الخطاب الغربي حول الإسلام بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م
عبدالله السيد ولد أباه*

عن مجلة التسامح

19 غشت 2013

لا يزال السؤال مطروحا بعد مرور سنتين على الحدث: هل كان زلزال 11 سبتمبر لحظة تحول وقطيعة في التاريخ وبداية عهد جديد، أم مجرد هزة كبرى لا تأثير لها في العمق والجوهر، حتى ولو فرضت الاهتمام وأثارت الخيال والألباب؟.(1)

قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال المطروح من المنظور الذي يهمنا- أي علاقة الغرب بالإسلام -نذكر بالتمييز الذي يقيمه المؤرخ الفرنسي “فرنند بروديل”، بين التاريخ الحدثي ذي الإيقاع السريع، أي زمن الأحداث اليومية المتتالية، و”التاريخ اللاحدثي”، ذي الإيقاع البطيء، أي زمن البنيات العميقة والتحولات الهيكلية غير الظاهرة.

ويذهب بروديل إلى أن الزمن الحدثي الذي يسميه أيضا “زمن الحروب والمعاهدات” هو الذي استأثر باهتمام المؤرخين رغم أنه نسبي، جزئي ومضلل أحيانا، بوصفه يقف عند التموجات السريعة التي لا يتسنى فهمها وضبطها إلا في سياقها البنيوي الأعمق.(2)

وإذا طبقنا هذا النموذج على أحداث 11سبتمبر2001م، أمكننا التمييز بين الحدث في إيقاعه السريع الذي عدّه جل المحللين-وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي جورج بوش- بداية مرحلة جديدة من تاريخ العالم، وإطار الحدث البنيوي والظرفية التي يتنزل فيها، والنتائج البعيدة التي سيفضي إليها.

وبطبيعة الأمر، فإن التاريخ للحدث في المستوى الثاني يتطلب مرور سنوات عديدة عليه، كما يتطلب تضافر جهود الباحثين في اختصاصات: علوم اجتماعية وعلاقات دولية واقتصاد سياسي.. بيد أن التحليل الحدثي لزلزال 11سبتمبر يقتضي -في الآن ذاته- حدا من التحليل البنيوي، فيما وراء الإيقاع السريع للانفجار، حتى ولو كانت نتائج هذا التحليل نسبية ومحدودة.

من هذا المنظور يمكن تصنيف جلّ النماذج التحليلية التي قُدِّمَتْ في السنتين المنصرمتين في اتجاهين: اتجاه استراتيجي يرصد أثر الحدث على تركيبة العلاقات الدولية، واتجاه ثقافي يقوم على براديغم “الصراع الحضاري”.

 

أولا: النموذج الإستراتيجي:

توزعت التحليلات التي قدمت لتفسير اتجاهات الخارطة الدولية بعد 11سبتمبر 2001م إلى ثلاثة مسالك متباينة:

أولها: ذهبت إلى اعتبار الزلزال الذي هز الولايات المتحدة والعالم معها بداية حقبة جديدة من العلاقات الدولية، سَمتُهاَ الأساسُ تقلُّصُ قوة وهيمنة العملاق الغربي في عالم تزايدت بؤر التوتر فيه، وظهرت تحديات أمنية لا تتوفر للقوة العظمى وسائل فعالة لاحتوائها، ومن ثم فإن أحداث 11سبتمبر من هذا المنظور هي هزيمة لفكرة الهيمنة للسياسات الغربية، وبداية علو صوت الجنوب، ولو بالعنف الأعمى والإرهاب المنفلت من كل قيد.(3)

ثانيها: ذهب إلى أن زلزال 11سبتمبر لم يكن نقمة على السياسات الغربية، بل كان على عكس التصور الأول فرصة طال توقعها للقطب الدولي المهيمن للقضاء على البقية الباقية من نغمة الاحتجاج والاعتراض على الاستفراد بالأوضاع الدولية. ويذهب الشطط ببعضهم إلى اعتبار الأحداث مكيدة مدبرة من الدوائر المخابراتية والآمنية لإعداد الأرضية الملائمة لأحكام الهيمنة الغربية على العالم برمته (باختراع) خطر الإرهاب بديلا عن (مملكة الشر الحمراء) المندثرة.(4)

