العلمانية والصياغة
إذا كان يقال عن حق إن الإسلام دين الفطرة، فلأن الفطرة لا تحتاج إلى سلطات ومؤسسات، تحتاج فقط إلى شيء واحد: الحرية الرّوحية لكل إنسان.
 


 

يُنبّهنا الباحث والكاتب الصحفي المصري حامد عبد الصمد إلى أنّنا نستطيع دائماً أن نعبر عن نفس الفكرة بصياغات مختلفة، فنحصل في كل مرّة على نتائج مختلفة. مثلاً، إذا قلنا للنّاس «نريد الفصل بين الدين والسياسة» فأغلب الظن أنّهم سيرفضون هذه الدّعوى ويقاومونها. لكن، إذا قلنا لهم «نريد ألاّ نخلط الدين بالسياسة» فالأرجح أن يقبلوا بهذه الدّعوى ويتفهمونها.

من حيث المعنى، فإنّنا إن دعونا إلى الفصل أو دعونا إلى عدم الخلط فإننا نكون إزاء الدّعوة إلى نفس الشّيء، لكن لأن الصياغتين مختلفتين فإننا نحصل على نتائج مختلفة. المحصلة أن نقول: لا يكفي أن نعرف ماذا نقول، بل يجب أن نعرف أيضاً كيف نقول. بهذا النّحو يُطرح السؤال، ألا تكون مشكلة العلمانية عندنا مشكلة في الصياغة لا في المعنى؟ دعنا نختبر ما تقوله إحدى الصياغات «الجيدة»:

العلمانية تعني الحياد الديني للدّولة. أي، بكل بساطة أن تقف الدّولة على مسافة واحدة من كافة الأديان. لكن، حتى هذه الصياغة لا تكفي لإقناع المسلمين في بلد غالبيته الساحقة من المسلمين. ولذلك يجب أن نستعدّ دوماً لاقتراح صياغات أكثر مطابقة. ومثلا، عندما نفكر في مجتمعات مثل السعودية وإيران والبحرين وعمان وغيرها، ستبدو صيغة الحياد الديني غير مقنعة مقارنة مع صيغة الحياد المذهبي للدولة. وبالطبع فمعلوم أنّ المذاهب هنا تعني المذاهب الدينية. والآن، نستطيع القول بكل اطمئنان، إن العلمانية في دول مثل السعودية وإيران وغيرها تعني الحياد المذهبي للدولة، أي أن تقف الدولة على مسافة واحدة من كافة المذاهب الدينية الموجودة هناك.

بهذا النحو نقترب من إبراز البُعد الإجرائي والمصلحي في العلمانية. لكن، كل هذا قد لا يكفي ما لم تصبح المصلحة واضحة بلا لبس. وبعد هذا، أليست المصلحة أصلا من أصول الاجتهاد؟

إذن، لا بد من تحديد المصلحة، وتحديداً تحديد مصلحة المسلمين، هؤلاء الذين يعتقدون أنهم الخاسر الأكبر من العلمانية وأنّهم الطرف المطالب بـ»التنازل». في كل الأحوال، المسلم البسيط ينتظر جواباً واضحاً عن سؤال بسيط: ماذا سيربح المسلمون من العلمانية، وماذا قد يخسرون؟

العلمانية من حيث أنها تضمن الحياد الديني والمذهبي للدولة، تظل مصلحة استراتيجية للمسلمين، لكل المسلمين. أولاً، لأن غالبية مسلمي العالم مجرّد أقليات داخل دول كبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي والهند والصين وروسيا؛ ثانياً لأن المسلمين في دول العالم الإسلامي ليسوا وحدهم وأحياناً ليسوا وحدهم بكثير كما هو الحال في أندونيسيا وماليزيا وسوريا ولبنان والعراق ومصر؛ ثالثاً لأنهم حتى حين يكونون وحدهم في حالات قليلة فإنهم يتوزعون إلى طوائف ومذاهب دينية متنوعة ومتباينة كما هو الحال في السعودية وإيران والبحرين وعمان؛ رابعاً حتى حين يكونون وحدهم وبمذهب واحد كما في تونس والمغرب فإنهم لا يتفقون على تفسير واحد لأي «حكم شرعي» في أي مسألة من المسائل وذلك بسبب أن آيات القرآن حمّالة أوجه، وأن فيها المحكم والمتشابه، وأن فيها الناسخ والمنسوخ، وما إلى ذلك. والخلاصة، من يريد بالإسلام وبالمسلمين خيراً، عليه أن يجعل العلمانية مقصداً يُطلب وغاية تُرجى.

ماذا قد يخسرون؟ إذا كان يقال عن حق، لا كهنوت في الإسلام؛ فلأنه لا يحتاج إلى رجال الدين. حتى الشعائر «الواجبة» يمكن القيام بها بدون ولاية من أحد، ويمكن أن يتطوع أيّ كان لولايتها. وهكذا، فليس هناك وجود لأي رجال دين قد يخسرون وظائفهم أو امتيازاتهم بفعل العلمانية.

إذا كان يقال عن حق إن الإسلام دين الفطرة، فلأن الفطرة لا تحتاج إلى سلطات ومؤسسات، تحتاج فقط إلى شيء واحد: الحرية الرّوحية لكل إنسان.

 

عن موقع العرب …سعيد ناشيد [نُشر في 12/08/2013، العدد: 9287، ص(8)]

 

‫شاهد أيضًا‬

الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي

على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…