“المربع صفر”:
البيئة الانتقالية المحفزة على العنف بعد الثورات
ثمة علاقة ارتباطية وثيقة بين تصاعد العنف في مجتمع ما، والبيئة المحيطة التي إما أن تلعب دورا محفزا أو كابحا لتلك الظاهرة التي شكلت تحديا كبيرا في مرحلة ما بعد الثورات العربية، لاسيما أن العنف تحول من ظاهرة عارضة ارتبطت بإسقاط الأنظمة الاستبدادية إلي حالة بدا أنها تكتسب قدرا من “الديمومة” لدى بعض الفئات المجتمعية والسياسية بعد الثورة.
ولا يمكن الركون في فهم تصاعد العنف، وتعدد أنماطه في مجتمعات ما بعد الثورة إلى بعض الطروحات النظرية التي قدمها هوبز وفرويد، وترى في العنف مجرد نزعة مرتبطة بطبيعة البشر للعدوان، وإيذاء الغير ماديا أو معنونا لنيل حقوقهم، سواء المشروعة أو غير المشروعة. فالعنف في جوهره -سواء أكان فرديا أم جماعيا منظما- هو مجرد وسيلة لا غاية تنشأ كتعبير عن خلل في البيئة المحيطة به، بما يخلق حالة من عدم استقرار، وغياب الأمان الاجتماعي.
إن ذلك الخلل تتعدد مصادره ومغذياته. فمثلا، قد يكون مصدره صراعا اجتماعيا، وتناقضات طبقية، وتوزيعا غير عادل للثروة والسلطة، يصبح العنف فيه أداة لتصحيحه، كما يتصور ماركس، أو “خللا هوياتيا متوهما”، حيث تتصور جماعة منغلقة على انتماءتها الأولية أن لها هوية متفردة ومهيمنة تتحول لسلاح عنيف ضد الهويات الأخرى في المجتمع، بحسب أماراتيا سن. كما قد يكون العنف كذلك تعبيرا عن خلل في التفاوض السياسي بين المعارضة والحكومة، أو محاولة جماعات سياسية ومجتمعية لفت نظر الأنظمة الجديدة إلى أن أهداف التغيير المنشود من الثورات لم تتحقق.
إذن، فالعنف هو بمثابة مرآة عاكسة للبيئة المحيطة بكل إشكالاتها، وترتبط درجة ديمومته من عدمها في المجتمع بطبيعة تعاطي الأنظمة الجديدة في مراحل ما بعد التغيير مع تلك المحفزات. فكلما كان العنف أكثر تعبيرا عن عوامل بنائية، كغياب العدالة، أو الحرمان النسبي للمجتمع، أو ضعف الدولة في تطبيق القانون، وغياب احتكار القوة المشروعة، أو محاولة فئة معينة الاستحواذ على الثروة والسلطة، وإقصاء بقية المجتمع، اكتسب العنف تجذرا في المجتمع، بل وتطورت أنماطه ودرجاته حدته، خاصة إذا لم تنتهج السلطات الحاكمة في مراحل ما بعد التغيير من السياسات ما يوحي للمجتمع بأنها جادة، أو على الأقل تسوق له حلما متبوعا بسياسات واضحة متفق عليها بين أطراف المجتمع، تقلل من حوافز العنف.
ولعل البيئات العربية في مرحلة الانتقال الديمقراطي، خاصة في مصر، وليبيا، وتونس، شهدت من المحفزات ما يجعل العنف حالة مرضية تتغلل في الأبنية الثقافية والسوسيولوجية. بيد أنه لا يمكن وضع تلك الدول في سلة واحدة، إذ إنه مع تباين مسارات التغيير، وعوامل الخلل، ودرجاته، اختلفت أشكال العنف. فبينما يميل العنف بشكل عام في مصر وتونس بعد ثورتيهما إلى الطابع الاجتماعي، نظرا لتردي الأوضاع الاقتصادية، وتزايد الإحباط، نتاج تقلص مردودات التغيير، اتخذ بالمقابل العنف مسارا منظما وجماعيا في ليبيا لفقدان الدولة احتكار ما يسمي بـ “العنف المشروع”، في ظل تنامي دولة الميليشيات المسلحة، مع العلم بأنه كلما خرج العنف من دائرة الفرد إلى الجماعة المنظمة التي تملك هوية وانتماء أوليا مشتركا أصبح من الصعب ردعه أو معالجته.
