من مرسي إلى رابعة .. الإخوان.. بانوراما الوعي ومأزق التفكير!
عن موقع العربية نيت
مقدمة نظرية:
ليس هدف هذه الدراسة محاولة توصيف ما جرى في 30 يونيو / حزيران، وهذا المشهد التاريخي الذي عبرت عنه جموع الشعب المصري في هذا اليوم التاريخي، التي نزلت فيه موجات بشرية إلى كافة الشوراع والميادين رافضة وغاضبة ومتمردة على حكم جماعة الاخوان المسلمين، فالعديد من الكتابات والتحليلات ذهبت في هذا السياق، ولكن ما يهمنا في تلك الدراسة هو ما نسميه بمأزق وصدمة الوعي لدى جماعة الاخوان المسلمين والتي وجدت نفسها فجأة في مفترق طرق تبحث عن مخرج من ورطتها لذا فبيت القصيد هنا هو مصير من تلقى الصدمة لا مصير من جاءت منه الصدمة.
ملاحظات نظرية:
أولا: يمكن تعريف الوعي على أنه معطى قائم بكل ذات ومرتد منها، وهو الحاوي لكل ما تضمر من قوة شعورية واحساسات داخلية، تجاه العالم الخارجي ومتغيراته وحركة تاريخه، مما يجعله وعياً بالذات وبالآخر وبالعالم معا، ومن ثم فإن الوعي دائما ما يتسم بالشقاء لأنه من الممكن أن يقع فريسة الوهم نتيجة لقصوره عن الفهم الصادق للعلاقة بين الذات والآخر كما من الممكن أن يكون الوعي نفسه سبباً للسقوط في براثن الخرافة والعبودية، لذا فمن الضروري أن نضع نصب أعيننا دائما الدور المزدوج للوعي، فهو يغلق ويفتح في آن واحد.
ثانيا: أن ثمة علاقة وثيقة بين الوعي وحركة التاريخ – في أي إتجاه وبأي ايقاع – ذلك أن بقاء الوعي حياً ونابضاً، موضوعيا وعقلانيا، يمتلك إرادة الشفاء من أية أمراض أو أعراض قد تصيبه او تعترضه هو الشرط الأساس لاستمرارية أي جماعة بشرية في حركتها التاريخية وعدم توقفها أو جمودها ومن ثم تلاشيها، ذلك أن الوجود الحقيقي في التاريخ هو ذلك الوجود الذي يستوعب التاريخ ويتخطاه على الدوام ليصنع تاريخاً جديداً ومتجددا، وليس وعيا مأزوماً أو مغلوطاً، فإن ذلك يعني توقف حركتها التاريخية وتبقى دوماً أما على هامش التاريخ أو خارجه .
ثالثا: إن الوعي ليس حالة كمالية يمكن الاستغناء عنها، وبالتالي لا يجوز لنا افتراض وجود حال يمكن للإنسان فيه الاستغناء عن الوعي والعقل، ولكننا حين نسلم الوعي إلى الرغبة أو إلى تركيبات وانماط ذهنية جاهزة ليست سوى أقنعة، تختفي وراءها أهداف الرغبة والشهوة، فإننا نقصيه عن الفكر فتندفع الرغبة إلى تجنب المعرفة لتستريح وتريح جسدها من تجنب العناء ما يؤدي إلى عجز الفكر من قدرته على حل المعضلات أو البحث عن مخرج لأزمات واقعه، ويظل حبيسها بيديه.
الأخوان … الاقتدار والاستعلاء على التاريخ:
لماذا أتفاءل بالمستقبل؟ تحت هذا العنوان كتب الدكتور عصام العريان نائب رئيس حزب الحرية والعدالة الذراع السياسية لجماعة الاخوان المسلمين مقالاً بجريدة الشروق بتاريخ 26 مارس / آذار 2011 يقول “إذا كان هناك خوف من الاخوان المسلمين فأريد من القارئ أن يرجع إلى مقالة كتبها المرحوم الأستاذ الكبير “أحمد حسن الزيات” مؤسس مجلة الرسالة التي كانت منبراً لكل التيارات الفكرية قبل يوليو 1952 في مارس 1952 بعنوان ” لا تخافوا من الأخوان فأنهم يخافون الله”… ولأن الاخوان يتماهون بالإسلام وهم – دون الدخول في تفاصيل الإطار المعرفي والتنظيمي والتاريخي الذي وضعه حسن البنا مؤسسها الأول في عشرينيات القرن الفائت – بحسب المرسد العام للجماعة الدكتور محمد بديع خلال مؤتمر جماهيري عقده في مدينة المنصورة بتاريخ 5 نوفمبر / تشرين الثاني 2011 – أي الاخوان – “ليسوا حزباً سياسياً بل روح جديدة تسري في قلب هذه الأمة فتحيا بالقرآن، ونور جديد يشرق فيسدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت يدوي ويعلو مرددا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم”…
ولأنهم كذلك باعتبارهم الإسلام ذاته فهي دعوة شمولية وبحسب قول بديع أيضاً في مؤتمر “الإسلاميون في العالم العربي والقضية الفلسطينية في ضوء التغييرات والثورات العربية” والذي عقده مركز الزيتونة للدراسات ببيروت يومي 28 و29 نوفمبر / تشرين الثاني 2012 ، “فقد حمل الأخوان المسلمون هم هذه الأمة كي تنهض من سباتها منذ سقوط الخلافة الإسلامية مروراً بمخططات الآعداء التي لم تقف على مر السنين كي تنقض على مقدرات أمتنا الإسلامية وتنهب ثرواتها… لقد كانت مصر مهد دعوة الاخوان المسلمين وكانت فلسطين ميدان الجهاد لكل أبناء هذه الدعوة وكان ذلك علامة على شمولية هذه الدعوة وثرائها وانها لن ترضى إلا بعزة هذه الأمة وعودتها شامخة عزيزة تقود سائر الأمم إلى ما فيه خير العباد والبلاد”… أما متى لم يجب المرشد؟ اما كيف فيجيب في إحدى رسائله بتاريخ 5 مارس/ آذار 2010 أن “قوة دعوتنا وحاجة الناس إليها ونبالة مقصدنا وتأييد الله إيانا هي عوامل النجاح التي لا تثبت أمامها عقبة ولا يقف في طريقها عائق”.
