نبش في الذاكرة… 116 عاماً على المؤتمر الصهيوني الأول

(مدينة بازل السويسرية بين 29 و31 آب عام 1897)

عادة ما تطل علينا الصحف الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بمقالات إفتتاحية خاصة تلفت فيها نظر حكومات تل أبيب وتحذرها من مغبة ما قد تؤول إليه

الأوضاع في كيان العدو المصطنع نتيجة سياسة التمييز العنصري الحمقاء التي درج على ممارستها ضد الفلسطينيين على مدار الأعوام الخمسة والستين الماضية، التي مثلت تاريخ اغتصاب فلسطين بشكل مخالف للقوانين والأعراف الدولية.

ومما يتوارد إلى ذهني الآن سيل مقالات من هذا النوع قامت العديد من الصحف الصهيونية بنشرها عشية قيام الصهاينة بإحياء مرور قرن على رحيل زعيمهم تيودور هرتزل، وتحديداً في التاسع من شهر تموز 2004، حذرت فيها من مغبة حدوث كارثة حقيقية قد تهدد الوجود المصطنع لكيان العدو القائم بقوة الحديد والنار فوق ثرى فلسطين منذ عام 1948، إذا ما استمر قادته بممارسة سياسة التمييز العنصري بحق الفلسطينيين الذين كان قد مضى على اغتصاب أراضيهم في حينه سبعة وخمسون عاماً.

يومها كانت صحيفة “هآرتس” أكثر الصحف الصهيونية وضوحاً، إذ قالت في مقالتها الإفتتاحية التي خصصتها للمناسبة ما نصه: “إنه يتعين علينا – أي على الإسرائيليين- القول دون خشية أو تردد أن صهيونية الألفين لن تبقى على قيد الحياة في حال ظل تفسيرها لدولة اليهود على أنها دولة الأبارتهايد التي تتحكم بالفلسطينيين خلافاً لإرادتهم ورغباتهم. ويجب أن نذكر أن معاناة الفلسطينيين الذين يعيشون تحت احتلال إسرائيل قاسية مثل معاناة يهود أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر. إن مستقبل دولة اليهود مرتبط بمستقبل الشعب الفلسطيني الذي يعيش إلى جانبها وفي داخلها. والحل المنطقي والأخلاقي لهذا لا يمكن العثور عليه في الحلم وإنما في إصلاح الواقع”.

بمقدور كل من يطلع على أدبيات المنظمات الصهيونية وممارسات هذه المنظمات الإرهابية والعنصرية أن يستدل على أن “الحلم الصهيوني” قد بدأ يعبر عن نفسه بشكل واضح ومستفز مع التئام شمل المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد قبل 115عاماً في مدينة بازل على الحدود السويسرية الألمانية، وتحديداً في شهر آب 1897.

ففي ذلك المؤتمر تم وضع الأساس النظري للدولة العبرية، التي قامت فيما بعد على أنقاض فلسطين الحبيبة في قلب الوطن العربي، في ظل خنوعٍ عربي وتواطؤ أممي وتآمرٍ دولي. وقد عرفت الفترة الممتدة بين التاريخ المذكور واللحظة الراهنة محطات خطيرة ومؤلمة كثيرة ومتواصلة حاول الصهاينة خلالها تمزيق وتفتيت الوطن العربي واختراق كل خطوطه الدفاعية، بدعمٍ وتأييدٍ مطلقين من الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة.

ويمكن الجزم بأن خيوط الصهيونية التي نُسجت قبل 115 عاماً قد انتشرت في العالم كالهشيم في النار وتمددت كالسرطان بشكل خطر ومتسارع لتطال معظم أرجاء المعمورة، وذلك من خلال استئثارها بزمام الأمور الاقتصادية والإعلامية في معظم البلدان وتزعمها للانقلابات العسكرية فيها تمويلاً وتنفيذاً، وامتلاكها لأضخم إمبراطورية مالية تغذت خزانتها من مساعدات المنظمات الصهيونية والجاليات اليهودية والتيارات المسيحية المتصهينة المتعاطفة معها ومن التعويضات الألمانية والمساعدات الأميركية التي ما تزال تتدفق عليها حتى الآن والتي اقتربت من حدود 300 مليار دولار.