وعلى ذلك، بدا أن هناك ثُلة من محفزات العنف في مراحل ما بعد التغيير في دول الثورات العربية، لعل أبرزها:
– المحفز الهوياتي: حيث إن الهوية قد تتحول إلى سلاح عنيف ضد الآخرين، عندما يتلبسها لباس الشوفينية تجاه الآخرين، فتري جماعة ما -أيا كانت انتماءاتها الأولية (دينية، طائفية، مناطقية)- أن هويتها أرقي من الآخرين، بما يسوغ لها ممارسة الإقصاء والاستبعاد للآخرين. ولعل الثورات العربية أفرزت محفزا هوياتيا للعنف، حيث إنه مع الصعود السياسي للتيارات الإسلامية بمشاربها المختلفة في مصر وتونس وليبيا، في مرحلة ما بعد الثورة، بدا أن هنالك صداما أيديولوجيا، خاصة مع التيارات المدنية (الليبرالية واليسارية وغيرها) على شكل ونمط الحياة، ورؤية دولة ما بعد التغيير، وتجلي ذلك في الاستقطاب الحاد بين التيارين حول العديد من القضايا المفصلية في مرحلة ما بعد التغيير، مثل الدستور والانتخابات وغيرهما، بل إن الصراع تحول للعنف في حالات عديدة في الدول الثلاث.
- المحفز الاجتماعي – الاقتصادي: إذ إن تردي الأوضاع الاقتصادية، ورغبة المجتمع في جني ثمار التغيير سريعا، فضلا عن غياب سياسات جذرية لمعالجة العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروات .. كل ذلك خلف احتجاجات واعتصامات فئوية كانت بمثابة بيئة حاضنة للعنف. كما بدا أن الأنظمة الجديدة، سواء في مصر أو تونس، تنحو إلى سياسات “الرسملة” ذاتها التي تورطت فيها الأنظمة الاستبدادية، حيث لجأت إلى الدخول في الحلقة المفرغة للقروض الخارجية، خاصة في الحالة المصرية، والتي تمثل حلولا سهلة يدفع عادة الفقراء تكلفتها، سواء قبل أو بعد التغيير، بما يجعلهم لا يقيمون وزنا لفكرة الاستقرار الاجتماعي، ويجدون في العنف متنفسا للتعبير عن غضبهم من السياسات القائمة.
- المحفز الإعلامي: فرغم الدور الرئيسي الذي لعبته وسائل الإعلام في الحشد والتعبئة ضد الأنظمة الاستبدادية، فإن أداءها شابه قدر من التحيز، ونقص المهنية، والوقوع في شرك الاستقطاب السياسي، حيث أسهم فيما يسمي بـ “صناعة الكراهية” المتبادلة بين التيارات السياسية الدينية والمدنية في دول الثورات العربية. إذ دأبت وسائل الإعلام التي تمترست حول تيارات سياسية بعينها على تصوير الليبراليين على أنهم متفلتون، وضد الإسلام، بينما أصبح ينظر للإسلامي على أنه مستحوذ على الثورة، ومقص للآخرين، بعد وصوله للسلطة، دون محاولة التركيز على الهموم والسمات المشتركة بين الطرفين، ودون أن يكون هناك نفاذ إلى تعددية وجهات الرؤي داخل كل فريق، وأن الأمر ليس بهذا الاختزال المخل.
- محفز ضعف الدولة: فإذا كانت مرحلة الثورات قد كرست لضعف الدولة وتغول المجتمع عليها، فإن الدولة ذاتها لم تُقدم على إعادة هيبتها المتراجعة في مرحلة ما بعد الثورات، حيث لم تستطع إعادة المكانة لوظائفها التنموية والأمنية والتوزيعية. فمثلا، لا تزال المجتمعات تري أن أداء مؤسسات دول الربيع العربي في ملف الأمن ضعيفا، ولم يلب الحاجة المجتمعية للأمان. كما أن الهياكل البيروقراطية لا تزال تعمل بالعلائق الزبائنية ذاتها، وبالتالي، فضعف الدولة أغري باستمرار العدوان عليها، وأوجد بيئة محفزة للعنف.
- المحفز الخارجي: فرغم أن العامل الخارجي تقلص دوره في مرحلة الثورات، فإنه اتسع فيما بعدها، لاسيما أن القوي الكبري مارست تأثيرات على الأنظمة الجديدة، سواء عبر دعم بعض التيارات السياسية على حساب الأخري، أو استخدام أداة المساعدات الاقتصادية لتوجيه سياسات الأنظمة الجديدة بما يتفق مع مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، مما خلق نفورا وغضبا تحول في بعض الحالات، كليبيا، إلى عنف ضد الأجانب، كما حدث مع مقتل السفير الأمريكي في بنغازي على يد جماعات متطرفة تذرعت بقضية الرسوم المسيئة للرسول (صلي الله عليه وسلم).
