في الحاجة إلى تقوية القطب الاشتراكي الديمقراطي بالمغرب
الحسين بوخرطة
في البداية نقول أن ما يبرر الحاجة إلى تقوية الصف الاشتراكي الديمقراطي بالمغرب هو كون الورش السياسي لبناء الدولة الديمقراطية الحداثية لا زال لم ينته بعد، وكون المرحلة ما بعد انتهاءه تتطلب توفر البلاد على قطبين سياسيين متقابلين إيديولوجيا الأول يميني والثاني يساري حداثي تقدمي. هذا الهدف كان دائما هو القاسم المشترك لكل الوطنيين والمناضلين، وكان هو الدافع الأساسي لاتخاذ قرار تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وهذا الإجماع المبكر لرواد الحركة الوطنية بشأن هذا الهدف السامي برمزيته السياسية الكبيرة، هو الذي مكن الأحزاب السياسية الوطنية من المقاومة والاستمرار في النضال لعشرات السنين في إطار إستراتيجية النضال الديمقراطي، والتي توجت بالانفتاح السياسي في بداية التسعينات ومشاركة المعارضة في الحكم سنة 1998.
وفي هذا الشأن، لا يمكن لأحد أن ينكر ما حققته حكومة التناوب التوافقي من مكتسبات. بالفعل، حكومة عبد الرحمان اليوسفي مكنت البلاد من الدخول إلى مرحلة جديدة في تاريخ المغرب المعاصر سماها الجميع مرحلة الانتقال الديمقراطي (حصيلة هذه الحكومة، والحمولة السياسية لمداخلة اليوسفي في بروكسيل، شكلا حدثين تاريخيين بارزين ووازنين وأرضية للعمل السياسي المستقبلي). إنها مكاسب بمثابة منطلق أساسي يجب التفكير فيه مليا وتحويله اليوم إلى منعطف محوري لخلق التحولات السياسية الضرورية التي ستمكن البلاد من جمع قواها الحية لمواجهة تحديات المستقبل. إنه منطلق يجب أن يدفع كل القوى الاشتراكية الديمقراطية لتجديد العزائم وبذل الجهود من أجل خلق التوازنات السياسية الضرورية لترسيخ التناوب السياسي الحقيقي في البلاد. إنها الحاجة إلى التفكير العميق في بلورة أرضية نضالية مشتركة بأسس جديدة تربط الماضي السياسي بالحاضر وتستشرف المستقبل برهاناته وتحدياته.
ونحن نعيش التحولات السياسية والمجتمعية الكبرى على المستويين الوطني والدولي، لا يمكن للمناضل الاشتراكي الديمقراطي إلا أن يستحضر الماضي بمعاركه وما انطوى عليه من مظاهر النصر والفشل. إن استحضار دروس الماضي بوعي شديد لمتطلبات اللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم سيكون بلا شك الضامن الأساسي لتجديد الإرادات وتقويتها من أجل بلورة برنامج عمل مشترك يرسم معالم المستقبل بتعقيداته وتحدياته ومعاركه النضالية. لقد قدم المغاربة التضحيات الجسام من أجل الاستقلال وناضلت الجماهير الشعبية بكل ما لديها من قوة من أجل تحقيق حلم بناء الدولة الديمقراطية الحداثية، والتي نعيش اليوم ملامحها الأولى.
وأمام هذا التاريخ الزاخر بالأحداث الهامة والنضالات السياسية المستمرة، يبقى التوجه إلى المستقبل مرهونا إلى حد بعيد بقدرة اليسار الديمقراطي على تجميع قواه وتمكين الأجيال الصاعدة من حق التعرف على المعنى الحقيقي للاستقلال والنضال من أجل بناء المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، وأن تكون على علم بالحصيلة النضالية في مجملها بإيجابياتها وسلبياتها وتضحياتها ومآسيها وإخفاقاتها، وكذا بالأسباب العميقة التي كانت وراء نشوب المعارك المريرة التي ميزت صفحات تاريخ المغرب المستقل.
وعليه، أعتقد اليوم أنه من واجب القيادات السياسية الوطنية، ومن واجب رجال ونساء وأبناء الأسرة الاتحادية خاصة واليسارية الديمقراطية عامة، العودة إلى فتح النقاش الجاد والمسؤول بشأن أسباب التنافر والتفرقة ونواقص الماضي. إنه واجب سياسي لا يجب أن تعرقله الحسابات السياسية الضيقة، بل يجب أن يكون الرهان هو تقوية الفعل السياسي الديمقراطي الوحدوي وتسريع وثيرة التقدم في مسار بناء المشروع المجتمعي الذي يطمح المغاربة إلى تحقيقه. إن الصف الاشتراكي الديمقراطي مطالب اليوم للوقوف على الأسباب الموضوعية والذاتية التي حولت القيادة السياسية للسلطة التنفيذية في البلاد من يد القوى الديمقراطية الحداثية إلى القوى اليمينية المحافظة. إنها الحاجة إلى تحليل الذات وأوضاعها تحليلا عميقا والوقوف على مكامن الخلل الحقيقية التي تقف حاجزا أمام تقوية الفعل المشترك، وبالتالي بلورة خطة استعجالية لتفادي احتمالات الانزلاق إلى مراتب الضعف.