ثالثها: ذهب إلى أن زلزال 11سبتمبر كشف عن انهيار جوهر المعادلة الاستراتيجية الدولية المبنية على فكرة الدولة القومية المحتكرة للعنف وإبطال مفهوم الحرب التقليدية وعقيدة الردع المرتبطة بها. ومن ثم الحديث عن “الحروب اللامتكافئة”، والنظر إلى الإرهاب ليس كظاهرة عنف عدمية وعمياء، وإنما كمؤشر نوعي على قيام رهان استراتيجي جديد تغيرت فيه أساليب وأدوات المواجهة بقدر ما تغيرت الأطراف المكونة لها.(5)

ومن الواضح أن العالم الإسلامي حاضر بقوة في هذه النماذج الثلاثة: فهو الخطر الاستراتيجي الجديد في معادلة تصدع خط الأحادية الأمريكية (حسب النموذج الثاني)، أو هو اللون العقدي والإطار التنظيمي الحي لظاهرة الإرهاب والعنف الراديكالي (حسب النموذج الثالث). والواقع أن توهم مركزية العمل الإسلامي في الرهان الاستراتيجي سواء في شكل تنظيمات أو قوى إقليمية كما الشأن بالنسبة للعراق سابقا أو إيران وسوريا وربما باكستان حاليا يعكس أزمة عميقة في مستوى الفكر الاستراتيجي الذي أضاع مواجهاته وثوابته النظرية، ولم يتمكن بَعْدُ من بناء البراديغمات الملائمة للوضع الدولي الراهن(6). ولست بحاجة إلى التذكير بضحالة النماذج التي قُدِّمَتْ منذ بداية التسعينيات لاستكناه الرهان الاستراتيجي، وأبرزها كما هو معلوم:

             مقولة نهاية التاريخ، لدى فوكوياما(7)

             مقولة “صراع الحضارات” لدى هنتنغتون(8) التي تجدد لها الاعتبار بعد أحداث 11سبتمبر 2001م.

      مقولة “العصر الوسيط الجديد” التي دافع عنها آلان مينيك(9) ووجدت أصداء واسعة في العديد من الكتابات التي ركزت على أولوية العامل الإثني والعرقي في الصراعات الدولية.

وليس من همنا تقويم هذه الأطروحات السابقة، سواء في شكل التحدي المهزوم (فوكوياما) أو الخصم المنظور (هنتنغتون) أو عامل فتنة وشقاق (آلان مينيك)، إلا أن التحول الأهم الذي حدث بعد 11سبتمبر 2001م، هو تحوله من أحد معايير ومفاتيح الخارطة الجيوسياسية إلى مرتكز ومحور هذه الخارطة، بعد أن وصل أثره إلى قلب المنظومة الدولية سياسياًّ واقتصادياًّ.

وإذا غضضنا الطرف عن الكتابات السجالية الاستفزازية التي تحدثت عن الإسلام بصفته القوة الخارقة المدمرة والشيطانية التي يتعين مواجهتها بالقوة الرادعة (أوريانا فالاشي، دانيال بايبس..)(10). وتركنا جانباً الكتابات السياسية الرائجة والسطحية التي تناولت بالإثارة والغلو بلدانا إسلامية بعينها متهمة إياها بتصدير الإرهاب والتطرف معتبرة بنوع من التأليب العدواني أنها هي الخطر الحقيقي وليس المجموعات الإرهابية الراديكالية (مثل التركيز على بعض الدول دون بعضها الآخر، أو على العرب وليس على المسلمين)(11) أمكننا رصد تحولين أساسيين تتعين الإشارة إليهما.

أول هذين التحولين يتمثل في العقيدة الاستراتيجية للسياسات الغربية الجديدة التي كشف في خطاب الاتحاد في يناير 2002م وتمت صياغتها في دوائر المحافظين الجدد والإنجيليين، وطبقت التطبيق الأول في المعترك العراقي.

وتقوم هذه العقيدة على مفهوم الحرب الاستباقية والإجهاضية التي تلائم حرب الإرهاب التي تم الإعلان عنها غداة زلزال 11سبتمبر، حتى ولو كانت تقضي في العمق على معايير أسهمت السياسات الغربية بقوة في بلورتها ووضع أُطُرِها المؤسسية.(12)

إن ما يهمنا في هذا السياق هو تحول “الخطر الإسلامي” المتصاعد التركيز عليه في دوائر القرار الأمريكية مع ديناميكية الإرهاب إلى هدف محوري في الاستراتيجية الحربية الأمريكية الجديدة.

