تؤكد الأحداث الأخيرة في بلدان الربيع العربي، أننا ربما نكون قد بدأنا في وأد المولود الجديد الذي انتظرناه بفارغ الصبر، والذي كلّف حمله وولادته كمّا هائلا من الآلام لشعوبنا.
مع مرور كل يوم، يتزايد الخوف أن يفقد جزء متعاظم من الطرف الإسلامي الثقة في صدق الديمقراطية، وأن يفقد الطرف العلماني كل مصداقية في الدفاع عنها.
ما حظوظ مشروع لم يعد البعض يؤمن به ولم يعد البعض الآخر يؤتمن عليه؟
يومَ يكتب المؤرخون تاريخ دمقرطة الأمة -الناجحة أو الفاشلة حسب ما ستفضي إليه التجربة التي نعيش- بما فيه ظروف وأسباب دمقرطة جزء من التيار الإسلامي، قد يتمّ التركيز على دور منظمات حقوق الإنسان إبان ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، في تسويق “البضاعة” الديمقراطية لضحايا قمع دافعت عنهم رغم اختلاف المرجعية، فأدخلت القيم الجديدة للقلوب والعقول.
ربما سيركّز البعض منهم على الدور التربوي للهجرة إلى البلدان الديمقراطية التي احتضنت الإسلاميين المضطهدين، وحسّستهم بعظمة نظام سياسي معروف سطحيا.
منهم من سينتبه لدور بعض المفكرين الذين حاولوا في الجانبين، تجسير الهوة بين الفكر الإسلامي والفكر الديمقراطي -ومن بينهم كاتب هذه السطور- باحثين عن نقاط الالتقاء بدل تعميق نقاط الاختلاف.
ثمة من سيركّزون على دور القمع في تقريب ضحايا الجانبين.
المهمّ أنهم سيتفقون على أهمية ظاهرة، هي أن جزءا من الطيف الإسلامي تحوّل إلى الديمقراطية، في حين بقي الجزء الذي نسميه السلفية، على نفس الفكر التقليدي.
هناك من سيدرسون كيف أن الديمقراطية وصلت أبعد من ذلك، حيث تمكنت من شقّ صف السلفية نفسها بعزل تيارها المسلّح المتسبب في العنف وإخافة النخب الحداثية داخل الحدود، وفي الإسلاموفوبيا والمواجهة مع الغرب خارجها.
ما يجري حاليا هو تدمير لأكثر من ثلاثة عقود من العمل الفكري والسياسي الجبار، ودعم مفاجئ للتيار المتشدّد الرافض للديمقراطية منذ البداية، والذي يستطيع اليوم أن يضحك بشماتة من الإسلاميين الذين انخرطوا في المشروع الديمقراطي ولسان حاله يقول: ألم نقل لكم إنه طريق لا يؤدي إلا لخسارة الدين والدنيا!
هذا الاختلال في موازين القوى لصالح المتشددين، هو اليوم -لبالغ الأسف- مسؤولية جزء من الديمقراطيين، وسأسميهم بالغاضبين.
حقا، حفيظتهم على أداء الإسلاميين في الحكم أكثر من مشروعة. لا شك في نزعة التغوّل التي أظهرها البعض منهم، عندما مسكوا الدولة. لا جدال في أن آخرين من بينهم، تصوروا أن مهمة الشركاء العلمانيين إعطاء بعض الغطاء الحداثي، أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، لسلطة رسالتها أسلمة الدولة والمجتمع. بديهي كذلك أن فعاليتهم في إدارة شؤون الناس لم تكن مذهلة. لكن ماذا يساوي كل هذا مقارنة بالمكسب الرئيسي لدخول جزء كبير من الإسلاميين في الديمقراطية؟
ثم هل من المقبول أن تؤدي هذه الحفيظة، على شرعيتها، للتحالف مع الثورة المضادة، وهي مكوّنة أساسا من ألدّ أعداء الديمقراطية الذين ساموا خسفا لا الإسلاميين فحسب وإنما الديمقراطيين العلمانيين أنفسهم، ومن المؤكّد أنهم لو عادوا للسلطة لعجّلوا بحلفاء عابرين، أعماهم غضب مفهوم عن تحالف بلا أفق سوى خسارة كل شيء، وأساسا الشرف؟
لنتوقف لحظة عند سيناريو نجاح الثورة المضادة، بفضل حلف غير طبيعي بين هؤلاء وفلول الاستبداد.
