخ: : الأربعاء, 28 أغسطس, 2013


علي عبدالرازق.. مشروع مبكر في نقض الإسلام السياسي

أصول الحكم

جاء كتاب الشيخ على عبد الرازق مساهمة منه في الحوار الدائر صداه في مصر. كان جريئًا معاكسًا لكل السائد، معاندًا لكل الحالة العاطفية التي عمت البلاد الإسلامية حسرة بسقوط الخلافة، فقدم أسئلة شكلت علامة فارقة في النقاش السياسي الإسلامي، وفتح فصلاً جديدًا ربما لم يطرح من قبله، هو يتساءل: هل منصب الخلافة من الإسلام في شيء؟ هل هناك شيء اسمه “نظام حكم” في الإسلام؟ هل الإسلام دين ودولة؟

السلطان عبد الحميد الثاني آخر خليفة في العصر العثماني

على مدى أكثر من ألف وثلاثمائة سنة لم يعرف النظام السياسي الإسلامي نموذجًا للحكم والسياسة غير (نموذج الخلافة) تجسد هذا النموذج في الوجدان والعقل الإسلامي مئات السنين حتى أصبح هو النموذج المثالي المنشود، وارتبط في ذاكرة العامة والخاصة بأمجاد المسلمين وفتوحاتهم الكبرى.

على الرغم من تضاءل شأن “الخلافة” ونفوذها في أواخر العهد العثماني، بل ووقوف الكثير من العرب منها موقف العداء، إلا أن شعورًا كبيرًا شاع بين العرب والمسلمين بالخطر والمؤامرة على الإسلام من قبل جمعية الاتحاد والترقي حين صدر قرار الجمعية التأسيسية التركية 1922 الذي يفصل بين الخلافة والسلطنة، يعتبر أن السلطة السياسية في الإسلام ليست ذات أصل ديني، وإنما هي سلطة قائمة على المصالح وتحددها إرادة الناس، أما الشأن الديني فتتولاه الخلافة أو “مشيخة الإسلام”، كان هذا الفصل مجرد مقدمة لما بعده، ففي عام 1924م أجهز مصطفى كمال أتاتورك بشكل كامل على “الخلافة”، فطرد الخليفة وأسرته من البلاد، وألغى وزارتي الأوقاف والمحاكم الشرعية، وحوّل المدارس الدينية إلى مدنية، وأعلن أن تركيا دولة علمانية. معللاً ذلك بأن الخلافة فقدت شرعيتها حين حاربت الأمم الإسلامية ضدها في الحرب العالمية الأولى، وأنها أصبحت تمثل عبئًا كبيرًا يستنزف أموال ورجال تركيا، كما أنها أصبحت عائقًا يقف أمام تحديث الدولة.

الخلافة العثمانية كانت تمر في تلك المرحلة بأسوأ مراحلها، تفككًا وتمزقًا، ولم تعد إلا صورة شكلية باهتة، إلا أن قرار أتاتورك أعاد إحياء فكرتها من جديد، وبث شعلتها بقوة في المخيال الإسلامي الذي هزه بقوة هذا القرار، وساد شعور عميق بأن راية الإسلام قد سقطت، وأن الأمة الإسلامية قد دخلت مرحلة الضياع.
يجسد هذا المشهد -بصورة عاطفية ملؤها الحسرة والأسى على تلك اللحظة التاريخية- المؤلف عبد الغني رحال في كتابه المرجعي القديم “الإسلاميون وسراب الديمقراطية”، قائلاً في مقدمته :”بعد أن غابت شمس الخلافة الإسلامية عام 1924 أضحت الأمة الإسلامية كيتيم لا والدين له، فتشتت أجزاء، وتناثرت أشلاء، ونُحي شرع الله عن الحكم، وانتشرت ألوان الفساد، وحورب الإسلام والمسلمون في معظم البلاد الإسلامية”.