انعقد المؤتمر الصهيوني الأول بين 29 و31 آب من عام 1897 تحت شعار “العودة إلى صهيون”، وأشرف على تنظيمه ورئاسته المفكر والكاتب اليهودي المجري تيودور هرتزل الذي يُعدُ أبو الصهيونية العالمية والمُنّظِر الأكبر للإرهاب الدولي. وصهيون كما نعرف هو جبل في مدينة القدس الفلسطينية المحتلة. وقد شارك فيه أكثر من 200 مندوب يهودي، 117 منهم مثلوا جمعيات صهيونية مختلفة، وسبعون آخرون جاءوا من روسيا وحدها، إضافة إلى مندوبين من القارتين الأميركيتين والدول الاسكندنافية وبعض الأقطار العربية. وكان مقرراً للمؤتمر أن ينعقد في مدينة ميونيخ الألمانية، إلا أن الجالية اليهودية هناك عارضت ذلك لأسباب خاصة بها مما استوجب نقله إلى مدينة بازل السويسرية.

افتتح الإرهابي تيودورهرتزل المؤتمر بخطابٍ “ناري وعاطفي” كشف فيه عن الهدف الحقيقي من وراء عقده، والذي تمثل بما أسماه “وضع الحجر الأساسي للبيت الذي سيسكنه الشعب اليهودي في المستقبل”! وأعلن في ذلك الخطاب “أن الصهيونية هي عودة إلى اليهودية قبل العودة إلى بلاد اليهود”! كما حدد فيه مضمون المؤتمر فاعتبره “الجمعية القومية اليهودية”.

وفي ختام المؤتمر أقر المؤتمرون أهداف الصهيونية التي عُرفت منذ في ما بعد ب”برنامج بازل” الذي حسم موقف الصهاينة من موقع دولتهم، التي لطالما حلموا بها!! وبرغم اقتصار أبحاث المؤتمر، إلى حدٍ ما، على المناقشات والمداولات دون أن يكون هناك التزام واضح من قبل هرتزل بقيام هذه الدولة “الوطن” في فلسطين بالتحديد، إلا أن المؤتمر شكل بدايةً حقيقية لمشروع الدولة الصهيونية، في ظل توفر العديد من الخيارات والأوطان بينها الأرجنتين وأوغندا. ومع ذلك فقد شكل المؤتمر الانطلاقة الأولى باتجاه فلسطين. وقد سبق لهرتزل أن فكر في مثل هذا قبل عامٍ من انعقاد المؤتمر، اي في عام 1896، كما ظهر جلياً في كتابه “الدولة اليهودية”.

لقد شكل المؤتمر الصهيوني الأول نقطة تحول هامة وخطيرة جداً في تاريخ الحركة الصهيونية، إذ نجح منظموه في جمع معظم صهاينة العالم تحت سقفٍ واحد وفي إطار أطلقوا عليه تسمية “المنظمة الصهيونية العالمية”، وهي المنظمة التي تولت من حينه الإشراف على مجمل الأجهزة الصهيونية في العالم. ووفق ما جاء في “الموسوعة الفلسطينية” فإن إنشاء المنظمة المذكورة كان قد شكل فاتحة عهدٍ جديد من النشاط الصهيوني الهدام استهدف تحقيق جميع مخططات الحركة الصهيونية.

وقد تفرع عن المؤتمر لجنة تنفيذية تكونت من 15 عضواً كانت بمثابة مجلس شورى وأخرى صُغرى تكونت من خمسة أعضاء كانت بمثابة حكومة. وتم تأسيس مكتبة مالية لجمع الاشتراكات الصهيونية السنوية من جميع اليهود في العالم، إلى جانب فتح المصرف اليهودي الاستعماري برأسمال بلغ مليون جنيه إسترليني. ووضع المؤتمر برنامجاً سارت عليه جميع المؤتمرات الصهيونية التي جاءت بعد ذلك، كما وناقش تقارير مفصلة عن فلسطين والنشاط الاستيطاني فيها. ونصبَ المؤتمر تيودور هرتزل رئيساً له ورئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية.