أي نظام سينتج عنه سيجد نفسه في وضع المحاصَر بعد أن كان في وضع المحاصِر. إنه سيكون بحاجة إلى أقصى قدر من العنف لفرض سطوته. الشيء الذي سيؤدّي بالطبع إلى ظهور عنف مضادّ ستتزعّمه وتقوده الجماعات الإسلامية المتطرفة. كل هذا سيقودنا إلى اشتعال حرب مدمّرة ستأتي على حظوظ الفقراء للخروج من فقرهم، إذ لا أحد يتصوّر نهضة اقتصادية واجتماعية في جوّ كهذا.
بديهي أيضا أن نفس الأسباب تؤدي لنفس النتائج، وأن عودة شكل أو آخر من النظام القديم سيعني لا فقط عودة القمع وإنما مزيدا من الفساد والتزييف والظلم، مما سيؤدي إلى قيام ثورة ثانية لن تكون لا سلمية ولا ديمقراطية، متعللة بما حدث للثورة الأولى عندما نظّر الثوريون المسالمون من أمثالي للعدالة الانتقالية وليس الانتقامية، للتدرّج في الإصلاح وحتى لإفساح مكان لرجالات العهد البائد بحثا عن الوحدة الوطنية. (ومع هذا لم يتورّع البعض عن الادعاء بأنني ناديت بنصب المشانق والحال أنني قلت العكس تماما).
قناعتي كانت وستبقى أنه يجب التشبث بالديمقراطية أكثر من أي وقت مضى والعودة إليها حالا، وإلا فإنه الجحيم… جحيم بدأت تتصاعد بعض حرائقه وتتكدّس مئات من قتلاه وآلاف من جرحاه منذرة بأن ما قد يحدث أعظم.. جحيم لن يفلت من لهيبه أحد.
لنتذكّر أنّ الديمقراطية هي أحسن ما اكتشفت البشرية لحدّ الآن لنقْل الحرب الأهلية من مصاف الفعل إلى مصاف الرمز. فعوض أن نتصارع باللكمات نتصارع بالكلمات، عوض أن نتقاتل في ساحة معركة تسفك فيها الدماء نتقاتل رمزيا في ساحة اسمها الانتخابات؛ والأمر كتواجه جيشين متأهبين للفتك أحدهما بالآخر، ثم خروج حكم يحصي عدد المسلحين من كل جيش ويعلن انتصار من حشد أكبر عدد من الرجال، فينصرف الجيش المهزوم ويتمكن الجيش المنتصر من السلطة، وكل ما سال هو العرق واللعاب، ولا قطرة دم واحدة أهزقت.
هذه الحرب الرمزية التي نصرّف فيها عنفنا الغريزي، هي التي ستُترك جانبا إذا أوقفت العملية الديمقراطية الجارية حاليا في بلدان الربيع العربي، لنعود إلى الحرب الدموية التي ستكلف كل الأطراف المتصارعة دون استثناء، ثمنا لا يقدرونه الآن وهم في نشوة الصراع وتوهّم النصر السريع على الآخر.
خلافا لما يقوله المثل الفرنسي، الشيطان لا يكمن في التفاصيل وإنما في غموض العقود التي تربط بيننا ومن ثم النزاع الدائم حول ما تعاقدنا عليه. لذلك علينا العودة لجذور الخلاف حتى يسعنا إعادة كتابة العقود التي ستمكننا من إعادة وضع القطار على السكة أين خرج منها ومنعه من مغادرتها أين لا يزال يسير ببطء لكثرة العراقيل الموضوعة قصدا في وجهه.
من تجربتي التي تراكمت خلال ربع القرن الأخير، في محاولة التوفيق بين الطرفين المتنازعين، أنهما يتشاركان في قناعتين خاطئتين وخطيرتين تحركان -بوعي ودون وعي- التصرفات التي يشتكي منها كل طرف ويعاني منها الجميع.
القناعة الأولى هي أن هناك شكلا “نموذجيا” أو طبيعيا للمجتمع. والقناعة الثانية هي أنه يجب التمكن من الدولة للمسارعة بتحقيقه.
