الإيمان بالمصالحة إلحاد سياسي!
تاريخ المصالحة الوطنية بين الأطراف الفلسطينية وخاصةً بين حركتي (فتح وحماس)، تاريخ طويل ملئ بالمشاق والمخاطر. هذا ما دلّت عليه المعطيات المتتالية، وما أثبتته الوقائع على الأرض، فإذا ما بدأنا التفكّر في شأنها خطوة بخطوة، فسنجد أنها بعيدة المنال وتبتعد أكثر كلّما مرّ الوقت. الأمر الذي أحلّ الاستحالة مكان الإمكان واليأس مكان الأمل.
حيث لم يتم التقدّم بشأنها، بالرغم من سلسلة طويلة من الاتفاقات والجداول الزمنيّة، التي نصّت على تنفيذ بنودها. لكن كانت هناك جذور متشعبة وأسباب داخلية وخارجية إضافةً إلى عدم توفّر إرادة سياسية أو عزيمة أو نوايا حسنة أدّت إلى الحيلولة دون الالتزام بها. برغم أن في البداية كانت لدى الكثيرين قناعة، بأن المصالحة سهلة وممكنة، نظراً لضرورتها في مواجهة الاحتلال على الأقل. لكن اتضح فيما بعد أن الاحتلال لم يظهر في الصورة لدى المتحاورين، وكانت تفشل الجهود وتنتصر النوايا المبيّتة لدى كل طرف، والتي تعتمد: أن تحقيق المصالحة يتوقف على تحقيق كل شروطه، أو جوهرها على الأقل، بالرغم من وجود تحذيرات ودعوات وطنية إلى إنهاء الانقسام على أسس وطنيّة وديمقراطيّة وشراكة حقيقيّة بين الطرفين المتنازعين.
ليس بوسعنا إنكار تاريخ حركة فتح النضالي والسياسي، كما ليس بالمقدور تجاهل حركة حماس وما قدّمته من نضالات وتضحيات، فهذا بالتأكيد مسطور في كتابيهما قبل أن نقوم نحن بذكرها أو الإعلان عنها من جديد. لكن ليس معنى ذلك أن يحوز كل منهما الأمر لنفسه، وكأنّ الحكم لحركة فتح جاء مقدّساً، أو لحركة حماس منزّلاً.
كانت أعلنت حركة فتح ويمثلها الرئيس “أبومازن” أنها قد تبرأت من رغبتها في شطب حماس، كما أن رئيس المكتب السياسي لحركة حماس “خالد مشعل” أعلن بأن حركته تريد شراكة وطنية حقيقية تنهي الانقسام وتعيد وحدة الوطن، وأكّد أن حماس “لا تزاحم أحدًا على كرسي، ولا تريد أن تقصي أحدًا، كما أن الحركتين معا قد أجمعتا على إنكار أيّة تدخلات أجنبية وضرورة تحييدها في حال وجودها، وعلى إعلانهما – فتح وحماس- التمرّد على المعونات الأمريكية، والمساعدات الإيرانية على التوالي
وبالرغم مما كان يُعلنه الطرفان من نوايا حسنة، إلاّ أن مسألة المصالحة واستعادة الوحدة الوطنيّة كانت تأخذ في الابتعاد أكثر، بسبب الأفكار المختلفة التي تؤدي بالضرورة إلى مواصلة حالة الاستقطاب الحادة السابقة ابتداءً بتبادل الاتهامات بأن الطرف الآخر هو السبب فيما والمسؤول عمّا وصلت الأمور إليه، ومروراً بالسعي إلى تحشيد الرأي العام لصالحه إلى جانب بث مظاهر البغض والكراهية وانتهاءً بمواصلة عمليات الاعتقال السياسي كلها كانت كفيلة لإيجاد مسافات متباعدة عن أجواء المصالحة.
منذ اتفاق القاهرة في مارس/ آذار 2005، وبعد أن صوّتت الحكومة الإسرائيلية على تطبيق خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي “أريئيل شارون” لترك قطاع غزة إلى الفلسطينيين، فقد أُصيب الاتفاق إصابة بالغة، لعدم القدرة على استساغة كل طرف على إجراءات الطرف الآخر وإن كانت تخصه في أفكاره وأيديولوجيته لأن المحاولة في تطبيقها تمس رؤى ومصالحه، حتى تسللت الى الرأس هواجس أنه يوجد عيب ما في ذلك الاتفاق.
وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى) في يونيو/ حزيران 2006، وبعد اندثار اتفاق 2005، تلاسن الطرفان فترة طويلة ومضيا بين الشد والجذب، لكن أي منهما لم يكن مقتنعاً بشيء، وعليه، كان لسانه بعيداً عن أن يرتبط بشيء ويده أبعد في أن توقع على قصاصة ولو كان فيها القليل من الكلام. وعرضت الفصائل على الرئيس “أبو مازن” ورئيس المكتب السياسي “خالد مشعل” كل ما يمكن – تبعاً لنظرها- في شأن المصالحة، لكنهما اختفيا عن الأنظار، حيث أثارا ريبة غامضة حول نواياهما وكانا الأقل تشدداً في تلك الفترة، وأوقفا نفسيهما أمام تساؤلات أهمها أهُما على استعداد لأنهاء الملف حقاً، أم لتقسيم البلاد إلى بلدين والشعب إلى شعبين.
اتفاق مكة في أوائل فبراير/ شباط 2007، وإن بدا ساراً في البداية حيث تم خلاله، العمل على أيقاف كافة أشكال المناكفات السياسية والاقتتال الداخلي وتشكيل حكومة وحدة وطنية. إلاّ أنه سرعان ما فصل الشحن، برغم التحيات لله والصلوات الطيبات، إذ ما فتئت بنوده تتدحرج تباعاً، بعيداً عمّا تم الاتفاق عليه، حيث أثمر ثمراً مرّاً وليس مفيداً في شيء، حينما سقطت الكارثة وبدأ المشهد الأصعب الذي عانى تداعياته الفلسطينيون جميعهم وعلى المستويات كافة.
بعد ما يزبد عن أربع سنوات طاحنة أخرج كل من الفريقين أثقاله ضد الطرف الأخر، وصلت إلى حد التغييب السياسي والتوريط الأمني والتخريب الاجتماعي، وُلد –فجأة- اتفاق مايو/ أيار 2011، بمنشّطات مصرية، وتم الاتفاق على إنهاء أزمة الانقسام وإعلان حكومة توافق وطني وبدا ذلك معافاً وجميلاً، لكنه في الحقيقة لم يكن سليماً تماماً، إذ ما إن تعرّض لأنفاس العابثين حتى مات من فوره وكان نسياً منسيّا.
اتفاق فبراير/ شباط 2012، بحضانة قطرية، لم يكن أفضل حالاً، بل كان خرابه أكثر من صلاحه، على الأقل في نظر قيادة فتح، بسبب أنها لم تجد راحةً مقبولة لدى نوايا أمير قطر، الأمر الذي جعل إمكانية التقارب التدريجي بين فتح وحماس لا زالت بعيدة. لكن ذلك البعد لم يجعلنا نصل إلى حد اليأس بعد وكنّا محقّين، سيما وأن اتفاقاً آخر قد حصل في أوائل يناير/ كانون ثاني من العام الجاري 2013، حيث اتفق الجانبان على تنفيذ بنود اتفاق 2012، لكن لم نكن محقّين في الأمل بالنجاح، حيث بدأت أولى جولات التراشقات الإعلامية والمناكفات السياسية والاتهامات المتبادلة حول عدم الإقبال على التقدّم نحو إنهاء الملف كما هو مفهوم لدى الطرف الآخر. ومن ناحيةً أخرى واصل الطرفان هنا وفي الضفة الغربية في أطلاق العنان للإعلان في أن يفعل فعله نحو التحريض وبث روح الكراهية وكشف ستر الآخر أمام الغير. ناهيكم عن أعمال التعقّب والاعتقال السياسي للقياديين والمؤيدين، وتقييد حرّياتهم، وتضييق حركة مؤسساتهم، إلى أن جاءت عدّة ضربات شديدة متتالية وأقلّها شدة كانت حارقة، حيث كانت سبباً في حرق الاتفاقات السالفة إلى حد التفحّم، وجعلت من التفكير في المصالحة هو أمر منكر وقبيح، ومنها، أن حركة حماس ما فتئت تكيل المزيد من الاتهامات ضد حركة فتح ومنها، أن الأخيرة تعتمد ملاحقة كوادرها والمناصرين لها واعتقالهم والإساءة إلى أهليهم وذويهم. واعتبرتها حماس غير مبررة، إضافةً إلى أنها مسؤولة عن إعاقة تنفيذ بنود المصالحة – كرزمة واحدة-، وزاد الأمر تعقيدًا على تعقيد، حيث جاء أن حركة فتح في حل من الاتفاقات الموقع عليها مع حماس جرّاء تنصل الأخيرة عمليًّا منها. ولمّحت ضمنيًّا إلى أنها لا توافق على إجراء الانتخابات الآن. بسبب مرور موعد الرابع عشر من آب/ أغسطس، دون أن تلتزم حماس بما تم الاتفاق عليه بإعلان تشكيل حكومة توافق وطني، والإعلان عن موعد للانتخابات الرئاسية والتشريعية.