وبعد مضي أقل من عام على انعقاد المؤتمر وبفعل تزايد الضغوط اليهودية التي مورست على الحكومة البريطانية، عرضت الأخيرة على المنظمة الصهيونية العالمية ستة آلاف ميل مربع من أراضي أوغندا في القارة السمراء لإقامة الوطن القومي اليهودي المنشود، إلا أن “منظمة الأرض اليهودية” التي كانت تشكل أحد أبرز أذرعة تلك المنظمة، رفضت ذلك العرض وأصرت على أن يكون في فلسطين، متذرعة بما أسمته زوراً وبهتاناً “الرؤية التوراتية”!!

وتحت وطأة الضغوط المماثلة على الولايات المتحدة الأميركية والمعسكر الغربي الذي تشكل منه “الحلفاء” إبان الحرب العالمية الأولى، أصدر وزير الخارجية البريطاني آنذاك جايمس بلفور وعده المشؤوم الذي سُمي باسمه في عام 1917 والذي قضى بإقامة “الوطن اليهودي” على أجزاء من فلسطين، ليكون نقطة حماية استراتيجية للدفاع عن قناة السويس وطريق الهند، وليكون قاعدة متقدمة للإمبريالية في الوطن العربي. وكان من الطبيعي أن يتبنى الرئيس الأميركي هاري ترومان ذلك الوعد بحماس كبير وعن “طيب خاطر طبعاً”. وتطور الحال إلى أن جاء المؤتمر الصهيوني الثاني والعشرون الذي انعقد في بازل السويسرية أيضاً في عام 1946 وتبنى بدوره مشروع “بلتمور 1942″ الذي قضى بإنشاء دولة يهودية في فلسطين.

لا شك فيه أن المشروع الصهيوني قد رمى بظلاله القاتمة والكارثية على الأرض الفلسطينية والفلسطينيين في آن معاً. فبعد مرور خمسة عقود على مؤتمر بازل، تمكنت الحركة الصهيونية من إقامة الكيان الصهيوني على 78 بالمئة من مساحة فلسطين التاريخية، بعد أن طردت بالإرهاب والإكراه والتنكيل والتعذيب 850 ألف فلسطيني من أراضيهم. ثم أجهزت في عام 1967 على ما تبقى من فلسطين، بعد طرد وتهجير مئات آلاف الفلسطينيين الجدد. وبالنسبة للهجرة اليهودية إلى فلسطين، فقد اتخذت بعد مؤتمر بازل الأول طابعاً منظماً، حيث ارتفع عدد اليهود من 30 ألفاً في عام 1897 إلى 650 ألفاً في عام 1948، وهو تاريخ نكبة فلسطين وولادة “الدولة العبرية القيصرية”. وقد تواصلت سياسة التهجير “الإسرائيلية” ومصادرة الأراضي وإقامة المستوطنات والهدم والحفر والعزل وتغيير المعالم في فلسطين بالشكل الذي تناسب وتلاءم مع المطامع اليهودية الصهيونية، كما وتواصلت سياسة الهجرة اليهودية ليصل عدد اليهود إلى ما يزيد عن خمسة ملايين من أصل يهود العالم الذين لا يتجاوزون 13 مليوناً.

وقد دللت الوقائع على أنه ومنذ اغتصاب فلسطين في عام 1948 وحتى الآن، دأب “الإسرائيليون” على ممارسة السياسة في إطار الأيديولوجية الصهيونية، والتعايش مع الخوف المتواصل والمفتعل، وسط اللجوء إلى الغرب وبالأخص الولايات المتحدة الأميركية لتأمين الأسلحة الفتاكة والمفاعلات النووية والتكنولوجيا المتطورة، والحصول على الدعم السياسي والمعنوي لسياساتهم العدوانية ومخططاتهم التوسعية. ومنذ ذلك التاريخ وحتى هذه اللحظة والألم الفلسطيني في تصاعدٍ مستمر ومتنام نتيجة تلك الممارسة وذلك التعايش والانحياز الغربي- الأميركي الأعمى “لإسرائيل”.