إذن فهي جماعة تتصور نفسها نقية ومتفردة بامتلاك كل نواحي الإصلاح في الأمة، وأصبحت طريق كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته، أو انها الصياغة الجديدة للإنسان المسلم والتي تبشر ببعث إسلامي جديد وفق مقولة سيد قطب (جيل قرآني فريد)، أو كما يقول الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه “الأخوان المسلمون : 70 عاماً من الدعوة والتربية والجهاد”… إن “عقيدتهم وفكرتهم من حيث النقاء والأصالة لا تشوبها شائبة” كما أنها وفق ذلك للاقتدار على التاريخ والانقلاب عليه..
ومن هنا تكمن المهمة الجليلة التي تضطلع بها الجماعة كما رسمها مؤسسها حسن البنا نفسه حين يقول في “الأخوان المسلمون تحت راية القرآن”، “مهمتنا أن نقف في وجه هذه الموجة الطاغية على مدنية المادة وحضارة المتع والشهوات التي حرمت الشعوب الاسلامية فابعدتها عن زعامة النبي صلى الله عليه وسلم وهداية القرآن وحرمت العالم عن أنوار هديها وأخرت تقدمه مئات السنين حتى تنحسر عن ارضنا ويبرأ من بلائها قومنا ولسنا واقفين عن هذا الحد بل سنلاحقها في أرضها وسنغزوها في عقر دارها حتى يهتف العالم كله باسم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقن الدنيا كلها بتعاليم القرآن وينتشر ظل الإسلام الوارف على الأرض لله وحينئذ يتحقق للمسلم ما ينشده فلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله… هذه مهمتنا نحن الاخوان المسلمين إجمالاً”.
ولثقل هذه المهمة وعظمتها فإن التدرج فيها يكون على مراحل لخصها سيد قطب بقوله “مرحلة الدعوة وتكثير الانصار، مرحلة الابتلاء للدعاة والاتباع وهذا الابتلاء له صوره المتعددة من تعذيب، ومطاردة، وسجن، ومقاطعة، ومن حرب، ومن اشاعة للحملات الكاذبة والظالمة، ومرحلة الصبر: في هذه المرحلة يواجه الابتلاء على قسوته بالثبات والصبر، ومرحلة النصر: في هذه المرحلة الخاتمة تكون بعد الصبر، والصبر الذي حدث بعد الابتلاء، والابتلاء الذي نتج عن تبليغ الدعوة.. انها باختصار كلمات أربع: دعوة ثم ابتلاء ثم صبر ثم نصر، فلا نصر إلا بعد الصبر، ولا صبر إلا بعد ابتلاء، ولا ابتلاء إلا بعد دعوة صريحة وواضحة”، (نقلا عن محمد عبد القادر ابو فارس، منهج التغيير عند الشهيدين حسن البنا وسيد قطب).
المحنة والنصر في المخيال الأخواني:
يقول عبد العزيز كحيل في مقالته “انتصار الاخوان المسلمين”، (موقع رسالة الأخوان، بتاريخ 26 يوليو / تموز 2013) إن “تجاوز الأخوان المحن وسرعة تعافيها من البلايا دليل صلاحيتها للبقاء والاستمرار في العطاء لأنها – خلافا للعلمانية – دعوة ربانية تستند إلى تربية روحية دائمة تمدها بالثبات وصد الهجمات المختلفة… فماذا يفعل أعداؤها بها إن سجنوا رموزها وأفرادها ؟ حول هؤلاء السجن إلى خلوة للذكر وقراءة القرآن والتزود بمختلف العلوم ووضع خطط لمستقبل الأمة فلا وقت عندهم للجزع والتباكي فيخرجون من السحون أقوى وأعلم وأكثر عطاء”.
