لمياء السويلم

كاتبة وناقدة اجتماعية سعودية

الأحد, 18 أغسطس, 2013

يجوز لكل عربي أن يصدق مع نفسه في الاعتراف بأنه في لحظة ما من عمره مضت أو ستأتي كان قد وجد سببًا مستحقًّا لسفك الدم، ويجوز لنا جميعًا في كل المجتمعات العربية المختلفة أن نعترف أننا نحن من أرخص الدم في حياتنا، وجعل من موت الإنسان في أوطاننا أقل قيمة من موت الإنسان في الأرض الأوربية أو الأمريكية، لكن الذي لا يجوز هو أن نستمر في الكذب على أنفسنا بأن هؤلاء الكولنياليين الغربيين “الصهاينة والصليبيين” هم من استرخص الدم العربي، وأباح سفكه.

الدم الذي سال في فض اعتصام رابعة العدوية ليس هو الأول، فالأزمة ليست في فاشية العسكر اليوم، ولا في دوغمائية الإخوان في الأمس، الأزمة في الثقافة الإسلامية العربية التي تبيح سفك الدم حسب المناسبات والمواسم الوطنية والدينية، الأزمة في هذه الثقافة التي أباحت قبل عامين موت المصريين باسم الحرية، وأرادت أن تحرم موتهم اليوم باسم الشرعية، لكن الدم الذي يباح بأي اسم مهما كان حرية أو كرامة أو مجدًا، لن يجد من يستشعر حرمته بأي اسم مهما كانت قيمته أيضًا.

البكاء على الدم لا يمكن أن يعيد له قدسيته طالما أن هنالك سببًا ما أباحه يومًا، الاحتفال بموت القذافي أو صدام حسين لا يشبه حظر عقوبة الإعدام لأي جريمة في أوروبا، أو الصراع الشديد حول العقوبة في بعض الولايات الأمريكية؛ ذلك لأن الدفاع عن دم الطغاة ليس حرمة لهم بل قدسية للإنسانية العربية التي انتهكت في مشاهد الاحتفال بالدم، منذ أطلقت أول أم فلسطينية زغردتها على ابنها الشهيد، ولم تتوقف عندما احتفلنا مع مشاهد التعذيب للطاغية.

يحتاج الإنسان العربي أن يقنع ذاته أنه في قرارة نفسه لا يحرم الدم، فلن ينفع كل التباكي الذي يطلقه عندما يحاصر حزبه أو أهله ويتساقطون في سبيل معتقدهم، للإنسان العربي أن يتصالح مع السفاح الذي خُلق داخله دون إرادته، لكنه يكبر ويتوحش بإرادته

الثقافة التي تحمل في جوهرها قيمة للموت، وتصبغ عليه معاني الشهادة والجهاد المقدس، لن تملك يومًا أن تحصن الدماء مهما كانت براءتها، والأطفال الذي سقطوا في العراق تحت قصف القوات الأمريكية ولم تنتفض لهم أجندة العالم، كانوا قد سقطوا قبلها من أجنداتنا ومن قلوبنا وعقولنا عندما ماتوا جوعًا وفقرًا، وتركناهم تحت الضرب في البيوت والمدارس لتقويم تربيتهم، والإنسان العربي الذي يتربى في حارته على أن الشرف يبدأ من أخته وينتهي على حدود السماء، يتعلم أن الشرف لا يغسله إلا الدم، فكيف يسفك الإنسان دم أخته بيده، ثم يراد له أن ينتفض لدم أنداده في الميدان المدني والحربي!

يحتاج الإنسان العربي أن يقنع ذاته أنه في قرارة نفسه لا يحرم الدم، فلن ينفع كل التباكي الذي يطلقه عندما يحاصر حزبه أو أهله ويتساقطون في سبيل معتقدهم، للإنسان العربي أن يتصالح مع السفاح الذي خُلق داخله دون إرادته، لكنه يكبر ويتوحش بإرادته، له كإنسان أن يبحث عن هذا السفاح، ويعترف بوجوده ليتخلص منه؛ لأن الحياة التي تبكيه على دم حزبه اليوم ستسوِّغ له غدًا التبرير لسفك دم غيره، أو الصمت في أقل تقدير، للإنسان العربي أن يقف لنفسه قبل أن يقف لغيره أمام أي فكرة أو قناعة أو مبدأ يبيح في أي حال وبأي توقيت موت الإنسان، مهما كان عدوًّا طاغيًا قاتلاً، لهذا الإنسان أن يعرف أن عدوه الأول والأخير هو الموت، ولا يتفاوت إلا ماهو أقل منه .

لن تفلح كل المحاولات في تقنين الموت بشهادات سياسية أو دينية معينة؛ لأن دكاكين الشهادة سستنتشر في كل التيارات والأحزاب وسيتم توزيعها بالمجان، لأن الدم العربي منذ ميلاده لم يكن حرامًا .

يجوز للعربي أن يعترف إذًا أنه رخيص قبل أن يصيح في الآخرين إذ تعاملوا معه بالقيمة التي ارتضاها لنفسه، لكن ما يحرم عليه، هو أن يعيد تدوير قيمته الرخيصة في الأجيال القادمة، فالدم الذي أحلّ منذ الغزوة الأولى، وحتى فض الاعتصام، مرورًا بالفتوحات الخارجية أيام الممالك، والانقلابات الداخلية أيام الجمهوريات، هو دمٌ لم يُختلف بعد على إباحته؛ لأن الجميع اختلف فقط في “مقاييس” حرمته.

عن موقع المجلة

20غشت 2013

 

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…