يمكن القول أن “الخلافة الإسلامية” تشكل حالة رمزية طاغية في الفكر السياسي الإسلامي الحديث، الذي مازال عالقًا حتى الآن في صدمة ذلك القرار التاريخي، نسجت الكثير من الأشواق والعواطف من أجل إعادة ذلك المجد والنموذج التاريخي إلى الحاضر، فتشكلت رؤى واتجاهات وحركات حملت على عاتقها لواء إعادة هذه الراية وبعثها من جديد، بعضها يعلن ذلك صراحة وبشكل مباشر، والآخر يعتمد التدرج والتخطيط وسيلة لتحقيق الغاية والوصول إلى الحلم المنشود.
يكتب العالم والفقيه التونسي الطاهر بن عاشور وهو من عايش لحظة إلغاء الخلافة، مبينًا موقع الخلافة في الرؤية الإسلامية قائلاً: “هي خلافة شخص عن صاحب الرسالة في إقامة الشرع وحفظ الملة على وجه يوجب اتباعها على كافة الناس، فهي عبارة عن حكومة الأمة الإسلامية لحفظ الجامعة وإقامة دولة الإسلام على أصلها.. إن الخلافة هي الخطة الحقيقية التي تجمع الأمة الإسلامية تحت وقايتها بتدبير مصالحها والذب عن حوزتها”.

هي بذلك تشكل الصورة المعتمدة للحكم التي يجب أن يكون عليها المجتمع المسلم، ولذلك كنتيجة مباشرة بعد سقوط آخر خلافة إسلامية، تأسست أول حركة سياسية إسلامية جماهيرية عام 1928م كان هدفها الأساسي استعادة الخلافة الإسلامية وتحقيقها من جديد.

مصطفى كمال أتاتورك

مصطفى كمال أتاتورك

قرار أتاتورك بإلغاء الخلافة أعاد إحياء فكرتها من جديد، وبث شعلتها بقوة في الفكر الإسلامي، حيث ساد شعور عميق بأن راية الإسلام قد سقطت.

فضمن رسائل مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، كما ورد في رسالته للمؤتمر الخامس يقول: “الإخوان المسلمون يجعلون فكرة الخلافة والعمل على إعادتها فى رأس منهاجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لا بد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات”.
ونشرت صحيفة (اليوم السابع) المصرية في الثالث من مارس 2013 تصريحًا للمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد بديع، قال فيه :” نحن نسعى لإحياء الخلافة الإسلامية وتحقيقها بات قريبًا”، لأن “الخلافة الراشدة هي من الأهداف المرحلية التي حددها الإمام حسن البنا لتحقيق الغاية العظمى للجماعة، وهي أن تحيا من جديد الدولة المسلمة وشريعة القرآن”.

ركائز فلسفة “الخلافة”

ينبغي التوضيح هنا أن نموذج “الخلافة الإسلامية” الذي ترفعه كثير من الحركات الإسلامية لا يعني بالضرورة تلك الصورة التقليدية الرمزية للخليفة، التي يكون فيها شخص واحد يتسمى بذلك المسمى، ويحمل ذلك اللقب، بهيلمانه وزيه وحاشيته كما تعبر عن ذلك تلك الصور النمطية المتناقلة عبر التاريخ لحالة “الخليفة”، وإنما الفكرة الأساسية التي تقوم عليها نظرية الخلافة الحديثة تستند على أمرين أساسين، الأول: اجتماع السلطة الدينية والدنيوية في شخص واحد أو جهة واحدة، ووجوب طاعتها باعتبارها الممثل الشرعي المحقق لشروط الاستخلاف وإقامة شعائر وأحكام الإسلام، الأمر الثاني: أن الوطن هو أرض الإسلام كافة، فلا وجود لحدود جغرافية محددة، أو حدود قطرية معتبرة، فمساحة الدولة تتوسع وتتقلص بحسب قوة السلطة وضعفها، وقدرتها على التمدد والانتشار كما كان ذلك يحدث في دول الخلافة الإسلامية المتعاقبة في التاريخ الإسلامي.

إذا نظرنا إلى الجدل الأكبر الدائر داخل المنظومة السياسية الإسلامية سنجد أن أكبر أسئلته هي في كيفية إقامة حكم ديني يقوم على سلطة الفقهاء في ظل الأنظمة السياسية المعاصرة، والتوفيق بين مفهوم الوطن، والدولة الحديثة، ومفهوم “الأمة”.

كتوضيح للنقطة الثانية يدلل الكاتب السوداني عبد الله الصادق أن حسن البنا يلتقي مع أبي الأعلى المودودي في الدعوة إلى استرداد الخلافة الإسلامية، ويتجاوز ذلك إلى ضرورة “استرداد البلاد التي كانت يحكمها الإسلام منذ القرن الأول الهجري كواجب ديني، ومن ذلك دول البلقان والقوقاز والأندلس الذي يعرف الآن بإسبانيا والبرتغال”.
الخلافة إذن كمفهوم في فكر الحركات الإسلامية ليست مجرد نظام سياسي لحكم دولة قطرية محددة، وإنما هي “أيديولوجيا” تستند على ميراث سابق، تتوسع وتمدد متى ما كانت الدولة تمتلك أسباب القوة، يكون فيها الولاء لـ”الخلافة”، والوطن هو “الأمة”.