لذا فالنصر حتمي وحرب الانظمة لنا دليل وبرهان على أننا أهل الحق هكذا يقولون لأنه لا يحارب إلا أهل الحق فالابتلاء بالمحن والمصائب في دعوة الاخوان ليس له نتيجة إيجابية سوى تقمص نموذج الضحية من أجل اكتساب المزيد من المتعاطفين ولا مانع أن يكون الفشل والخذلان مرافقاً للجماعة لأكثر من جيل وعبر أجيال متتابعة ولا يعاتبون أنفسهم على ذلك لاصرارهم على أن ما هم فيه إنما هو ابتلاء وليس عقوبة يعقبها النصر، فهم يرون أن الباعث عندهم هام جداً – بحسب قول الدكتور عصام العريان “الاصلاح المطلوب تحقيقه، مجلة الديمقراطية رقم 13، 2003″- و”هو ما يعرف بـ”النية” وضرورة أن تتوجه إلى الله تعالى ابتغاء مثوبته ولاشك أن غرس التوجه الصحيح لدى جموع المسلمين والمؤمنين سيكون دافعاً قوياً لهم من أجل العمل لتحقيق البرامج والتوجهات الإصلاحية وسيزيد من الحماسة لها بين صفوف الشعب على ان تبدأ بالعمل على إقامة شرع الله من منطلق إيماننا بأنه المخرج الحقيقي الفاعل لكل ما نعاني منه من مشكلات داخلية وخارجية وذلك من خلال بناء الفرد المسلم والبيت المسلم والحكومة المسلمة والدولة التي تقود الدول الإسلامية وتلم شتات المسلمين وتستعيد مجدهم وتحمل لواء الدعوة إلى الله حتى تسعد العالم بخير الإسلام وتعاليمه”، هذا هو المخيال الاخواني الذي بجانب تقمصه لدور الضحية يتقمص ايضاً دور المهدي المنتظر الذي سيقود العالم للتغيير على طريقتهم.
“أنهم يصنعون تاريخهم ويصنعون عالمهم” ومن هذا التاريخ وذاك العالم فقط ينظرون إلى الآخر – أي آخر – سواء كان دولة أم مجتمع أم حلفاء أم معارضين بصفة عامة بل أن التاريخ يبدأ لديهم فقط من نشأة جماعتهم في مارس عام 1928 وما تلاه وهذا ما أكدته كلمات الدكتور محمد مرسي والذي قدم نفسه باعتباره رئيسا لكل المصريين أثناء ادائه اليمين الدستورية أمام حشد هائل في ميدان التحرير بتاريخ 29 يونيو / حزيران 2012، حينما قال “أيها الاحباب الكرام ننظر في التاريخ لنعرف ان شجرة الحرية قد بدء غرسها وغرس جذورها رجال كرام منذ عشرات السنيين ومنذ بدايات القرن الماضي غرس الرجال جذورا ووضع بذورا روتها دمائهم واحيتها تضحياتهم علي مدار العشرينيات والخمسينيات والستينيات وما ادراك ما الستينيات وبعد ذلك عقد إلي عقد إلي أن وصلنا بعد ظلم طويل الي 25 يناير 2011”.
ولذلك وعندما واجهتهم المحنة الأولى – هكذا يقول أحمد رائف القيادي المنشق عن الجماعة في كتابه “سردايب الشيطان.. صفحات من تاريخ الاخوان المسلمين 1990” – “ظنوا أن بينهم وبين التمكين في الارض رمية قوس، وخيل اليهم انما هي خطوة واحدة تخطوها الجماعة إلى الامام فيصيرون على رأس المجتمع فيحكمون بالقرآن وتسود شريعة الإسلام وتعملوا خطأ أن العالم كله ينتظر إشارة منهم فيركع تحت أقدامهم وقد يرجع ذلك إلى كلمات الامام الشهيد الملتهبة التي لم يفهم مرماها على وجه اليقين فقد غطى وجه الكلمات على عتمة الواقع واساه، وقد يرجع إلى عظمة الدعوة وأهميتها في إعادة تكوين الإنسان والمجتمع وانه ليس من العقل رفضها أو الوقوف ضدها وهو يرجع بالتأكيد – ومازال الكلام لأحمد رائف – إلى عدم قراءة التاريخ وعدم استيعاب السنن والنواميس ثم توالت الاحداث وتتابعت المحل الطويلة والدلائل صارت تشير إلى أنه لا نهاية لها وتأكد لديهم ووثقوا أنها حرب ابادة من اعدائهم”.