- المحفز النفسي: حيث إن المجتمعات التي تربت في كنف أنظمة استبدادية تتأثر سلوكيا وقيميا في مرحلة ما بعد التغيير، فتنتاب المجتمع أعراض التشفي، والثأر، وغياب التسامح، والعزل لبعض الفئات دون أسانيد موضوعية، أو مراعاة لحقوق الإنسان، كما حدث في بعض حالات العزل السياسي، سواء في مصر أو ليبيا، مما وفر بيئة دافعة للعنف مع المختلفين فكريا، أو حتي الرافضين لعملية التغيير. ومن جانب آخر، فإن التوقعات المتزايدة داخل المجتمعات لما يمكن أن تنجزه الثورة اصطدمت بتحديات الواقع، الأمر الذي عمق من ظواهر الإحباط، والحرمان، والغضب الممهد للعنف.
إن هذه المحفزات الرئيسية للعنف خلقت أشكالا عديدة لم تقتصر على تنامي العنف الاجتماعي اليومي الذي أصبح معتادا من قبل الأفراد تجاه بعضهم بعضا في الشوارع العربية، بل تزايدت جرائم القتل في ظل ضعف أجهزة الأمن، وارتفعت معدلات الخطف والاغتصاب والاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة. وبالتالي، تعمقت أزمة “الأمان الاجتماعي” بشكل حاد في مرحلة ما بعد التغيير، وهو ما أضعف من شرعية أنظمة ما بعد التغيير.
كما شهدت أنماط العنف في دول الثورات تصاعدا للجماعات الجهادية التي ترى في العنف وسيلة لحسم خلافتها مع المخالفين لها. وما حفزها على ذلك أنها وجدت بيئة مناسبة تتولي السلطة فيها تيارات إسلامية معتدلة، بما دفعها لنزاع المرجعية معها، وإعادة إنتاج خطابها الأيديولوجي المتطرف، واستقطاب عناصر جديدة كما حدث في سيناء، وشرق ليبيا وتونس. ومع ضعف دول الثورات في السيطرة على الحدود، أنتجت تلك الجماعات الجهادية عنفا عابرا للقومية، تجلي أبرز ملامحه في سهولة انتقال السلاح من دولة إلي أخري، كما في حالة الميليشيات الليبية.
توازي مع ذلك تصاعد أنماط العنف المرتبط بانتماءات أولية، كما العنف الطائفي في مصر، والمناطقي في ليبيا، بل إن فئات مجتمعية، مثل المرأة، تعرضت لتصاعد ظاهرة التحرش الجنسي كمظهر من مظاهر العنف في مراحل ما بعد الثورات.
تلك الأنماط الجديدة للعنف في مرحلة ما بعد التغيير، والمحفزات الدافعة لها، وسياسات مواجهتها، لهي ما يسعي ملحق اتجاهات نظرية لمناقشته، وتحديد الأطر النظرية المفسرة لتصاعد ظاهرة العنف، فضلا عن تأثير ذلك في الدولة والإقليم. وتوخي الملحق في هذا الإطار الإجابة على عدة تساؤلات من قبيل: ما مدى إسهام بزوغ الولاءات الأولية (ديني/طائفي/ إثني) بعد الثورات في تصاعد العنف من عدمه؟، وهل تلعب التغيرات النفسية المجتمعية (الإحباط، العدوانية، التغيرات السلوكية المجتمعية) دورا في بروز أنماط من العنف بأشكاله المتعددة؟، وكيف تؤثر قضية العدالة الاجتماعية في عنف ما بعد التغيير؟، وما مدى إسهام العامل الخارجي في تأجيج العنف؟. ولم يكتف الملحق بالوصف والتفسير، بل سعي إلى مناقشة الاستجابة للعنف من قبل الحكومات، سواء بكبحه، أو بزيادة إشعاله، محاولا فهم الشروط النظرية التي يتحول من خلالها العنف إلي فوضي.
ويظل إجمالا أن تصاعد أشكال العنف المختلفة في مرحلة ما بعد التغيير يعد تعبيرا جليا عن غياب استراتيجية “الاحتواء والتضمين”، وبروز نمط من الإقصاء، والاستحواذ، دون مراعاة، سواء لتعددية القوي في مرحلة ما بعد الثورة، والتي رأت فيها أملا لتحسين شروط ونمط الحياة، أو أن مجتمعات ما بعد الثورة لم تعط الفرصة لالتقاط الأنفاس، والاستشفاء من أمراض “الاستبداد السياسي” التي طالت، ولا تزال، مراحل ما بعد التغيير، وكان أبرز ثمراتها “العنف” الذي عمق من حالة “الاستعصاء الديمقراطي” في دول الثورات العربية، وكأن قدر تلك المجتمعات أن تظل في “المربع صفر”، ولا تلج إلى بناء مجتمعات ديمقراطية تجد في الأدوات السلمية ما تعبر به عن مطالبها في مراحل ما بعد التغيير.
(*) مقدمة ملحق اتجاهات نظرية ( عنف ما بعد التغيير : العوامل المغذية للعنف في مراحل الانتقال الديمقراطي)، مجلة السياسة الدولية ، العدد 193 ، يوليو 2013