ويجدر التنبيه هنا إلى حضور العامل الثقافي بقوة في الرؤية الاستراتيجية الأمريكية الجديدة: ضرورة تصدير النموذج الحضاري الغربي ونمط الحياة الأمريكية شرطاً أوْحَدَ ضروريا لحماية مصالح الولايات المتحدة التي تقتضي فرض مسلك الديمقراطية التعددية والليبرالية الاقتصادية والإصلاح الديني والاجتماعي.(13) وذلك هو مضمون العديد من المبادرات التي اقترحتها الإدارة الأمريكية في الآونة الأخيرة على المنطقة العربية.

 أما التحول الثاني فيتعلق ببروز خط تصدع متنام بين المكونات الثلاثة الرئيسية للنظام الدولي (الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا) متمحور حول الملف الإسلامي، وقد تجسد بوضوح خلال حرب العراق الأخيرة التي كشفت عن تباين واضح بين الأطراف المذكورة في إدارة الأزمة الأولى الأساسية من أزمات العالم الإسلامي.

ففي حين تتبنى الدولة الأوروبية منطق الشرعية الدولية بمفهومه الاعتيادي المألوف (احترام سيادة الدول وحصر التدخل العسكري في المظلة الأممية وتقييده بتهديد السلام العالمي) كما تطرح الشراكة المتوسطية إطاراً لعلاقتها بالدائرة العربية الإسلامية- تميل روسيا الغارقة في المستنقع الشيشاني والمقصية من دائرة نفوذها التقليدية في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى إلى تطبيع علاقتها بالمجال الإسلامي لِتتبوَّأ مواقع عجزت عن الوصول إليها خلال الحرب الباردة.

ومن هنا كان موقفها المناهض لحرب العراق، وترشحها للانضمام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، في حين تتأرجح الولايات المتحدة لبناء شراكة جديدة مع البلدان العربية الإسلامية تؤمن في آن واحد ضم هذه البلدان للمواجهة الحاسمة ضد الإرهاب وإصلاح أوضاعها السياسية والاقتصادية والثقافية لاجتثاث جذور الإرهاب ودمجها في المنظومة الدولية.

إن ما نريد أن نبينه فيما وراء هذه الاتجاهات التي أشرنا إليها -هو أن ما كشفت عنه أحداث 11سبتمبر 2001م هو الانفصام القائم بين ثلاث ديناميكيات متجاورة، لكنها متمايزة وأحيانا متصادمة:

ديناميكية التوسع الرأسمالي (في إطار ظاهرة العولمة بمرتكزاتها التقنية) والاقتصادي، وديناميكية التحول السياسي التي تتخذ طابعا إشكاليّاً، ولئن كان السمة الغالبة عليه تبني الشعار الديمقراطي إلا أن رهانه الفعلي خارج الفضاء الغربي هو معادلة التعددية والاستقرار، أي الخط الهش الفاصل بين مطلبي الانفتاح السياسي المفروض وخطر الانزياح نحو الفتنة المعممة والصراعات الأهلية المدمرة، وديناميكية التمايز الثقافي التي أثارت في الفترة الأخيرة اهتمام الباحثين والدارسين بعد ما بدأت تتضح مؤشرات انفجار الهويات الخصوصية، وظهر تلازمها، واتجاه العولمة ذاته.

إن انفصام هذه الديناميكيات الثلاث هو الذي ولَّد الأزمة النظرية التي أشرنا إليها، وقد كان زلزال 11سبتمبر نقطة تحول مهمة، لعل أثرها الأساسي هو تحول النظر من المعطى الجيوسياسي المحض (العلاقات بين القوى الدولية) والمعطى الاقتصادي الذي بدا مهيمنا في العقد الماضي (صراع التحكم في قلب المنظومة الرأسمالية الموحدة) إلى العامل الثقافي والحضاري الذي غدا مسيطرا على الفكر الاستراتيجي السياسي في الآونة الأخيرة.

 

ثالثا: النموذج الثقافي

عندما توقع الكاتب الأمريكي الذائع الصيت هنتنغتون “صدام الحضارات” قبل تسع سنوات لم يكن يقصد –كما كرر عدة مرات مؤخراً- انفجارَ وتجذَّرَ ظاهرة الإرهاب والتطرف التي بلغت أوجها في زلزال 11سبتمبر الذي لا يمكن أن يقرأ بصفته عملا حضاريا من أي وجه. فظاهرة الإرهاب –بالنسبة لهنتنغتون – وإن كانت خلفياتها دينية وثقافية إلا أنها لا تعكس رؤية حضارية، ولا تعبر عن موقف قيمي.