عودة إلى الوراء.. أسئلة مبكرة

في هذه الأثناء التي تثور فيها هذه الأسئلة على ضفاف أحداث “الربيع”، يبرز إلى الواجهة مشروع فكري مبكر، ساهم في نقد أفكار الإسلام السياسي قبل أن تتشكل مشاريعها وحركاتها بوضوح على أرض الوقع.
يؤكد الكاتب السوري تركي الربيعو أنه في اللحظات التي يحتدم فيها الجدل بين الدين والدولة في الفكر الإسلامي يتم استدعاء كتاب مفصلي مهم، وهو “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ الأزهري علي عبد الرازق (1888- 1966) أحد رموز التيار المستنير، وأكثرهم إثارة للغضب والجدل.

ما هي قصة هذا الكتاب؟

بعد قرار إلغاء الخلافة ساد شعور عميق بالفراغ في الدول الإسلامية، وضرورة ملحة لتدارك الأمر، كما أن عددًا من الزعامات العربية والإسلامية تطلعت متلهفة لهذا المنصب الشاغر، ولذلك في عام 1925م, دعا الأزهر في مصر مجموعة من رجال الدين إلى عقد مؤتمر فى القاهرة لبحث موضوع الخلافة. انتهى هذا المؤتمر بقرارات تفيد أن منصب الخلافة ضروري للمسلمين كرمز لوحدتهم واجتماعهم. ولكن لكي يكون هذا المنصب فعالاً, لابد أن يجمع الخليفة بين السلطة الدينية والسلطة المدنية. في تلك الأثناء كان هناك اتجاه لتنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين.

غلاف قديم لكتاب علي عبدالرازق

غلاف قديم لكتاب علي عبدالرازق

يقدم علي عبد الرازق مشروعًا مبكرًا في نقد الإسلام السياسي قبل أن تتشكل اتجاهاته وحركاته على أرض الواقع، هو يسعى في كتابه إلى هدم النظرية القائلة بأن (الإسلام دين ودولة).

جاء كتاب الشيخ على عبد الرازق مساهمة منه في هذا الحوار الدائر صداه في مصر. كان جريئًا معاكسًا لكل السائد، معاندًا لكل الحالة العاطفية التي عمت البلاد الإسلامية حسرة بسقوط الخلافة، فقدم أسئلة شكلت علامة فارقة في النقاش السياسي الإسلامي، وفتح فصلاً جديدًا ربما لم يطرح من قبله، هو يتساءل: هل منصب الخلافة من الإسلام في شيء؟ هل هناك شيء اسمه “نظام حكم” في الإسلام؟ هل الإسلام دين ودولة؟

علي عبد الرازق في كتابه اختصر المسألة بوضوح فقال بأن الخلافة الإسلامية ليست أصلاً من أصول الإسلام، بل هي مسألة دنيوية وسياسية أكثر من كونها مسألة دينية، ولم يرد بيانٌ في القرآن، ولا في الأحاديث النبوية في التأكيد على وجوب تنصيب الخليفة أو اختياره.

ذهب عبد الرازق إلى أبعد من ذلك، فقال: “التاريخ يبين أن الخلافة كانت نكبة على الإسلام وعلى المسلمين، وينبوع شرٍ وفساد”.
أثار هذا الكتاب ضجة كبيرة في حينه، وتوالت عليه ردود علمية كثيرة، شعر الملك فؤاد أن عبد الرازق سيقطع عليه الطريق أمام تولي الخلافة، فصدرت في حقه أحكام قاسية بإجماع كبار المشايخ والعلماء في الجامع الأزهر قضت بطرده من زمرة العلماء، وفصله من وظيفته في القضاء، وسحب إجازته العلمية من الأزهر.

هل الإسلام دين ودولة؟

يسعى علي عبد الرازق في كتابه إلى هدم النظرية القائلة بأن (الإسلام دين ودولة). كان الشيخ عبد الرازق الذي درس في جامع الأزهر، وفي جامعة أكسفورد بإنجلترا على وعي بإشكالية العلاقة بين الدين والدولة، وعلى وعي بالآفاق الحديثة للدولة المعاصرة التي من شأنها أن تقطع مع إرث الدولة المملوكية، وأن تؤسس لأصول جديدة في الحكم.