إن الأوضاع السياسية الراهنة ببلادنا تحتاج اليوم إلى صف اشتراكي يساري ديمقراطي ملتحم وموحد. إنه السبيل الوحيد لتمكينها من مواجهة استفحال حدة الفقر والبؤس في صفوف المغاربة، وانغلاق أبواب الأمل أمامهم. إن البلاد اليوم تعيش منعطفا سياسيا حاسما لا يسمح بإرغام الشعب على التصفيق بالإكراه والتغرير، ولا يسمح باستمرار الريع والامتيازات كأساس لصنع المشروعية السياسية للنخب الموالية وصنع الطبقات المجتمعية المحظوظة، ولا يسمح بالتسابق من أجل تحقيق المزيد من الامتيازات، بل تحتاج إلى ثورة جديدة بين الملك والشعب تفتح المجال في وجه جميع المغاربة للاستفادة من حظوظ التقدم والثقافة والحق في تحقيق ديمقراطية سليمة بأحزاب قوية تخضع السلطة السياسية للإرادة الشعبية بأبعادها الفكرية.
إن ضرورة تحقيق التماسك المطلوب، الذي يجب أن يميز الصف الاشتراكي الديمقراطي تنظيميا وممارسة، أصبح اليوم مسؤولية تاريخية مرتبطة أشد الارتباط بواجب تقوية التماسك في صفوف الجماهير الشعبية الطواقة لنصرة الفكر التقدمي الحداثي، مسؤولية تتطلب كأولوية إجلاء الغموض بنزاهة فكرية ونضالية على مكامن الاختلاف والاختلال التي تميز العلاقات بين المكونات اليسارية الديمقراطية. إنها الحاجة إلى القيام بتشخيص ذاتي يمكن من توضيح الرؤية بشأن متطلبات الحاضر والآفاق المستقبلية البعيدة منها والقريبة، وبالتالي تقوية التماسك المجتمعي لإجهاض كل محاولات التغرير الواهية ذات الأبعاد القبائلية والعقائدية و”الغنائمية”، والتي لا يدخر روادها أدنى جهد لإحداث الانكسارات العميقة في مقومات العيش التضامني المشترك للجماهير الشعبية.
إن الوطنيون اليوم مطالبون باستحضار أمجاد تاريخهم النضالي العريق. فالاتحاد الوطني للقوات الشعبية لم يتم تأسيسه بطلب من أحد، بل تم بناءه بسواعد الجماهير الكادحة في المدن والقرى، وبانخراط تام للشبيبة العاملة والطلابية، الشيء الذي لا يمكن أن يسمح اليوم بترك البلاد عرضة لمخاطر الرجوع إلى الوراء، ولاستمرار سيطرة الأفكار الأسطورية والمكبلات “التقليدانية” الواهية، ولمخاطر المناورات التي تسعى إلى امتصاص تعبئة الجماهير وتقزيمها، وتفشي فقدان الثقة المفتعلة والخيبة في نفوسها.
وختاما نقول أن الحاجة لتقوية الصف الاشتراكي الديمقراطي ما هي إلا حاجة لتمكين المغاربة من تقوية العزائم النضالية لتجنيد أنفسهم بأنفسهم بدون وصاية أو قسر أو تحكم من أحد، ومن تفجير طاقاتهم، والتعبير عن مقوماتهم الذاتية وتعلقهم بوطنهم بثقة قوية. إنه السبيل الوحيد لتحويل القوات الشعبية إلى أنصار المستقبل المشرق المناهض لعهود الماضي المظلمة، ولفلول القوى التقليدية، ولضغط عناصر الإقطاع وسماسرة السياسة والانتخابات. إننا نعيش اليوم في سياق سياسي واقتصادي شديد الحساسية لا ولن يحتمل سوء التقدير أو التقليل من أهمية الحاجة إلى نهضة اشتراكية ديمقراطية.
فإذا كان الشهيد المهدي بنبركة في الستينات قد دعا مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى القيام بنقد ذاتي وتقييم شامل لحركة التحرير الوطني (بمناسبة المؤتمر الثاني)، وبتقييم دقيق لنشاط الحكومات المتعاقبة بعد الاستقلال، فإن الصف الاشتراكي الديمقراطي مطالب اليوم كذلك بتقديم عرض دقيق لوضعه ولقضاياه الخلافية، والقيام بتقييم موضوعي لمسار الانتقال الديمقراطي الذي لم ينته بعد، وبالتالي بلورة رؤية إستراتيجية للعمل المشترك تخلق الظروف لتجاوز الذاتي إلى ما هو موضوعي.
…جريدة لكم…الخميس, 24 أيار/مايو .2012