الإخوان من الثورة إلى مرسي:
رأى الإخوان في الثورات العربية التي وصفها البعض بالربيع العربي الديمقراطي المدني، فرصة النصر التي تحققت، ودخلت الجماعة في مرحلة جديدة تقود إلى التمكين وسيادة الجماعة هي مرحلة الانتصار آخر المراحل التي حدث عنها سيد قطب من قبل بالنصر الذي تحقق بثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، هكذا كتب الدكتور عصام العريان في إحدى مقالاته بجريدة الشروق بتاريخ 12 فبراير/ شباط 2011 أي بعد يوم واحد من تنحي الرئيس مبارك “هذه ثورة شعبية لا يقودها فصيل سياسي بل فجرها شباب مصري من جميع الانتماءات الفكرية والسياسية بمن فيهم الاسلاميون وليست من صنع الاخوان المسلمين الذي يشاركون فيها بنسبة معقولة وعملوا على حمايتها من العنف المضاد الذي مارسته اجهزة الحكومة والامن”، ولكن شيئاً فشيئاً سوف يصل الأمر ببعضهم إلى أنهم صناع الثورة الحقيقيون هكذا يفهم من شهادة المتحدث الرسمي بأسم الجماعة أحمد عارف والتي عنونها بــ “لله ثم التاريخ” وذلك في 20 يونيو / حزيران 2013 (موقع مفكرة الاسلام) أي قبل أيام من “يوم التمرد”، وتتخلص الشهادة في قوله “يقولون أن الأخوان هم من حمى الثورة… إن الاخوان هم من فرشوا ميدان التحرير بأجسادهم فكانوا زرابي مبثوثة، وهم من واصلوا الليل بالنهار مرابطين من كل المحافظات وكأنهم في اعتكاف مفتوح حتى تلونت جلودهم بلون حجارة الارض وهم من واجهوا الجمال والدواب بكل شجاعة وقطعوا الحجارة من رصيف التحرير وأقاموا المتاريس ووضعوا نظام بوابات التأمين عند المداخل وتناوبوا ورديات الحرساة وهم من ثبتوا حين رأينا وجوهاً كثيرة آثرت السلامة وانسحبت ساعة اشاعة ان البلطجية قد دخولا على الناس بيتهم”.
ورغم أن الثورة قامت بدون وصاية من أحد عليها، كما أقر وقبل عصام العريان، ولم تكن لتقبل أن توضع تحت وصاية أحد، فقد صارت الجماعة في هذا الاتجاه- دور الوصاية- فبعد أن اعتمد خطاب الجماعة العام في الايام الأولى للثورة، على أنهم مكون من مكونات الشعب الثائر لكنهم ليسوا التعبير الوحيد عنه حتى على مستوى الشعارات المرفوعة التي كانت منحازة إلى التغيير والحرية والعدالة الاجتماعية ولم تسلك طرائقها المعهودة بالشعارات الدينية تجاهلت ما أثمرت عنه الثورة من معادلات جديدة على الساحة ووعي بضرورة بناء مصر جديدة، وراحت تنغمس في حسابات الجماعة الضيقة بغض النظر عن تأثير تلك الحسابات في المسار الوطني العام فكانت الرسالة بفرض الوصاية على الثورة مزدوجة أولا في ميدان التحرير تقول للقوى السياسية والثورية نحن من نعطي التظاهرات وزنها الطاغي، وتقول للنظام قبل سقوطه نحن من نستحق منك التركيز على مطالبنا
وبدا منطق الرغبة واضحاً ولكنه يتخفى بعباءة الدين والميدان، فـ “من يخالف الأخوان وعقيدتهم فهم كأهل لوط الذين فضلوا الملذات والشهوات ورفضوا دعوة الإيمان والطاعة للخالق” (موقع سويس أنفو بتاريخ 20 مايو / آيار 2012).
هكذا أفتى الشيخ يوسف القرضاوي، وهكذا كانت العودة إلى زمن وعاظ السلاطين أو ما نطلق عليه “دين السلطان”، واعتمدت جماعة الاخوان على ماكينة من تلك الفتاوى الصادمة لتكفير كل من يعارض الجماعة والتشكيك في كافة مسارات العمل السياسي والإنتخابي التي اعقبت الثورة ما لم يفز فيها الاخوان فتتوعد الناخبين بالإثم في الآخرة والخيبة في الدنيا وتمهد لمظاهرات وثورة أخرى إن لم يفز مرشح الجماعة محمد مرسي في الإنتخابات الرئاسية باعتباره “حامل النهضة، والآتي بالخلافة الإسلامية الجديدة، ومطبق شرع الله، وحامل الخير للمصريين جميعاً، ومنقذ فلسطين، ومحرر القدس”، وغيرها من الفتاوى والمقولات التي أقحمت الدين في خضم السياسة ما ادى إلى تصوير الصراع السياسي على أنه صراع وجودي بكل ما تحمل الكلمة من معان بين المؤمنين الصالحين وبين الكفرة الملحدين لا يصح فيها سوى الإنتصار أو الشهادة.
وانتصرت الثورة لكن بالمفهوم الأخواني التأويلي والتحريفي لها، وبدأ المسار الذي أرتأته الجماعة يحقق أهدافها ورغباتها وحساباتها الضيقة ودانت لها كافة المؤسسات والاجهزة التي كانت تلاحقها من قبل، وقفزت الجماعة من السفح إلى قمة التل مباشرة فاعتلت قمة السلطة السياسية في مصر باحد اعضاء مكتب ارشادها الدكتور محمد مرسي، ومعه بدت الجماعة وكأنها مقدمة على الانتحار الجماعي بنعرات الاستعلاء والغرور السياسي الذي مارسته قيادات ورموز الجماعة في توجيه سهامهم في اتجاهات شتى وبصفة خاصة السلطة القضائية فكان حصار المحكمة الدستورية العليا، ووسائل الإعلام فكان حصار مدينة الانتاج الاعلامي فضلا عن وزارة الداخلية والازهر الشريف الذي لم يسلم أيضا من سهامهم أما القوى الحزبية والسياسية المعارضة فهم في نظرهم أما متآمرين أو “أصحاب هوى” على حد تعبير المرشد العام السابق للجماعة محمد مهدي عاكف لجريدة الوطن بتاريخ 8 ابريل / نيسان 2013، لأنه من الطبيعي أن من يعترض عليهم فقد اعترض على الحق المنزل وأن من خاصمهم فقد خاصم الإسلام ولا مانع من اتهامات بسطحية التفكير أو طالب شهرة ومكانة وإن لم يكن رموه بالعمالة والخيانة… إلخ.
