ملهمة الشعراء الأولى :قوة الدولة!
بقلم : عهد فاضل
من أجمل الأحكام البنيوية، في نقد الشعر، تلك القائلة إن للشعر مرجعيات، إلا أن الشعر ليس مجموع مرجعياته. بمعنى أن المصادر التي يمكن للنص الأدبي أن يغرف منها، لا شعوريا أو تاريخيا أو معرفيا، تكوّن ما يُعرَف بمرجعيات معينة له، إلا أن النص الأدبي يتجاوز هذه المرجعيات وليس بالضرورة أن يكون امتدادا رأسيا لها أو حتى تطورا مباشرا منها. وفي هذا الكلام رائحة ماركسية عندما كانت نظرية «التحويل الأدبي» طافية على ماء النقد الأدبي في سبعينات القرن الماضي. وتأتي فكرة لا مرجعيات النص، بالعمق، إلى بيتها الماركسي القديم. لهذا، يعرف أهل الرأي الفلسفي أن البنيوية تطورٌ في بنية الجدل الماركسي، إنما بتوسع تحليلي وصفي مختلف.
حكاية المرجعية، حكاية ملغزة، بطبيعتها. فهي تتحدث عن كتلة صامتة ومعزولة، هي بالمجمل ذاكرة أو مضامين معرفية معينة. ثم تتكئ حكاية المرجعية على اللاشعور الفردي والجماعي (الاثنين معا)، وكذا الأمر لا يقل صعوبة وإلغازا. في الحالين: الذاكرة واللاشعور، تظل الكتلة الصامتة للمرجعيات، صامتة وملغزة. والطريف أن هذه الكتل الصامتة تقدم التموين المناسب لكل الأطراف حتى المتناقضة منها! فيستدعيها الشعر إلى بنيته، وبالقدر ذاته تستدعيها الرواية والفكر الفلسفي والديني.. من هنا، فإن حكاية المرجعية هي حكاية غامضة منقطعة الجذور في مكان ما من سردها، ولا يمكن الركون إلا للتعبير الجميل الذي ذكرته يوما الناقدة يمنى العيد بأن للشعر مرجعيات إلا أن الشعر ليس هو محصلة مرجعياته بالضرورة.
مرجعية الدولة.. مرجعية الشعر
المرجعيات، لا تُعد ولا تحصى، هي بقدر الكلمات عددا ومددا. لا، بل إن الخطأ الإملائي كان مرجعا ملهما لبعض التجارب ذات الأصل السريالي والتي وصلت حد الاحتفال بالخطأ الإملائي الذي يمكن أن يكتشف مفردة جديدة أو تحويرا بليغا لم يهتد إليه أحدٌ من قبل! إلا أن المرجعيات على عددها المليوني المتشعب غير القابل للجمع، تُظهر مرجعيةً أكثر غموضا وتعقيدا من أي مؤثِّر آخر، ألا وهي الدولة.. أو النظام السياسي. هذه المرجعية هي الأكثر غموضا وتأثيرا على الإطلاق: إذ كيف يمكن الكشف عن هذه البنية التي تسترد نواتها من طبيعة نظام سياسي أو دولة أو إمبراطورية؟ ما هي الحركة التي يمكن أن تتشكل ما بين النص الأدبي والنظام السياسي؟
عُرف من بين النظم التي تؤثر فوريا في النص، تلك النظم الداعية إلى فكر معين، كالدول الآيديولوجية التي تطلب من صانعي النصوص كتابة نسقية معينة، ثم تتحول تلك الطلبات إلى الأدوات النقدية، ليتحول الحكم أو القراءة النقدية إلى مواءمة ما بين الدعوية الآيديولوجية والنص المستجيب والراغب لهذا النسق.
وتحققنا جميعا، كل طبقات القراء، وأصبح الأمر قناعة عامة، بأن النصوص التي تشكلت على النسق الدعوي الآيديولوجي هي الأضعف تأثيرا في الذائقة الأدبية والأسرع زوالا من ذاكرة القراء. ولا يمكن أن نحصي عدد الكتب الشعرية التي رماها القراء في العراق ومصر وسوريا ولبنان والمغرب والسعودية والكويت، بعد اكتشافهم لخوائها الفني الفادح وبضعف محتواها نصا وأثرا.