من هنا فقد كان كتاب علي عبد الرازق وما جاء به من أفكار أصيلة وطريفة وجدية وجديدة، قد مثل إعلانًا عن تفجير المعركة الفكرية السياسية داخل الاجتماع الإسلامي التقليدي فهو يعيب على “المسلم العامي” وعلى “رأي جمهور العلماء من الإسلام” اعتقادهم بأن الإسلام يمثل وحدة سياسية. لا يمل عبد الرازق من تفنيد الاحتجاج الشائع بأن “الخلافة مقام ديني” ويرى ذلك أنه من الأخطاء الشائعة التي تسربت إلى عامة المسلمين، الذين خيل إليهم أن الخلافة مركز ديني، وأن من ولي أمر المسلمين فقد حل منهم في المقام الذي كان يحله صاحب الرسالة، لا بل إنه يعتبر أن استمرار هذا الاعتقاد يصلح لأن يكون شاهدًا على استقالة العقل عند المسلمين في التفكير السياسي، والنظر في كل ما يتصل بشأن الخلافة والخلفاء.

يصرح عبد الرازق قائلاً: “الواقع المحسوس الذي يؤيده العقل ويشهد به التاريخ قديمًا وحديثًا أن إقامة الشعائر الدينية لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء خلافة، ولا على أولئك الذين يلقبهم الناس خلفاء، والوقع أيضًا أن صلاح المسلمين في دنياهم لا يتوقف على شيء من ذلك، فليس لنا حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا دنيانا، بل إنما كانت الخلافة نكبة على الإسلام وعلى المسلمين… فمعاذ الله أن يجعل عز هذا الدين وذله منوطًا بنوع من الحكومة، وتحت رهن الخلافة، ورحمة الخلفاء”.

“الخلافة” ليس لها أصل شرعي

يؤكد عبد الرازق أن نصوص الكتاب والسنة قد خلتا من أي إشارة إلى الخلافة، ويقول: «لم نجد فيما مر بنا من مباحث العلماء، الذين زعموا أن إقامة الإمام فرض، من حاول يقيم الدليل على فرضيته بآية من القرآن. ولو كان في الكتاب دليل واحد لما تردد العلماء في التنويه والإشادة به، أو لو كان في الكتاب ما يشبه أن يكون دليلاً على وجوب الإمامة لوجد من أنصار الخلافة المتكلفين من يحاول أن يتخذ من شبه الدليل دليلاً. ولكن المنصفين من العلماء والمتكلفين منهم قد أعجزهم أن يجدوا في الكتاب حجة لرأيهم فانصرفوا عنه إلى ما رأيت من دعوى الإجماع تارة، ومن الالتجاء إلى أقيسة المنطق وأحكام العقل تارة أخرى».

الخلافة كمفهوم في فكر الحركات الإسلامية ليست مجرد نظام سياسي لحكم دولة قطرية محددة، وإنما هي “أيديولوجيا” تستند على ميراث سابق، تتوسع وتمدد متى ما كانت الدولة تمتلك أسباب القوة.

ويشدد مجددًا عبد الرازق أن الخلافة ليست نظامًا دينيًّا، وليست نيابة عن صاحب الشريعة، وأن ما قيل في هذا الاتجاه لم يكن سوى ترويج واضح لمسألة خاطئة بما يحقق مصلحة السلاطين، “حيث كان من مصلحتهم ترويج ذلك الخطأ بين الناس حتى يتخذوا من الدين دروعًا تحمي عروشهم، وتذود الخارجين عليهم، حتى أفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله”. بينما «الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا، ولا القضاء، ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها؛ فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة».

لماذا ضعفت العلوم السياسية عند المسلمين؟

في معرض تعليقه على الدعوات المنادية باستعادة الخلافة الإسلامية يقول الكاتب المصري صلاح عيسى إن هذا يعكس عجز الحركة الإسلامية عن ابتكار أفكار خلاقة، “فهم لا يزالون يراوحون مكانهم بأفكار تقليدية، رغم تطور الزمن. ففكرة الخلافة فكرة غير عملية تجاوزها الزمن منذ نشأة الدولة الوطنية في البلاد الإسلامية كلها، ومنذ أن أسيء استخدامها وأدت إلى تفرقة المسلمين”.
ما هو سر هذا العجز عن ابتكار أنظمة سياسية جديدة تتواكب مع تطور العصر؟ لماذا كان حظ العلوم السياسية عند المسلمين بالنسبة للعلوم الأخرى من أضعف العلوم وأقلها حظاً؟

