السياسة ليست كل شيء، وأن هناك قوى ضغط عديدة غير السياسة يمكن للمجتمع الإسلامي طلبها، من قبيل الاقتصاد والإعلام والتعليم والمجتمع المدني.

خلاصة من بحث هيئة التحرير ‘مراجعات سلمان العودة’، ضمن الكتاب 36 (ديسمبر 2009) ‘مراجعات الإسلاميين الجزء الأول’ الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.

ميدل ايست أونلاين

ففي مطلع التسعينيات، ومع الاحتلال العراقي للكويت وحرب تحريرها التي قادتها الولايات المتحدة والحلفاء، بناء على طلب الحكومة السعودية، بعد توغل جيش صدام حسين في الحدود السعودية عدة كيلومترات، بدت ملامح التيار الإصلاحي (الصحوي) بالظهور في السعودية، مع احتلال العراق للكويت واستعانة الحكومة السعودية بالقوات الأمريكية؛ ففي هذا الحين رأت الصحوة والعائدون من الجهاد الأفغاني رفض الاستعانة بهذه القوات، ثقة نتجت لديها من نجاح الجهاد الأفغاني في إجلاء الاتحاد السوفيتي.

رفضت هذه المجموعات التي تزعمها الشيوخ الشباب حينئذ سلمان العودة وسفر الحوالي وعائض القرني وناصر العمر الاستعانة بهذه القوات، وتنتقد الحكومة السعودية، وتقدم خطابا سياسيا سلفيا جديدا مختلفا عن الخطاب السلفي التقليدي، خطابا مسيسا انتهى بمحاصرتها والزج بها في السجن.

في تلك الأثناء تمتع الحوالي والعودة ورفاقهما بتأييد التيار الجهادي (قبل أن يتطور)، بل والجماعات الإسلامية المسلحة في مصر والجزائر والعديد من الدول، ولم يكن التمييز بين الخطاب الإصلاحي والجهادي واضحا، فكان هناك تبادل في الدعم والتأييد في مواجهة الأنظمة العربية والسياسات الأمريكية، وفي رفض التسوية السلمية.

ويبدو أن مرحلة السجن بالنسبة إلى سلمان العودة الذي كتب رسالة بعنوان “حي على الجهاد” في هذه الفترة، وكان يعده عدد من قادة تنظيم القاعدة في السعودية مثل يوسف العييري شيخا لهم، وحملوا عليه حملة كبيرة بعد رفضه ممارساتهم وانضمامهم للقاعدة، كما ثاروا عليه، وأخطأوا في حقه أثناء سعيه للتوسط بينهم وبين النظام السعودي، وقد وجهت له رسائل حادة من كل من يوسف العييري قائد ومؤسس تنظيم القاعدة في السعودية (قتل سنة 2003) وأسامه بن لادن زعيم القاعدة، نالت منه ومن غيره من مشايخ الصحوة، بما قد لا يطيقه شخص آخر.

ويبدو أن سلمان العودة الذي واصل نشاطه في الدعوة للاعتدال ورفض التطرف والتكفير، واحترام الاختلاف المذهبي أو الفقهي أو الطائفي.

يعد مقال سلمان العودة “الإسلام والحركات” المنشور في موقع الإسلام اليوم في أبريل سنة 2009 وعدد من المواقع الإسلامية الأخرى تدشينا لمرحلة جديدنة جديدة من تاريخ الحركة الإسلامية يمكن أن نسميها “نهاية التنظيمات وصحوة المراجعات”، يقول في تقديم مقاله: “زرت بلداً إسلامياً، كنت أحمل عنه انطباعاً غير جيد، وسمعت غير مرة أنه يضطهد الحجاب، ويحاكم صورياً، ويسجن ويقتل، وذات مؤتمر أهداني أخ كريم كتاباً ضخماً عن الإسلام المضطهد في ذلك البلد العريق في عروبته وإسلاميته. ولست أجد غرابة في أن شيئاً من هذا القيل حدث ذات حين؛ في مدرسة أو جامعة، أو بتصرف شخصي، أو إيعاز أمني، أو ما شابه” ثم يضيف الشيخ سلمان العودة: “بيد أني وجدت أن مجريات الواقع الذي شاهدته مختلفاً شيئاً ما؛ فالحجاب شائع جداً دون اعتراض، ومظاهر التديّن قائمة، والمساجد تزدحم بروّادها من أهل البر والإيمان، وزرت إذاعة مخصصة للقرآن؛ تُسمع المؤمنين آيات الكتاب المنزل بأصوات عذبة نديّة، ولقيت بعض أولئك القرّاء الصُّلحاء؛ بل وسمعت لغة الخطاب السياسي؛ فرأيتها تتكئ الآن على أبعاد عروبية وإسلامية، وهي في الوقت ذاته ترفض العنف والتطرف والغلو، وهذا معنى صحيح، ومبدأ مشترك لا نختلف عليه”.