وإذا ما دققنا في ملفات منظمة الأمم المتحدة بما في ذلك ملفات مجلس الأمن الدولي لوجدنا أن الولايات المتحدة الأميركية لم “تكلف نفسها” عناء تسجيل أي إدانة للممارسات الإرهابية اللاأخلاقية واللاإنسانية التي ارتكبها “الإسرائيليون” بحق الفلسطينيين والعرب “منذ بدء حلم تيودور هرتزل في عام 1897 وحتى إرهاب بنيامين نتانياهو في وقتنا الحالي”.

ألثابت حتى الآن أن الأيديولوجية الصهيونية ما تزال هي المتحكمة بعقليات وسياسات قادة “إسرائيل”، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية وتوجهاتهم اليمينية أو اليسارية. فقد حرص إسحق رابين كل الحرص عند طرحه “إعلان المبادئ” الذي أبرمه مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أمام أعضاء الكنيست “الإسرائيلي” على الادعاء بأن “الصهيونية قد انتصرت”!! أما بنيامين نتنياهو، فقد حرص هو الآخر على أن يقتفي أثر سلفه ويدعي في كتاباته “أن للصهيونية دوراً هاماً يجب عليها القيام به من أجل توطين ثمانية ملايين يهودي حفاظاً عليهم من عداء السامية المستشري في العالم، على حد زعمه!! وبرغم جميع الاجتهادات والأفكار “البروباغندية” التي طرحها زعيم حزب العمل الأسبق والرئيس الحالي لدولة الاغتصاب شمعون بيريس في كتابه “الشرق الأوسط الجديد” بغية الفصل بين جيلين “إسرائيليين” سابق قامت سياسته على الأحلام والتطلعات الأيديولوجية وحالي تقوم سياسته على حقائق العصر، إلا أنه لم يستطع أن يعدل عن مواقف الصهيونية الخاصة بدعوى أرض “إسرائيل التوراتية” والتي تشمل الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة ومرتفعات الجولان، تماماً مثله مثل أي قائد “إسرائيلي” أخر!!

مائة وستة عشر عاماً مرت على تاريخ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية ولم يزل قادة كيان العدو على اختلاف مشاربهم السياسية والحزبية عاجزين عن تطوير الصهيونية بما يتفق مع حقائق العصر بمعناها الحقيقي ومفهومها الواضح، بمن فيهم إسحق رابين. فيوم خطا رابين أولى خطواته على طريق “السلام” المزعوم، لم يجرؤ على الإقرار بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة في الضفة والقطاع والقدس الشريف، لا بل تمسك ببقاء المستوطنات اليهودية في مواقعها ووضعها تحت حماية قوات الأمن “الإسرائيلية” وإشراف سياسي كامل من قبل السلطة السياسية “الإسرائيلية” في تل أبيب. وإذا ما كان الحال هكذا مع رابين “شريك الفلسطينيين في سلام الشجعان” كما كان يصفه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، فمن البديهي أن يكون أدهى وأمر وأشد تعنتاً وتصلباً عند القادة الآخرين الذين خلفوه في رئاسة حكومات تل أبيب المتعاقبة.

لا شك أن الألم الفادح الذي أوقعته الصهيونية العالمية بالفلسطينيين والعرب عامة من خلال ممارستها الإرهاب المتواصل ضدهم قد بدا في بعض الأحيان ثقيلا على ضمائر قلة من المفكرين والسياسيين والعسكريين اليهود في تل أبيب وعواصم الغرب، لكن الوقائع على الأرض ستظل تشهد على أن كيان العدو لم يزل يُصر على التمسك بوضعية دولة الأبارتهايد التي تتحكم بالفلسطينيين خلافاً لإرادتهم ورغباتهم، الأمر الذي لا يُستبعد معه احتمال قرب نهاية الصهيونية، كما تكهنت صحف صهيونية كثيرة، من بينها صحيفة “هآرتس” التي أشرت إلى ذلك بشكل صريح ومباشر في افتتاحية عددها الخاص بالذكرى المئوية لرحيل “ملهم الصهاينة والمنظر الأكبر لإرهابهم” تيودور هرتزل!! ترى هل اقتربت تلك النهاية المنتظرة؟

……

عن موقع التجديد العربي

29 غشت 2013

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…