يطرح هذا السؤال ويجيب عنه علي عبد الرازق قبل ثمانية وثمانين سنة، يقول بأن العرب مع ذكائهم الفطري ونشاطهم العلمي، وولعهم بما عند اليونان من فلسفة وعلم وانكبوا على ترجمتها، إلا أنهم “وقفوا حيارى أمام علم السياسة، وارتدوا دون مباحثه حسيرين!، فما بالهم أهملوا كتاب الجمهورية لأفلاطون، وكتاب السياسة لأرسطو، وهم الذين بلغ إعجابهم بأرسطو بأن لقبوه (المعلم الأول)، ما لهم رضوا أن يتركوا المسلمين في جهالة مطبقة بمبادئ السياسة وأنواع الحكومات عند اليونان؟”.
يقص عبد الرزاق الجواب على هذا السؤال محللاً السبب في استبداد الملك والسلطة الذي تم في عهود الخلافة التي كانت عادة محاطة بالرماح والسيوف والجيوش المدججة والبأس الشديد، ولذلك كان طبيعيًّا أن “يستحيل السلطان وحشًا سفاحًا وشيطانًا ماردًا إذا ظفرت يداه بمن يحاول الخروج عن طاعته وتقويض كرسيه، وإنه لطبيعي فيه أن يكون عدوًّا لدودًا لكل بحث علمي يتخيل أنه قد يمس قواعد ملكه أو يريح من تلقائه ريح الخطر ولو كان بعيدًا، ومن هنا نشأ الضغط الملوكي على حرية العلم ومعاهد التعليم، ولاشك أن أخطرها كان علم السياسة، ولذلك كان حتمًا على الخلفاء أن يسدوا طريقه ومنافذه أمام الناس”.

محمد عمارة

محمد عمارة

محمد عمارة وصف كتاب (الإسلام وأصول الحكم) بأنه إنجيل العلمانيين في الشرق الإسلامي، معتبراً الشيخ علي عبدالرزاق أحد أبرز مؤسسي التيار العلماني

وهنا يلتقي عبد الرزاق مع المرتكز الأساسي التي قامت عليه نهضة التنوير الأوروبية للدعوة إلى تحرير العقل، وإطلاقه من عقاله، ولذلك هو يجزم أن تدبير الدولة وعمارة المدن ونظام الدواوين وغيرها من الشؤون المدنية يرجع الأمر فيها إلى العقل والتجريب.
وفي هذا الإطار درس عبد الرازق موضوع الخلافة باعتبارها ظاهرة موضوعية أنثربولوجية ينظر إليها في تاريخيتها أي في تطورها، ولذلك هذا الموقف الجديد على المسلمين جعل عبد الرازق يعتبر بحثه من قبيل المغامرة، يقول : “إن المغامرة في بحث هذا الموضوع هو غموض القضاء والنظم السياسية زمن الرسالة، قد تكون مثارًا لغارة يشب نارها أولئك الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة ليس للعقل أن يحوم حولها، ولا للرأي أن يتناولها”.

هل نجح علي عبد الرازق؟

يبدو أن الأصوات المتصاعدة يومًا بعد يوم مطالبة باستعادة دولة الخلافة تؤكد أن علي عبد الرازق قد مني بالفشل في مشروعه، على الرغم من أن هدفه قد ظل سليمًا وصحيحًا كما يقول الباحث اللبناني رضوان السيد، بأن الإسلام لا يقدم نظامًا سياسيًّا محددًا يقتضيه الدين، وإنما نشأ هذا الانطباع من التباسات تاريخية، ومن دعاوى سلطوية حينًا، ودينية واهمة حينًا آخر.

يرى رضوان السيد أن علي عبد الرازق لم ينجح في مسعاه من أجل استثارة الوعي الإصلاحي والمدني تجاه الدولة والشأن العام، وسبب ذلك ليس لأن طريقته لم تكن مقنعة، بل بسبب “حالة الاستعمار الغربي التي سادت الدول العربية والإسلامية، وتظاهر المستعمرين بمعارضة إعادة الخلافة، وسوء تصرفات مصطفى كمال أتاتورك، ثم شاه إيران، كل ذلك ألقى في روع العامة وبعض الخاصة والعلماء أن (الدولة الوطنية) هي دولة معادية للتقاليد، وبشوشة مع الاستعمار والمستعمرين”.