كما أن فتح مسؤولة عن تعاونها الأمني مع الإسرائيليين ضد المقاومة في الضفة الغربية، ومن ناحية من ناحيةً أخرى فإن حماس تقول بأن مضي قيادة فتح في شأن استئناف العملية السلمية مع إسرائيل وإن كان – بضغوط أمريكية- فهو عمل خارج عن مستوى التفاهمات بين الحركتين وأن فتح تذهب بعيداً ضد المصالحة. وهناك القضية الأكثر إثارةً للجدل وهي مسألة (حرب الوثائق) التي تقول حماس بأنها صادرة عن قيادات فتحاوية، لتخريب العلاقة بين الحركة والقيادة في مصر وزعزعة أمن واستقرار الحركة بشكلٍ عام. وكانت الرئاسة قد أنكرت إقدامها على مثل هذا العمل وهي تعلم أن مجرد الإنكار لا يكفي.
هذه الأمور ولا شك عملت على مضاعفة المعوقات أمام المصالحة إلى مائة ضعف على الأقل. وهي إن لم تُشاهد تصّعد إلى أبواب السماء فأغلب الظن أنها اخترقت طبقات الأرض. نظراً لأنها كشفت بشكل أوضح في مدى ما يضمره الطرفين من دون الاستطاعة إلى التستّر والإخفاء، وإن كان يريد كل طرف أن يفعل، لكن طبيعة الأحداث وتوقيتها، اضطرته أن يتخلى عن التلوّن والنفاق هذه المرة التي طالما كانا يتعاملان بهما طيلة الوقت.
على أي حال، وفيما إذا اعتبرنا بعد كل ما تقدّم، بأن هناك لدى البعض – داخل الطرفين- آمالاً في حدوث هذه المصالحة لاعتبارها خلافات داخلية وبالإمكان تلافيها من هنا أو هناك، فقد استجدّت أحداثاً خارجية، بدت في مجملها أشدّ وطأة من تلك الداخلية، حيث ألقت بكل تقلها على ذلك الانقسام وأثّرت فيه بقوة بحيث قضت على تلك الآمال قضاءً مبرماً، وهي الأحداث المصرية، والتي تمثلت بإجراءات الجيش ضد الرئاسة، وكان لها أن قسمت الانقسام إلى انقسامٍ آخر، وبدا الطرفان في أقضى حالات التنافر. شعر الجميع بفؤاده ورأى بأم عينه انعكاساتها على واقعهما وعلى المستويات كافة. فبينما أعلن القيادي “محمود الزهار” بأن تلك الأحداث لم تؤثّر على الحركة، فقد كان ذلك لا يبدو صحيحاً، بعد أن شوهِدت حركته تقطب جبينها إلى الدرجة القصوى، أسفًا وحسرةً على الزين الذي لم يكتمل، وعكفت على لملمة حالها وغلّقت على نفسها بالضبّة والمفتاح، واعتبرت أن لحركة فتح، ضلع في إغلاق معبر رفح بهدف عودة الحرس الرئاسي إليه باتفاق أو من دون اتفاق مع حماس، وإعادة تطبيق اتفاقية المعابر. فبينما هي كذلك، راحت حركة فتح تفتح الأحضان لِما جرى وأعلنت المزيد من سرورها وهاجت طرباً ذات اليمين وذات الشمال وفي الأنحاء، وعبّرت عن اعتزاز الشعب الفلسطيني بدور الجيش المصري بطل المعارك القومية الذي دافع عن قضايا الأمة العربية وفي مقدمتها قضية فلسطين. ” وتوجّت القيادة ذلك كلّه، بالركوب إلى القادة الجدد بالترحاب والتهنئة، وتمنّى بعض صقورها – على الأقل- بأن نسخة فلسطينية لحركة (تمرّد) المصرية يجب أن تتكون، بهدف السعي لإسقاط حكم حماس شعبياً؛ أو إعلان قطاع غزة إقليمًا متمردًا على نحو (رسمي) لذات الهدف.
وتأسيساً على ما شهدته الأحداث الداخلية، مع ما تشهده مصر من أحداث إضافةً إلى مستوى التدخلات الخارجية، فإنه بالقطع لا تبدو المصالحة الفلسطينية مطلباً بعيد المنال وحسب، بل غير موجودة. وإذاً، فلن تكون هناك مصالحة أخوّة وإنسانية، لأن هناك (كراهية) ولن تكون نهاية للصراع السياسي، لأن هناك (خلاف)، بل ولن يكون هناك توافق وانسجام، لأن هناك (فكر). ولا يدور في الأفق الآن، إلاّ التحّول إلى ما يسمى بالانفصال الدائم، الذي ربما يستمر إلى أجيالٍ قادمة، أو حرباً آتية لا سمح الله.
عن جريدة التجديد العربي
25 غشت2013