اعتبر الغلاة أن “الدين أفيون الشعوب” وأن المجتمع “النموذجي” هو ذلك المحرَّر من الدين. فهُدمت الكنائس وامتلأت المحتشدات بالرهبان، لينتهي الوضع بعد عقود إلى رحيل “المنقذين من الضلالة” وعودة الروس لأرثوذكسيتهم، وشعوب آسيا الوسطى لإسلامها، والبولونيين لكاثوليكيتهم. اعتبر البعض الآخر أن المجتمع “النموذجي” هو الذي يُطهّر من “الغزو الثقافي” فوقفوا عاجزين أمام تأصل حداثة تدخلهم من ألف باب وباب.
ما لم يفهمه كل منهم هو أن المجتمعات كائنات تاريخية تتطور عبر الزمان بالتواصل لكن ببطء وحذر حتى لا تنفجر، وبالتغيير لكن ببطء وحذر حتى لا تتحجّر… أنها تتواصل بالتمسك بمعتقداتها وتتغير بالتقليد وبالتبادل مع الآخرين.
ثمة أيضا وربما أساسا التعددية الاجتماعية. هنا يبدو أن من يملكون لم يستبطنوا لحدّ الآن أن أمنهم يمرّ بقبول الحدّ الأدنى من العدالة الجهوية والاجتماعية، وإلا فإنها ثورة وراء ثورة وراء ثورة.
التعددية إذن هي وضع قارّ، وكل محاولة لإنكارها بحجة الإجماع عبث لا يفرض إلا مرحليا وبقدر كبير من العنف، غالبا ما يرتدّ على أصحابه ممن لا يقرؤون التاريخ.
الخطأ الثاني الذي ينجرّ عن الأول هو إيمان بعضهم أن الدولة هي الأداة التي تمكّن من فرض النموذج الخيالي الذي يؤمنون به، أو الحفاظ إلى الأبد وبالقوة على الظلم الطبقي والجهوي.
هذا الخطأ لا يبنى على جهل كبير بطبيعة المجتمعات فحسب، وإنما على جهل أكبر بدور الدولة. فهذه الأخيرة منذ انطلاقها مؤسسة خلقها المجتمع لتخدمه لا لتفرض عليه كيف يتنظم وكيف يتطور، أو لتحمي كبار اللصوص من ضحايا أضخم السرقات. أولى الخدمات تاريخيا هي الحماية من الخطر الخارجي وثانيها إحلال النظام في الداخل. بتعقيد المجتمعات طُولبت الدولة بفرض الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية وتوفير خدمات أوسع مثل التقاضي والتعليم والصحة والعمل. في مرحلة لاحقة طولبت بتنظيم الخدمات التي يوفرها القطاع الخاص والمجتمع المدني.
إن حفيظة جزء من المجتمع على طريقة حكم الإسلاميين هي نتيجة ملاحظتهم أنهم يحاولون القيام بوظيفة ليست وظيفتهم ألا وهي أسلمة المجتمع والدولة، في الوقت الذي لا يؤدون فيه بالكفاءة المطلوبة الوظيفة التي أحدِثت من أجلها الدولة، أي تنظيف الشوارع وإحلال الأمن وتطوير الاقتصاد وحماية الحريات وتوزيع ثمرة العمل الجماعي بكيفية عادلة.
المشكلة هي أن هذا الجزء من المجتمع نَسي بسرعة أن الشق العلماني لما كان في السلطة، لم يتصرف إلا بنفس الكيفية وجزء من همّه محاربة الخِمار والنقاب، وأنه لو أظهر المطلوب من الكفاءة في تسيير الشأن العام لما انفجر بركان الثورة.
عودة العقل تمرّ بإعادة العقلاء كتابة العقود المنظمة للتعايش السلمي بين مكوّني المجتمع، وتبادل الضمانات والتطمينات، وذلك في ثلاثة مواضيع مفصلية:
1- المجتمع: أن تقول إن سمته القارة هي التعددية، كلام نظري قد لا يناقشك فيه الكثيرون، وهم لا يرون تبعاته العملية. أن تقول للإسلاميين إذا جئتم للحكم بِنِية تجاهل نصف المجتمع وفرض قيمكم، فمآلكم أن يحاصركم هذا النصف وأن يُفشل كل خططكم تاركا لكم الخيار بين الرحيل واستخدام أقصى أساليب العنف، وهو الخسران المبين في الحالتين. إنه خطاب يفهمه حتى أكثرهم تشدّدا وكل الأحداث تؤيد كلامك.