كما أن سعي كثير من النقاد والباحثين الإسلاميين إلى وصم عبدالرازق بأوصاف من شأنها أن توصد الباب أم مناقشة مشروعه بشكل علمي، حيث صُنف بأنه أحد أبرز دعاة العلمانية، ومؤسسيها في العالم العربي، وهذه “تهمة” وضعت عبدالرازق في خانة التغريبيين، وأحد عناصر المخطط التآمري ضد الإسلام، كما يصور ذلك الكاتب الإسلامي محمد عمارة حيث قال :” ولقد استعان الغرب الاستعماري بنفر من أبناء الأقلية المارونية، الذين تربوا في مدارس الإرساليات التنصيرية بلبنان، في الدعوة إلى نموذجه الحضاري العلماني.. فكان فرح أنطون أول دعاة العلمانية في بلادنا، ثم تخلّق للعلمانية تيار فكري بلغ ذروته في كتاب الشيخ علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) مصورا الإسلام -كالنصرانية- دينا لا دولة، ورسالة لا حكمًا، يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. وفي موضع آخر وصف عمارة كتاب (الإسلام وأصول الحكم) قائلاً : “إنه انجيل العلمانيين في الشرق الإسلامي”.

كتُبت ردود كثيرة على علي عبد الرازق ربما أشهرها ما كتبه مفتي المالكية في تونس محمد الطاهر بن عاشور (نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم)، والشيخ محمد الخضر حسين الذي كتب (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم)، وهو عالم جزائري تولى مشيخة الأزهر عام 1952. كما كان ضمن حملة الحرب على المؤلف أن أشيع في تلك الفترة أن الشيخ علي عبد الرازق لم يكتب ذلك الكتاب، وإنما وُضع اسمه عليه، والذي كتبه مجموعة من المستشرقين.
كتاب علي عبد الرازق بأسلته الصريحة الملحة مازالت حاضرة وبقوة اليوم، تستدعي المزيد من النقاش والتحرير، إن كتاب “الإسلام وأصول الحكم” كما يقول الكاتب المصري عمار علي حسن: “لم يسقط بالتقادم، أو يحال إلى تاريخ المعرفة، بل لا يزال حيًّا بين ظهرانينا، وكأن صاحبه للتو قد فرغ من تأليفه”.

…………………………………………………………………….

عبد الرازق في سطور

IMG_1025

هو علي حسن أحمد عبد الرازق ( 1888 ـ 1966) ولد في قرية أبو جرج بمحافظة المنيا بمصر، من أسرة ثرية. حفظ القرآن في كتاب القرية، ثم التحق بالأزهر حيث حصل على درجة العالمية، وكان من أبرز شيوخه أحمد أبو خطوة، والشيخ أبو عليان.
وحين نشأت الجامعة المصرية، التحق بها علي عبد الرازق وجمع بين الدراسة فيها والأزهر الشريف. سافر إلى إنجلترا على نفقة أسرته، والتحق هناك بجامعة أكسفورد عازمًا على دراسة الاقتصاد، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى جعله يعود إلى مصر عام 1915م.
في عام 1915م عين قاضيًا شرعيًّا، واستمر في هذا العمل حتى أصدر كتابه (الإسلام وأصول الحكم) سنة 1925م – وكان قاضيًا بمحكمة المنصورة الشرعية- لكن تداعيات المعركة السياسية التي أثارها الكتاب أدت إلى فصله من عمله في 17 سبتمبر سنة 1925م تنفيذًا للحكم التأديـبي الذي أصدرته “هيئة كبار علماء الأزهر” في 12 من أغسطس سنة 1925م ، والذي أخرجته بموجبه من “زمرة العلماء”.
بعد ذلك سافر إلى لندن، دارسًا، وإلى شمالي أفريقيا، سائحًا، ومن هناك كتب عددًا من المقالات التي نشرتها له مجلة (السياسة) التي كان يصدرها، حزب “الأحرار الدستوريون”، الذي كان علي عبد الرازق منتميًا له.
في عهد الملك فاروق، عام 1945 أعيد عبد الرازق إلى زمرة العلماء، ثم عين وزيرًا للأوقاف 1948، كما شغل عضوية مجلس النواب، وعين عضوًا بمجمع اللغة العربية.
توفي في 23 سبتمبر 1966، وله من المؤلفات بالإضافة لكتاب “الإسلام وأصول الحكم”، كتاب “الإجماع في الشريعة الإسلامية”، و”أمالي علي عبد الرازق”.

…………

عن صحيفة المجلة

29 غشت 2013

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…