ومع ذلك فإن مقولة “الصدام الحضاري” التي راجت كثيراً على ألسنة السياسيين والإعلاميين قد تحولت بالفعل إلى براديغم شائع للقراءة والتحليل، بل أصبحت كذلك نمطاً من الإطار الإيديولوجي للممارسة والفعل لدى طبقة سياسية كاملة، أصبح بعضها في موقع السلطة والقرار، مما ينذر بمخاطر جمة على سلام العالم واستقراره.

ومن المثير أن مقولة هنتنغتون التي لم تكن تختلف لدى طرحها كما رأينا عن غيرها من نماذج الفكر السياسي التي قدمت في العقد الأخير لتحليل طبيعة النظام الدولي الجديد -قد تحمست لها تيارات مناوئة من حيث الخلفية والمرجعية، من بينها المجموعات الأصولية المتشددة في العالم الإسلامي، والتيار القومي اليهودي المتطرف، والإحيانية الإنجيلية الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية، واليمين الراديكالي في أوروبا.

وما يجمع بين هذه التيارات هو الانغلاق والتعصب، وإذا كانت المجموعات المتطرفة في العالم الإسلامي معروفة بما فيه الكفاية، وقد ارتبطت بظاهرة الإرهاب (الداخلي أساساً)- فإنها لم تنجح في الوصول إلى الحكم إلا في أفغانستان خلال فترة حكم طالبان.

ومع أن آليات منطق الديمقراطية تكيف الخطاب السياسي وتقننه في صيغ مقبولة للجميع إلا أنه من البارز حالياً أن التنظيمات الأصولية المتطرفة قد نجحت بصفة متزايدة في اختراق مراكز القرار مما انعكس بصفة جلية في المواقف والقرارات الأخيرة ذات الصلة بالشرق الأوسط، مما يبين أن ما نشهده راهناً هو صدام أصوليات متناوئة، لا يمكن النظر إليه بوصفه صدام حضارات.

ومع ذلك فإن أغلب التحليلات الغربية (على اختلافها في المسلك والخلفية) قد بادرت مباشرة بعد أحداث 11سبتمبر إلى ربط ضربات نيويورك وواشنطن بخلفية ثقافية إسلامية.

ويكفي الاطلاع على الطبعات الأولى للصحف الغربية الكبرى لتبين. فوزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر كتب في مقالة بصحيفة “الواشنطن بوست” (13/9/2001) يقول: إن الهجمات التي تعرضت لها واشنطن ونيويورك حرب حقيقية منظمة ضد نمط الحياة الأمريكي ونظام الحرية القائم عليه.

وفي حين ذهبت في اليوم نفسه صحيفة “لاربليكا” الإيطالية إلى (أن الغرب كله مهدد عبر رموز الحداثة الأمريكية الأكثر تقدماً) اعتبرت (الاندبندنت البريطانية) أن هذه الهجمات هجوم ضد القيم الحضارية للعالم الغربي” ونعتت صحيفة الباييس الإسبانية التفجيرات بأنها حرب على “جوهر حضارتنا السياسية” ولم تشذ “الازفستيا” الروسية عن هذا المنحى، فاستعادت نظرية “هنتنغتون”، وأفاضت القول بعبارات نابية في “المواجهة التي اندلعت بين الإسلام والمسيحية”.

أما أسبوعية “لكسبريس” الفرنسية فقد خصصت عددها الذي صدر مباشرة بعد الحدث لما أسمته “الحرب العالمية الثالثة” التي قوامها “الصراع المتجذر والعميق بين القيم الإسلامية والنموذج المسيحي الغربي”.

ويمكن أن نقدّم عشرات النماذج من تغطية الصحافة الغربية لزلزال 11سبتمبر في الأشهر الأولى(14) وأغلبها يندرج في السياق ذاته، أي إعطاء ضربة إرهابية لمجموعة ضيقة ومعزولة مضامين حضارية عميقة وتصنيف الحدث العدمي المذكور بصفته صداماً بين نمطي حياة وخلفيتين ثقافيتين.

وإذا تجاوزنا المستويين الأولين: أي السياسي والإعلامي- نلمس أن هذا الوهم لم تسلم منه الشخصيات الفكرية المرموقة وبعض كبار المتخصصين في الدراسات الإسلامية. ويذهل المراقب المطلع لعدد الكتب والمؤلفات التي صدرت بكثافة خلال العامين الأخيرين باللغات الأساسية حول الإسلام والغرب من المنظور الثقافي من وحي زلزال 11سبتمبر.