ورغم أن الجماعة فقدت منذ فترة الامساك بزمام الحركة الإسلامية بصفة عامة، التي غادرتها سلفيا في الفترة الأخيرة وسلفيا جهاديا في فترة سابقة، إلا أنها وخلال العام الفائت فقط عادت واقامت تحالفا واسعا مع العديد من الحركات والأحزاب الإسلامية كالجماعة الإسلامية وحربها البناء والتنمية، وعدد من حركات سلفية اهمها الجبهة السلفية، وحركة حازمون فضلا عن حزب الوسط فكثيرا ما رأينا أن رموز وقيادات تلك الحركات هم من تصدروا المشهد في مليونيات نظمتها الجماعة أو أنصارها تحت عناوين هي أبعد ما تكون عن قناعتهم مثل مليونية “لا للعنف”.
وبعد عقود من الحظر والمنع والاستبعاد الاجتماعي بدا ظهور الجماعة السياسي بصورة لم تختلف عن الماضي في المغالبة والاستلاب السياسي والاجتماعي والرغبات الملحة في التمكين وأخونة مؤسسات الدولة دون الاقتراب من الواقع الفعلي للشعب الثائر وكانها لا تعي التاريخ ودروس الماضي مما شهدته مصر من تظاهرات وحملات غاضبة ضد الجماعة على مدار العام لهو خير دليل على أن هذا الفصيل كان يسير في الاتجاه الخاطئ ويسعى لأن يسير الوطن إلى مصير غامض ومجهول.
من مرسي إلى رابعة وعي الانفصال:
لأنه أول رئيس مدني منتخب “ملتحي” هكذا كانت أهم انجازاته وانجازات الجماعة غير أن السمة الأبرز المميزة لتلك المرحلة هي الفشل على كافة المستويات والأصعدة فبعد مرور عام على حكم الجماعة تحدث مرسي ليقدم كشف حسابه إلى الشعب “المتمرد” آنذاك يوم 26 يونيو / حزيران 2013، قائلاً “إنني أقف أمامكم كمواطن هو المواطن محمد مرسي قبل أن أكون رئيسا مسئولا عن مصير أمة ومستقبل شعب لاحدثكم حديث المكاشفة والمصارحة حيث الوقت لا يتسع لتجمل أو تلطف لعرض الموقف”… ولكن الوقت اتسع لما يقرب من ثلاث ساعات دون جدوى، ودون جدوى تحدث قائلاً “إنني أصبت أحيانا وأخطأت أحيان اخرى والخطأ وارد وتصحيحه واجب ومهنته كاستاذ وباحث تعلمه أن هناك خطأ يحدث ويجب تصحيحه وأن تصويب الخطأ هو الأهم وأن الوقت حان لتحويل ثورتنا وطاقتنا لطاقة بناء وتطوير” ورغم ذلك لم يذكر مرسي خطأ واحد يريد تصويبه لأن المؤامرات أو”الصوابع ” بحسب تعبيره كانت الجزء الاكبر من الخطاب أو هي الخطاب ذاته الذي لم يخلو أيضاً من كوميديا مؤكدا أن “الوقت قد حان لانتقاء السوس الذي ينخر في جنبات البلد، احنا غير قابلين للانضغاط”، على حد تعبيره.