نفس الفهم هو الذي سيدخل عقول أكثر الحداثيين تشددا إن قلت لهم -وكل الأحداث تؤيد كلامك- إن استوليتم على السلطة مجددا بالعنف أو بالانتخابات، فإن النصف المهزوم سيحاصركم من جديد وسيحاربكم بما حاربتموه به، من إعلام الفتنة إلى استغلال كل هفوة، مرورا بالاتهام بالفشل والحكومة لم تبدأ مهامها. آنذاك لن يكون أمامكم إلا الرحيل أو استعمال أقصى وسائل العنف، وهو الخسران المبين في كلتا الحالتين.
الاستنتاج السياسي هو ضرورة تأسيس العقود الجديدة على اقتناع صادق ومتجدّد بعبثية الوصاية والإقصاء، وبضرورة التعاطي الجدي مع التعددية الهيكلية الأيديولوجية والاجتماعية، بالتنظيم الوحيد القادر على تسييرها سلميا.
2- الديمقراطية: أن تقول هي قيم وأخلاق ومؤسسات هدفها استبدال العنف الجسدي بالعنف الرمزي، كلام قد يقنع المفكرين، لكن على الصعيد السياسي يجب أن توضّح العقود الجديدة:
أ- أن الديمقراطية ليست دكتاتورية الأغلبية؛ فالمجتمعات التعددية الملتهبة في المراحل الانتقالية لا تحكم بـ51% من المصوتين حتى في انتخابات نزيهة مع تجاهل الـ49%. لا بدّ إذن أن تعتبر الأغلبية الفائزة في الانتخابات حق المعارضة في تسيير شؤون البلاد، في إطار أوسع حكومة ائتلافية ممكنة وفق منظومة تجعل الشرعية التوافقية استكمالا -لا بديلا- للشرعية الانتخابية.
هذه الحكومة الائتلافية هي الحل للعقد المقبل حتى تترسخ الديمقراطية، ومهمتها الأساسية طمأنة طرف على أن الدين لن يُهمّش، والطرف الآخر على أنه لن يُستغل، وأن المواطنة ستُحفظ للجميع.
ب- أنها ليست دكتاتورية الأقلية التي تستطيع إلغاء الشرعية الانتخابية كما تشاء برفض حق الأغلبية الفائزة في ممارسة السلطة إلى أن يحل وقت الاستحقاق الانتخابي الموالي، أو وضع كل العراقيل في وجهها، فالديمقراطية ليست انتقائية، نأخذ منها ما يروق لنا ونترك ما لا نريد، نغيّر قواعد اللعبة خلال المباراة إذا لم تكن النتيجة في صالحنا.
3- الدولة: أن تقول إن على الدولة أن تكون محايدة أيديولوجيا، كلام مردود عليك من قِبل من يرون فيه سذاجة، والدولة منذ القدم أداة في يد مجموعة تحاول بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة قولبة المجتمع بالكيفية التي تخدم مبادئها الأيديولوجية ومصالحها الاقتصادية. موقف فُرض باستمرار بالقوة والمكر لكننا نرى نتائجه الكارثية والدولة في حرب مستمرة مع نصف المجتمع من جهة، وتعاني من جهة أخرى من أداء كارثي على مستوى الخدمات.
إذا أردنا الخروج إلى الآفاق الرحبة للسلام والتنمية فلا بدّ أن تؤكّد العقود الجديدة على خيارين إستراتيجيين نلتزم بهما جميعا.
أ- دور الدولة هو ضمان حق الطرفين المكونين للمجتمع في العيش بأمان. مما يعني أن مهمتها الأساسية هي حماية الحقوق والحريات الفردية والجماعية، أي حماية حق المنقبة والمحجبة في الدراسة، والعمل بنفس الكيفية التي تحفظ فيها حق المفطر في رمضان. إنها الدولة المدنية التي لا تفرض نمط عيش أيا كان على مجتمع بأكمله، وإنما تحمي كل الأنماط التي يفرزها مجتمع معقّد ومتحرّك… الدولة الذكية التي لا تتدخل في حركية مجتمع ذكي يبحث باستمرار عن توازنات دقيقة تلبي حاجته للتواصل والتطور، يكون التدخل الفوقي فيها بمثابة التدخّل بالمطرقة في عمل ساعة من أدقّ وأثمن الساعات.