وإذا تركنا جانباً بعض الكتابات الاستفزازية الفجة التي راجت على نطاق واسع وكثر الحديث حولها مثل كتابات “أوريانا فالاشي” و “ميشيل هولبك” أمكننا تصنيف المؤلفات المذكورة في اتجاهين أساسيين:

      الاتجاه الاستشراقي التقليدي: الذي يبدو أنه عرف انتعاشة جديدة، لسد ثغرة الطلب الواسع حول الإسلام والثقافة الإسلامية التي لا يمكن أن تسدها دراسات الجيل الجديد من المستعربين الذين يركزون أبحاثهم على الموضوعات الاجتماعية أو الجيوسياسية باستخدام مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة (مثل جيل كبيل وبرونو أتيان..).

فالمستشرق القديم المعروف برنارد لويس عاد بقوة إلى الأضواء، وتحول إلى نجم إعلامي كثيف الحضور بعد الأحداث، فأصدر كتاباً بعنوان “كيف حدث الخلل؟” يزعم فيه تقديم الإجابة على إشكال “أزمة الانفصام بين الإسلام والحضارة الحديثة” التي هي –حسب اعتقاده- خلفية “الإرهاب الأصولي” مُرْجِعاً هذه الأزمة إلى عدم نفاذ المشروع النهضوي العربي الإسلامي إلى مشكل العلاقة القائمة بين الدين والدولة، أي بعبارة أخرى عدم استيعاب وتبني الرؤية العلمانية للشأن السياسي(15). وبالإضافة إلى المسألة السياسية كثر الحديث في الأدبيات الاستشراقية الجديدة حول موضوع الجهاد ورؤية الإسلام للآخر بنعتها بالإقصائية والعدوانية، من خلال التأويل المتسرع والزائف للنصوص الإسلامية وإخراجها من سياقاتها، مما ينم عن قصور فادح في التعامل مع هذه النصوص، مما لا يحتاج إلى مزيد بيان(16).

      الاتجاه “النقدي” الذي يصور المواقف ذاتها بمفاهيم واصطلاحات العلوم ونصوصه لتجربة الديانات السماوية الأخرى لتأهيله للحداثة والفطور لكي يندمج المجال الإسلامي مع الحضارة الكونية الجديدة.

ولعل أوضح مثال على هذا الاتجاه هو الكتاب الأخير الذي أصدره محمد أركون وجوزيف مايلا بعنوان “من مانهاتن إلى بغداد”، وقد ذهبا فيه إلى أن عمق أزمة الغرب والإسلام راجع إلى تأخر المسلمين في تطبيق المناهج النقدية من انثربولوجيا واللسانيات وعلوم إنسانية على النصوص الدينية، مما يرجعانه إلى طغيان النزعات النضالية، التي واكبت حركات التحرر في سعيها لمحاربة الغزو الثقافي الغربي بصفته خطراً على الهوية والذات، وقد اعتمدت الدول المستقلة خطاباً ثيولوجيًّا مغلقاً يوظف الرأسمال الديني في الرهانات المجتمعية والسياسية، وكانت ردة فعل التيارات الاجتماعية من الموقع نفسه، وبالآليات ذاتها، في حين كان المطلوب هو اعتماد شبكات التأويل التي أبدعها الفكر اليهودي والمسيحي في قراءة ونقد التراث.(17)

وفي الأفق نفسه يذهب المفكر الفرنسي المعروف جان دانيال في مقالة صدرت بعد الحدث في مجلة لـ”نوفي أوبسرفاتور” إلى أن التحدّي المطروح اليوم على الفكر الإسلامي يتمثل في القدرة على خلخلة ومراجعة المرجعية النصية، لإدماج المقومين الفكريين الأساسيين للحداثة وهما: تعويض “الحق المقدس” بسيادة الفرد الحر مما يفسح المجال أمام قيم الديمقراطية التعددية الحقيقية ولتجسيد المفهوم الفعلي للمواطنة والمساواة، واستيعاب الآثار الاجتماعية للحضارة الصناعية من انهيار القِيم العائلية الأبوية، وتحرر المرأة، وانتشار ثقافة الاستهلاك، والانفصال عن أَسْرِ التقليد والعادات، وبالتالي تجذير حرية الفرد(18)

ولهذا الرأي يميل مفكرون بارزون آخرون من بينهم بعض أخصائيين في الإسلام السياسي مثل جيل كيبل وأولفييه روا وماكسيم رودنسون.. وكلهم يركز على هذا البعد التأويلي وأهميته في تحقيق المصالحة بين الإسلام والحضارة الحديثة.