إن عقلية كهذه وجماعة كهذه كان هبوطها إلى السفح مرة أخرى سريعاً ومباشراً بعد عام واحد فقط في 30 يونيو / حزيران وما تلاه في 3 يوليو / تموز 2013 ولأن العقلية التآمرية متأصلة لديهم ظنوا مرة أخرى بأنها حرب ابادة ضدهم، وخيانة تفاعلت فيها عناصر داخلية وخارجية للقضاء عليهم دون أدنى مسؤولية ذاتية عن الوضع الكارثي الذي آلت إليه مصر بعد عام واحد فقط من حكم الجماعة… فخسر الاخوان الكثير – كما يقول الدكتور محمد حبيب في مقال بجريدة المصري اليوم في 13 يوليو / تموز 2013 “- وخسر الوطن أكثر خلال عام واحد هي مدة حكمهم.. أصابهم الغرور والشعور بالزهو وظنوا أنها دامت لهم ولن تفلت من بين ايهديهم.. لكن النهاية كانت أقرب اليهم من شراك نعالهم”، ورغم مخاطبتهم “أيها الاخوان: حان وقت المراجعة” يخرج الدكتور صفوت حجازي في 1 يوليو/ تموز ليهدد “سيتم قطع رقاب رموز النظام السابق ورموز جبهة الانقاذ جميعاً في حال المساس بالرئيس مرسي”
فالمشروع الأممي لجماعة الاخوان المسلمين بدا وكأنه قد أوشك على الانهيار، ومن ثم عاد التنظيم الدولي والخاص للجماعة إلى واجهة الاحداث وظهر ثمة تشابه في الحديث عن مؤامرة كونية لإجهاض المشروع والجماعة والتنظيم في كل الساحات القطرية، التي تمتد اليها أذرع الاخوان واستنفرت من قبل التنظيم وهذا ما عبر عنه الامين العام للتنظيم بلندن ابراهيم منير بقوله “إن ما تم في مصر انقلاب عسكري على الشرعية والديمقراطية مكتمل الاركان وتم بالتعاون بين منفذيه في الداخل والغرب المعارض لمرسي أول رئيس منتخب في تاريخ البلاد”، ويكمل قائلاً “من قاموا بهذه الخيانة تلقوا تعليماتهم من الخارج وتجرؤوا على القيام بهذه الفعلة”،( موقع جريدة المصريون بتاريخ 15 يوليو / تموز 2013)، بل أن الحديث عن تلك المؤامرة الكونية كان قد تم الاعداد له قبل “يوم التمرد” ذاته حسبما ذكر نائب المراقب العام للجماعة بالاردن زكي بني ارشيد يوم 26 يونيو / حزيران أن “الخيار المصري استوجب مؤامرة كونية لاجهاض هذا المسار ولابد من تكاتف جميع المخلصين من المسلمين الاتقياء للدفاع عن شريعة المولى عز وجل، لأن المؤامرة تنخرط فيها اسرائيل واميركا وفلول النظام السابق والقوى الليبرالية وإيران وحزب الله ودول خليجية”، على حد تعبيره.
ورغم أن حالة الاستنفار العام أعلنت من قبل التنظيم الدولي دفاعاً عن أخوان مصر ولكن في الوقت ذاته فإن كل الساحات القطرية للتنظيم الدولي للجماعة انتفضت هي الأخرى ليست دفاعاً فقط عن اخوان مصر “الجماعة الام”، ولكن أيضاً لمعركتها القطرية ومستقبلها هي، لأنهم يعلمون أن الدور عليهم فـ “ما قام به الجيش في مصر لمست عصباً حساساً عند كافة قوى الإسلام السياسي على مستوى العالم”، بحسب ما ذكره الأمين العام للتنظيم ابراهيم منير ونقلته جريدة الوطن بتاريخ 12 يوليو / تموز 2013.
يصورونها وكأنها حرب أذن على الإسلام، وليست دفاعاً عن شرعية لرئيس معزول هكذا قال قادتهم وحلفاؤهم، فمن أعلى منصة اعتصام “رابعة العدوية” وهو الاعتصام الذي نظمته الجماعة وأنصار الرئيس المعزول، قال الدكتور صفوت حجازي بتاريخ 20 يوليو / تموز إن “التظاهر هنا ليس دفاعاً عن شخص الرئيس مرسي وإنما هو لله” معتبراً أن “اعتصام المتظاهرين جهاد في سبيل الله والشهادة مقابل نصرة دين الله”، لأنهم “أشرف من على هذه الأرض” بحسب قوله أيضاً أثناء مليونية “الشرعية خط أحمر في 28 يونيو / حزيران قبل “يوم التمرد”، بل أن تلك المؤامرة الكونية لم تمنع أحد قادة الجماعة الدكتور محمد البلتاجي باستدعاء الغرب ذاته (الذي هو متآمر ضدهم ايضاً) عبر لغة التهديد فيقول في مقابلة مع وكالة رويترز في 7 يوليو / تموز إن “الغضب الإسلامي يتصاعد ضد الدول الغربية لعدم مقاومتها الجيش المصري على خطوته في عزل الرئيس محمد مرسي”، محذرا من “تصاعد أعمال العنف مجدداً في المنطقة بسبب ما أسماه يأس الإسلاميين من العملية الديمقراطية”، وهو القائل أيضا أن “أعمال العنف ضد الجيش المصري وقوات الأمن ستتوقف في سيناء لحظة عودة الرئيس مرسي للرئاسة مع البقاء في الميادين والشوراع حتى ذلك الحين… صدورنا عارية وأقوى من الرصاص” على حد قوله.
ويؤكد ذلك المتحدث باسم الجماعة أحمد عارف في بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 14 يوليو / تموز حين يقول “نريد لمن يرغب في أن يجعلنا خصماً له ألا يستهين بنا كخصم… نحن لدينا تاريخ من الخبرة وتراكم أكثر من 80 عاماً ومررنا بمحن حتى لم يسمعوا بها ولدينا عمل مؤسس قوي قائم على معان تربوية ودعوية وبالتالي نحن خصم صعب لأن لدينا نسقاً عقائدياً”.