والشيخ العودة لا يقول في هذه الزيارة عن تونس أنها بلد كامل خال من العيوب، بل لا حظها ولم يثن على النظام ولكنه فرق بين حضور الإسلام وأزمته وحضور الحركات الإسلامية وأزمتها فيقول: “لست أعني أنني وجدت عالماً من المثل والكمالات والفضائل، وقد لا تخطئ عينك أو أذنك همساً يسأل بتردد وخوف، وكأنه يحاذر عيوناً أن تراه وآذاناً أن تسمعه. بيد أن الصورة كانت مختلفة شيئاً ما، وهذا ما حدا بي إلى أن أقول لجلسائي إن علينا أن نفرّق بين الإسلام وبين الحركات الإسلامية”.

لا شك أن هذا التفريق بين الحركات الإسلامية والإسلام يحمل نقدا جذريا وتحريرا للإسلام من السياسة التي سيطرت عليه منذ قديم، ليس منذ دعوى استعادة الخلافة مع الإخوان المسلمين في عشرينيات القرن الماضي أو وحزب التحرير في أوائل خمسينياته، وغيرهما ولكن منذ أن صارت الإمامة والخلافة جزءا من علم أصول الدين وعلوم التوحيد والعقيدة، وصارت الفارق بين الفرق.

وإذا كانت الإمامة والسياسة هي غاية الدعاة فلا شك أن القمع هو السبيل، وإذا كان مطلب الإمامة لم يعصم دماء خير السلف وخير شباب أهل الجنة الحسين بن على كما لم يمنع مقاتل التابعين وتنازع الأٍسر الأصيلة في الإسلام على مدار تاريخه، رغم أن الإسلام أوسع من تصور السياسة، وقوته لا تستمد من الحاكمين باسمه، بل هي في إيمان الأفراد والجماعات به، في هذا الاتجاه يكتب الشيخ سلمان العودة: “قد يضيق نظام حكم ما بالحركات الإسلامية؛ بسبب الخوف وعدم الاطمئنان، أو المغالبة السياسية أو المزاحمة، وقد يقع لبعض الحركات أن تنفتح نحو السياسة وتضخم دورها وأهميتها، وكأن الإمساك بأزمتها يعني نهاية المشكلة والمعاناة”.

ثم يضيف: “وهي رؤية ضيقة تجاوزتها حركات كثيرة؛ أدرَكَتْ أن التغيير يجب أن يستهدف سلوك الفرد وعقله، ومنحه الخبرات والمهارات والمعارف والأفكار الصحيحة، وليس أن نتصارع على الكراسي والمناصب بإقصائية متبادلة، وكل طرف يقول: أنا أو الدمار”، هكذا يكون الصراع على الكراسي حتى ولو كان صراعا شرعيا في عرف المتصارعين، وغالبا ما يحضر التبرير داخل أي صراع! إن هذه المصارحة في فقه التاريخ وفلسفته لمهمة لأي داعية وإصلاحي، يبتغي تغيييرا حقيقيا في أي مجتمع.

وفي هذا السياق يؤكد العودة على فكرة، غاية في العمق، وهي أن السياسة ليست كل شئ، وأن هناك قوى ضغط عديدة غير السياسة يمكن للمجتمع الإسلامي طلبها، من قبيل الاقتصاد والإعلام والتعليم والمجتمع المدني، وتخلف الأمة ليس واقفا عند الساسة والسياسة فقط ولكنه يشمل مختلف هذه الجوانب ونهوضها من الضروري أن يشملها كذلك، يقول الشيخ سلمان العودة في هذا المقال الإصلاحي العميق: “العاقل يدرك اليوم أن الاقتصاد يمثل قوة ضغط لا يستهان بها، وقُل مثل ذلك في الإعلام، أو في التعليم، أو في مؤسسات المجتمع المدني، ومعاناة الأمة ليست في ساستها فحسب، بل في أنماط تفكيرها، ومسالك عيشها بما يتوجب معه اعتماد نظرة أوسع أفقاً، وأبعد عن المصادرة والأحادية والإقصاء والتصارع على السلطة، وأكثر هدوءاً وإدراكاً لإمكانيات الإصلاح والتغيير، أسلوب المغالبة السياسية ضَيّقَ على كثير من المناشط, وحرمها من حقها المشروع في الحياة والمشاركة”.

وهكذا يخلص الشيخ العودة ونخلص معه إلى أن “الإسلام أكبر من الحركات وأبقى، والحركات هي محاولة بشرية يعتريها الخطأ, وتفتقر إلى التصحيح والاستدراك الدائم, ومحاربة روح التعصب والإصرار والإمعان، وقبول المراجعة، وتعاهد الناس بالتفريق بين التدين بالإسلام الذي هو حق الله على عباده؛ كما في محكمات الكتاب والسنة، وبين رؤية ظرفية اجتهادية, قد يحتشد حولها جمع من الناس فيصيبون ويخطئون”. وبذا ينفض الشيخ العودة عن رؤى الحركات الإسلامية التي غدت قوانين هالة القداسة التي يلفها مؤسسوها وأتباعها حولها فهي ليست اكثر من رؤية ظرفية اجتهادية قد يحتشد حولها جمع من الناس فيصيبون ويخطئون.

وليس في هذا استصغارا للإسلام بل ترفعا عن صراع الحكومات، عن قيامها وعن سقوطها، عن عدلها وعن جورها، فالإسلام- كما يقول سلمان العودة- أكبر من الدول والحكومات و المؤسسات، وكل أوعيته تذهب وتجيء ويبقى الإسلام.

عن موقع ميدل ايست اونلاين

22غشت 2013

 

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…