وليس همنا معالجة هذا الإشكال العصي الذي يبدو أنه موضوع نقاش واسع في الدوائر الإسلامية نفسها، ولكن حسبنا الإشارة إلى أن هذه المقاربة تطرح أسئلة نظرية وإجرائية عديدة لا نجد لها ذكراً في الكتابات المذكورة التي سلكت في الغالب المسلك التبشيري الدعائي.

ومن هذه الإشكالات: هل المسلك التحديثي واحد ومتماثل بالنسبة لكل السياقات الثقافية والمجتمعية؟ وما مدى القدرة على امتطائه فيما وراء التمايزات التاريخية (التحديث عصور ما بعد الحداثة).

ومن ثم فإن القيم الكونية التي تُطْرَحُ بديلا عن التميز الثقافي تحتاج إلى تعريف وتحديد: هل تكتسي مشروعيتها من واقع هيمنة وسيطرة الثقافة الغربية؟ أو من مقاييس ذاتية تتطلب البلورة عقديا ومعياريا؟.

أي بعبارة أخرى، في الحوار الدائر حول الإسلام يظل الإشكال المستعصي يتحدد في العقدة غير المحسوسة بين حق الاختلاف الحضاري الذي يبرر مقولة الحوار والتعايش وإمكانات التواصل داخل حضارة كلية لا يشارك في صياغتها أغلب سكان المعمورة الذين ينتمون لثقافات مغايرة ومختلفة.

**********************

المراجــع

 

*) أستاذ الدراسات الفلسفية بجامعة نواكشط، موريتانيا، ويعمل الآن بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس.

1) راجع مثلا:

             Olivier Roy: les llusions du 11 september: le Debat Strategique face au terrorisme seuil, Paris 2002

             Pascal Boniface: le onze septembre PUF 2002.

2) راجع مثلا:

             Fernand Braudel Ecrits Sur Phistoire Flammarion Paris 1969.

 

3) من أهم من نحى هذا المنحى أمانيال تود في كتابه المهم

             apres l’Empire: Essai sur la decomposition du systeme americain Gallimard. Paris 2002.

 

4) شاع كثيرا في هذا المنظور كتاب تيري ميسان غير المقنع

Thierry Meyssan: 11 September 2001: I’Effroyable imposture, Editicons Carnot 2002.

5) راجع مثلا كتاب بونيفاس السابق ذكره.

6) راجع مثلا الموضوع:

             Zaki Laidi: Un monde Priv’e de sens Hachette. Paris 2001.

7) انظر:

             F. Fukuyama: The end of history and last man the free presse 1992

8) The clash of civ lization and Remaking of world order Simon and Schuster 1996.

9) انظر:

             Alain Minc: le nouveau Moyen age Gallimard.

10) انظر:

             Oriana Fallaci: Larage et l’orgueil, Plon Paris 2002.

             Alexandre Del Valle: le Totalitarisme Islalmiste face a la democratie, Editions de Syrtes 2002.

وقد عالج هذه الكتابات مؤخرا فنساال غيسر في عمل مهم:

             Vincent Geisser: La nouvelle Islamophobie la Decouverte 2003

11) راجع مثلا:

             Antoine Basbous l’Arabie Saoudite en questions.

             Bernard Hernri Levy: qui atue Daniel Pearl? 2003.

12) راجع حول مفهوم “الحرب الاستباقية”

             Lawrance F.Kaplin and William Kristol: The War over Iraq: Saddam’s tyranny and Americ’s mission encounter Books 2003.

13) حول الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة راجع:

             Michel Scolt Domn: Palestine, Iraq, and america for strategy foreign Affairs 2003.

14) جمع مركز طارق بن زياد في الرباط الكثير من هذه المقالات في التحليلات في عمل مهم صادر عنه.

15) انظر:

             Bernard lewis: The crisis of Islam random house 2003.

             What went wrong? Western reponse Oxford University Press 2002.

16) من نماذج هذه القراءة للإسلام بصفته دين حنف مستمر:

             Alfred- Louis de Premare: Les Fondations de l’Islam Seuil Paris 2002.

17) انظر:

             Mohamed Arkoun, Joseph Maila: De Manbattan a Bagdad. Au dela du bien et du mal. Desclee de Brouwer.

18) راجع مثلا: La Nouval Observateur 4/10/2001.

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…