ب- دور الدولة هو تقديم أحسن الخدمات الممكنة لتحسين مستوى معيشة الجميع. إن من أعمتهم صراعاتهم الأيديولوجية، لا يَعون بأن قرف جزء كبير من الشعب بكل مكوناته، ناجم عن الشعور بأن الطبقة السياسية لا تلتفت لحاجياته. وتلك الحاجيات متعلقة كلها بمطلب فعالية وجودة الخدمات الاقتصادية والأمنية والصحية والتعليمية إلخ. ما تجهله أو تتجاهله هذه الطبقة السياسية الغارقة في خصومات ثانوية، أن تغيير المناخ والأزمة الاقتصادية العالمية وضعف مؤسساتنا الاقتصادية وانهيار قيمة العمل وتصاعد المطلبية، عوامل قد تؤدي بنا إلى وضع يصبح فيه الجوع والعطش والعنف الأهلي المدمّر، من العلامات القارة في مجتمعات فاشلة تسوسها دول فاشلة.
للخروج من هذا النفق المظلم لا حلّ سوى إعطاء الدولة كل إمكانيات القيام بوظيفتها الطبيعية، وهذا يمرّ بالانتهاء من دولة الحزب التي ساستنا نصف قرن وشعارها الولاء قبل الكفاءة، للمرور إلى دولة المجتمع وشعارها الكفاءة قبل الولاء. كيف؟ بالاتفاق على أن كل مفاصل الدولة الهامة -التي يجب أن نضع لها قائمة مفصلة- من ولاة (محافظين) ومديرين عامين في الوزارات ورؤساء الشركات العمومية وموظفين سامين، تخضع لمبدأ الكفاءة قبل الولاء.
الترجمة للمبدأ هو أن تخضع هذه المناصب لمناظرات كالتي تنتدب بها أرقى الجامعات أفضل الأساتذة والباحثين، وأن يتم تعيينهم على أساس ملفاتهم المهنية من قِبل لجان برلمانية مختصة، تمثل فيها بالتعادل السلطة والمعارضة وأهل الذكر. طبيعي أن يطلب من كل الناجحين الالتزام بالدستور وتطبيق القوانين وتنفيذ سياسة الحكومة المنتخبة ديمقراطيا، لكن التقييم بتبعاته من ترقية وفصل يجب أن يكون من اختصاص مثل هذه اللجان.
مثل هذا الإجراء الذي يجب أن تبادر به أي حكومة وحدة وطنية، لا يكفل عودة الروح والفعالية لأجهزة دولة نخرت فيها المحسوبية والرداءة فحسب، وإنما هي رسالة طمأنة للمجتمع ستساهم كثيرا في تنقية المناخ السياسي.
إذا تمكنّا من بناء دولة مدنية تحمي نمط عيش كل أطفال الوطن الواحد وتحسّن مستوى عيش الجميع فستكون أكبر أداة للسلم الاجتماعي. أما إذا بقيت على حالها تباعا بين يدي هذا ثم ذاك، فلن تكون إلا أداة مشروخة لحرب أهلية باردة أو ساخنة لا تضع أوزارها أبدا.
أخيرا وليس آخرا يجب أن نقبل أننا نمرّ بمرحلة انتقالية صعبة كالتي تلت الاستقلال وبناء الدولة الوطنية في الخمسينيات. آنذاك كانت لنا صراعات لا تقل حدة عن التي نشهدها اليوم، لكنها انتهت بخيارات وتشكيلات سياسية عرجاء تواصلت نصف قرن في صراع أنهك المجتمع وبدّد طاقاته، وأدت في آخر المطاف للثورة وللحرب الأهلية في أكثر من قطر عربي. إذا أردنا ألا نكرّر نفس السيناريو فيجب أن تتمخّض هذه الفترة التي تشهد تدمير القديم وولادة الجديد، عن خيارات وتشكيلات سياسية قابلة للاستقرار، تمكننا من مواجهة التحديات الهائلة التي تترصدنا بصمت، ونحن لا نستمع إلا لصراخ آلام معارك عبثية.
|الجزيرة نت|
ماخوذ عن موقع البشير /السبت 10 شوال 1434الموافق 17 أغسطس 2013