وبالفعل لا سفينة تحملهم ولا خشبة يتعلقون بها سوى هذا النسق العقائدي ففي بيان تحت عنوان “لا سفينة تحملنا ولا خشبة نتعلق بها” القاه الدكتور صفوت حجازي على معتصمي رابعة العدوية في 9 يوليو / تموز أكد فيه أن هذا البيان هو الممثل الوحيد لكافة المعتصمين وشبه فيه ما يتعرض له الاسلاميين الآن بما تعرض له الأوائل في مكة قائلاً أن “كفار مكة قاموا بمحاصرة المسلمين الأوائل في المدينة المنورة أثناء غزوة الخندق وخرجوا عليهم بجيوش ضخمة واشتد الامر على المسلمين دون أن يحقق جيش الكفر أهدافه” ولأنها ليس قضية فرد أو جماعة بل هي حرب ابادة وحرب على الإسلام هكذا يقولون أوضح البيان أن “الإسلام لن يقام إلا بجهد الفئة المؤمنة وجهادها المرير مشيراً إلى أن إقامة المشروع الإسلامي بعد التمكين لدين الله في الأرض لن يتم إلا من خلال التعلق التام بالله عز وجل مع بذل الجهد واستفناء جميع الأسباب المتاحة”، فما فعله القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي بالانحياز للإرادة الشعبية التي تجلت في “يوم التمرد” تحول لديهم إلى جرم يفوق هدم بيت الله الحرام هكذا يقول المرشد العام الدكتور محمد بديع في رسالته الاسبوعية يوم 25 يوليو / تموز “أقسم بالله غير حانث أن ما فعله السيسي في مصر يفوق جرماً ما لو كان قد حمل معولاً وهدم به الكعبة المشرفة حجراً حجراً موجهاً سؤاله للمملكة العربية السعودية هل لو كان فعل السيسي هذا يا حماة الحرميين الشريفين هل كنتم ستؤيدونه فيما فعل… أعدوا جواباً على هذا السؤال عندما تعرضون على من لا يخفى عليه منكم خافية”.
ولذلك كانت الرسالة قد وصلت من قبل التنظيم الدولي للجماعة ومفادها المضي قدماً في سيناريو “النفس الطويل” والذي يعتمد على استمرار الحشد في الشارع بدعوى أن من يستمر في الشارع مدة أطول سيستطيع أن يفرض شروطه وذلك بموازة التحرك والتصعيد على المستوى الدولي حيث دعا أحد قادة التنظيم رئيس حركة النهضة التونسية التي تقود الائتلاف الحاكم في تونس راشد الغنوشي اخوان مصر إلى الثبات حتى عودة الشرعية والرئيس قائلا بحسب جريدة الوطن بتاريخ 7 يوليو / تموز “اناشدكم أن تثبتوا كما عهدناكم ولا تعودوا ما بيوتكم حتى ترجعوا الشرعية إلى أهلها فيستمر مرسي إلى ما انتدبه الشعب”.
لعل المتابعة الدقيقة لجماعة الاخوان المسلمين على مستوى الوعي تشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى حالة من دوران الوعي لدى الجماعة في حلقة مفرغة لا طائل منها، وذلك بان تتحول العقول والأفكار ومن ثم الأفعال، إلى حلقات مستمرة من الإلحاق والاستلحاق أي إلى نفي متبادل للذات والآخر وانكار مستمر للعقل واجتناب عنيد للواقع المشخص وذلك اعتماداً على تعصب أعمى لافكار لا يرتاح لها العقل السليم لانها ليست وليدة سوى عالم مغلق لا يرى ألا ما يراه هو.
ملامح مأزق الوعي الإخواني:
– إن الوعي الأخواني يعتمد فكراً يتميز دائماً بالغموض والعمومية، ويرتكز على أن منهاج الاخوان هو الإسلام ليس كأحد التفسيرات أو الإجتهادات ولكن باعتبار أنه المعبر الحقيقي والوحيد عن الإسلام على قاعدة أن جماعة الاخوان يسعها ما يسع الإسلام، أو وفق منطق ضبط معنى الإسلام والسيطرة على تعريفه وتفسيره وتأويله، وهكذا في كل الأصوليات فإن الباحث عن الأصل والساعي إلى التماهي معه يقوم على تشتييت الأصل والحلول مكانه وهنا يكمن مأزقه في أنه يدعي استعادة الأصل أي التماهي معه في حين أنه يعمل على نسخه ويزعم أن الأصل بدء لا تاريخ له في حين أنه يسعى إلى تجسيده في التاريخ وخديعة مثل هذا الفكر أو الخطاب في أنه ينبني على وهم مزدوج مفاده أنه بنزوعه إلى الأصل ينزع إلى أن يصير هو الأصل، وهو بهذا النزوع دائماً ما يلجأ إلى العقلية التآمرية حيث ينحصر تفكيره الجمعي بين نمطي تفكير تآمري وتفسير تبريري فيقرأ التاريخ بماضيه وحاضره ومستقبله بتلك العقلية فيما يرى الآخر – أي آخر – وفق أنساق عقائدية يستحضرها من الماضي تتيح له في ذات الوقت تقديم تبريرات ينفي بها نفياً قطعياً أية مسؤولية ذاتية عما آل اليه حاضره، وبموازة ذلك يتوحد الفرد ذاتياً مع الجماعة إذ الفرد هنا ليس غاية في حد ذاته بقدر ما هو نسخة عن أصل يسبقه أو أسير لطبيعة تتحكم فيه أو منفذ لمشيئة عليا تتجاوزه، وهكذا وبحسب هذا النمط من التفكير والخطاب الأصولي لا قيمة للفرد إذ هو مجرد آداة تسخر لخدمة الأزلي والمتعالي، ومن ثم فإن الجماعة التي يكون أفرادها مجرد آلات تتحول إلى مجتمع لإنتاج العبودية فلا تصنع حرية.