والأمر اختصره مرة الشاعر الكبير نزار قباني عندما وصل به النزق إلى أقصى انفعال بعد قراءته للقصائد والكتب الشعرية التي كُتبت عن «انتفاضة الحجارة» الفلسطينية، ولم ير في أغلبها أي قيمة فنية يمكن أن تحول منها نصوصا أدبية، فقال: إن القصائد المكتوبة عن انتفاضة الحجارة، إنما تقذف القراء بالحجارة!
طبعا هذا النوع أفل بسرعة، مع أن الكثير من الصفحات الثقافية العربية أهدرت حبر مطابعها في هذا «الشعر» الذي كان فادحا فقيرا متصنعا لا موهبة فيه. ومثله أدب المؤسسات الرسمية الآيديولوجية في سوريا والعراق، بالدرجة الأولى، حيث كان الضباط المتقاعدون وأفراد المؤسسات الشُرَطية كتابا وشعراء ينافسون الموهوبين على آلامهم. إلا أن هذه المرجعية ضحلة وضعيفة التأثير بسبب تبشيريتها التي تتفوق على وعيها الفني.
المكان السياسي يمنح الإحساس بالتفوق
الجانب الخفي للدولة، كمؤثر متوارٍ بحدة إلى درجة التشكيك بوجوده، يتمثل في ذلك الالتفاف للأنا الشعرية، إلى مصادر القوة أو إحساس التفوق الذي تقدمه، يتشكل في منجزات الدولة أو آثارها المباشرة في تكوين الأنا. والعكس أيضا صحيح، حينما تسترد الدولة إحساس التفوق وتحرم الأنا الشعرية من هذه الاستدارة، فيأتي، بصفة عامة، الأدب تصنيفا أو تأليفا لكن لا إبداعيا، كما في تلك المرحلة التي تلت سقوط بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي، حيث عزّت المواهب وقلت الابتكارات إلى درجة الانعدام وأصبح الأديب البارع هو الذي، وحسب، ينجح بتقليد المتنبي أو المعري أو أبي نواس، وسواهم من هذا الإرث الضخم للمكتبة الشعرية العربية.
هنا، الدولة ليست مجرد إطار سياسي وخدمي، بل مانح رمزي لإحساس التفوق الذي تستدعيه الأنا الشعرية، بصمت، ودون تلامس مباشر. العلاقة رغم ذلك، تظل غامضة وغير قابلة للتحليل الدقيق. هي مجرد إيحاءات تتلازم ما بين الوعي الشعري والمكان السياسي، الذي هو الدولة. وعوضا من أن يكون المكان شجرا أو بحرا أو صحراء أو وردة، يصبح مانحا لإحساس التفوق عبر سيطرة القوة (الدولة) على المكان. ولعل أبرز التجارب المعبرة عن هذا التلازم، هو المتنبي، بكامله.
تصلح هذه التجربة الفذة لتكون النموذج الأمثل لاستيلاء المكان السياسي على المكان الطبيعي، حيث تتحول مفردات العالم الخارجي، كلها، إلى أدوات تتنقل ما بين قوة منظورة مكثفة بشخص الحاكم، وواقعٍ يتحول بأسره إلى مسرح لاستعادة الأنا للقوة المانحة. كان شعر المتنبي المادح للسلطة هو النموذج الأمثل لإحساس التفوق الذي تتحينه الأنا الشعرية وتستدعيه ما استطاعت. والقراءة المبسطة لمديح المتنبي السلطات المتعاقبة في عصره، وفي أنها مجرد تحقيق مصالح ومنافع، لم تكن لتفي وعيه الشعري البليغ حقه، وهو الذي نظر إلى إحساس التفوق الذي سيطر على المكان وسلبه أسماءه الطبيعية ومنحه شكله السياسي المتمثل أصلا برأس هذه الدولة أو تلك.
لقد تسرب إحساس التفوق إلى وعي المتنبي الشعري، فجعل البحث عن مصادر هذه القوة همّا أساسيا في تجربة هذا الشاعر التي لا مثيل لها. والمتنبي الذي ورث بطريقته إحساس التفوق المادي والمعنوي من أصلهما في التاريخ اليوناني عندما كانت إسبارطة تفوقا للعسكر، وأثينا تفوقا للفلاسفة، عبّر عن هذا الهم الأسطوري بكل وضوح وعلانية في بيته الشعري البليغ:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي
بأصعب من أن أجمع الجدّ والفهما!!
إن الجد والفهم، هنا، هما القوة المادية والمعنوية، حيث يتولى الأول معنى الهمة والرجولة والتفوق، ويتولى الثاني معنى النبوغ والتفوق العقلي. والمعنى الخفي في هذا البيت الرائع، هو مساواته ما بين القوة المادية والقوة المعنوية، ما بين قوة العقل وقوة الجسد، قوة الدولة التي لم تكن إلا ممثلة برؤوسها حكاما أو أمراء أو ملوكا، حيث كانوا موضوعا دائما في مدائحه التي أخطأ القراء الكبار قبل الصغار بفهمها على أنها مجرد تكسب واسترضاء وتحقيق منافع.
أثينا الشعر وإسبارطة السلاح
إن مدح المتنبي للحاكم هو استدعاء الأنا الشعرية لإحساس التفوق، لا بل هو عشق لهذا الإحساس الذي طارده المتنبي حتى آخر لحظة من حياته. إن زعم المتنبي قدرته على الجمع ما بين الماء والنار في يد واحدة ومنها مقدرته على الجمع ما بين قوة الفارس وبلاغة الشاعر، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن المتنبي كان يتشكل وعيه الشعري على وقع الإحساس بالتفوق الذي كانت تمثله أصلا الدولة العربية في حينه، إلا أنه تداخل مع سعة رقعتها وقوة نفوذها فأشرك البطل الإسبارطي بالفيلسوف الأثيني وقدم نفسه نموذجا لهذا الجمع.
الدولة عند المتنبي كانت مانحا للقوة وإحساس التفوق الذي منح الأنا الشعرية كل هذه المقدرة على التخلص من تفاصيل الواقع وأسمائه الاعتيادية. أصبح كل شيء في العالم الخارجي ممرا إلى استعادة التفوق أو صناعة له. وللتأكيد على موازاته لمفهوم القوة المادية والقوة المعنوية نراه يتكئ على تلك المعادلة في استهلال شهير له:
لا خيل عندك تهديها ولا مالُ
فليسعد النطق إن لم يسعد الحال!
وهو، هنا، يعلن إمكانية أن يكون النطق (الشعر) موازيا تاما لإمكانية مادية ليست عنده. لقد سيطر إحساس التفوق الذي استمده المتنبي من الدولة ممثلة بالحاكم، على وعي الشاعر، وأصبح شخص الحاكم عنده متداخلا مع قوة الدولة، فتشكلت آلية الانجذاب إلى مصادر القوة فقال مديحا في أهل السلطة لا أجمل ولا أبلغ منه في نوعه. إلا أنه بالمقابل قال عن نفسه القول ذاته، فرأى نفسه بحرا ورأى أن شعره يسمع حتى من به صمم، وهذا التداخل البنيوي ما بين الصفات الممنوحة للأنا والصفات الممنوحة للدولة ممثلة بالحاكم، تؤكد دور إحساس التفوق الذي عاشه المتنبي، فمنحه لنفسه ورآه في أهل الدولة، القوة، وأشار إلى مقدرته على الجمع بين قوة عبقريته وقوتهم الخارجية.
مرجعية الدولة، كمانح رمزي للإحساس بالتفوق، ظهرت عند المتنبي بكل وضوح. إلا أنه كان في هذا المتن مثالا لنوعية ما من المرجعيات التي يستدعيها الشعر في بنيته ويعبر عنها دون إفصاح أو وعي نظري متكامل. الدولة التي هي المكان السياسي، تلتهم المكان الطبيعي وتحل محله. فتنتقل المفردات من كونها مشغولات عقلية جامدة صامتة، إلى تداخل بشري – طبيعي، يحل قوة الإنسان مكان قوة الطبيعة، ويتحول معها العالم الخارجي بأسره إلى مسرح عمليات للأنا الشعرية وهي في سعيها المحموم لاستعادة الإحساس بالتفوق ولتكون، بلا منازع، ملهمة الشعراء الذين هم من طراز أبي الطيب، وسواه. وفي مثل استعادته لإحساس التفوق الممنوح من المكان السياسي، عمل شعر المتنبي، حرفيا، على تأكيد أن المرجعية مهما كان لها كبير الأثر والفاعلية فإن النص الأدبي لا ينبغي أن يكون محصلة هذه المرجعيات. وهو بالضبط ما فعلته قريحة المتنبي، كمثال في هذا الباب. ولعله أدرك مبكرا أن هناك من سيفهم تمجيده لنفسه على أنه إحساس ما بالانتماء للجماعة، قالها قاطعا الشك باليقين لنفي هذا التفسير، فحسم الأمر مؤكدا:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي!
…موقع المجلة /11 غشت 2013