– أنه دائماً عندما يختلط الديني بالسياسي، دون وعي أو بوعي، وعندما تتداخل الغايات الشخصية بالابعاد الروحية، لا شك يتقزم الدين في هوى السياسة بما يؤثر تأثيراً بعيد المدى على الدين والسياسة والمجتمع والأفراد لأن التيار الذي يتركب من تلك المخالطات والمغالطات وفي قلب منها جماعة الأخوان المسلمين قد يكتسب من ضيق الأفق شدة وقد يزداد من ضحالة الفهم صلابة وقد ينال من كثرة المغالطات وهماً بالصحة وقد يستفيد من توالي التوكيد خيالاً بالسلامة وقد يكسب من تكرار التلاعب بالألفاظ بريقاً وقد يتصور من ساتمرار رفع الشعارات تحقيقاً قريباً للآمال والاحلام ورغم أنه يغلق نفسه على نفسه ويمنع اتباعه من أي فهم صحيح أو اتصال سليم أو شرح واضح أو نقد لازم فإنه يقدم نفسه ضمن حملة غوغائية على أنه وحده – دون غيره – هو الخلاص والأمل والنجاة، ومن ثم فهو يعادي أي فكر غير فكره (والذي يسمى فكراً من قبيل التجاوز)، ويرفض أي منطق سوى منطقه (والذي يعد منطقاً من حيث الجدل) ويأبى أي حجة ما لم تكن حجته هو لذلك فهو لا يرد بالمنطق العام بل بالشائعات، ولا يجادل بالحسنى بل يرفع على الدوام عصا التهديد وسلاح الاغتيال، ولا يواجه بالعفو والتسامح بل بالعنف والعدوان، وهو يكذب ويتهم غيره بالكذب، يحرف ويتهم غيره بالتحريف، يزيف ويتهم غيره بالتزييف ، لسان حاله العاثر يقول: من ليس معي فهو ضدي ومن لم يتبع منطقي فلا منطق له، ومن لا يؤمن باهدافي فهو آثم باغ، ومن يقف في طريقي فهو كافر مرتد.
– إن الدخول الكثيف للعمل العام ومعترك السياسة لجماعة الاخوان المسلمين أو ما أسماه البعض بالتحولات التي طرأت على الجماعة، وصبغتها بالطابع البراجماتي خلال العقود القليلة الماضية، وتجلى بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 بالحصول على ترخيص لمزاولة العمل السياسي الحزبي، أثبتت تجربته خلال عام واحد فقط من حكم الجماعة، إن هذه التحولات لم تكن وليدة وعي حقيقي وموضوعي، أو تطور لوعي بضرورة التغيير والإندماج في إطار الدولة الوطنية المصرية كما أنه لم يأت وفق منطق الصيرورة الإجتماعية وآليات التكيف مع الواقع المجتمعي كما تصور البعض بل جاء في سياق منطق الرغبة واهدافها التي تتخفى وراء عباءة الدين
معارك الوعي الإخواني: استنزاف وتزييف:
الشئ الأكثر خطورة في المشهد المصري بعد ثورة 30 يونيو وعزل الرئيس الإخواني محمد مرسي، هو تصوير المجتمع مجالا للسيطرة المطلقة، الذي لا يكتفي باستثمار الخاضعين للسيطرة واستعبادهم بل يحرمهم أيضاً من الوعي أو يلمؤهم بالوعي المغلوط، بهذا التصور خاضت جماعة الاخوان المسلمين معركة الوعي والسلطة قبل وبعد الثورة المصرية، فالمخيال الأخواني، كما هو تنظيمهم، على مبدأ السمع والطاعة أو في تمثيلهم للطابع السلطوي والاستبدادي للدولة في النظر إلى السلطة باعتبارها زوجا مفهوميا تقابليا، يقع كل حد من حديه مقابل الآخر بمعنى أن السلطة قرينة على القوة بكافة أشكالها والقيام على الأمر العام، أما الشعب فهو محض موضوع يقع على فعل تلك القوة، والسلطة كناية عن التملك والحيازة والتمكين والشعب فقرينة واجب الطاعة مهما بلغت درجات حرمانه وبؤسه.. معنى ذلك أن هذا المخيال يتصور العلاقة بين الحاكم والمحكوم كثنائية تقاطبية وجهها الوحيد من أعلى أسفل بين سلطة تحكم شعب وتتحكم فيه أو هي في العقل الاخواني لا تخرج عن نموذج “الراعي والرعية” الذي ما فتئ أعيد إنتاجه بمساحيق عصرية تخفي تجاعيده حيث مازالت السلطة غنماً سياسياً للراعي وهو في هذه الحالة الجماعة ومكتب ارشادها، ومازال الشعب في نظر تلك السلطة الرعية التي يجب أن تساق بشتى الطرق، ومن ثم فلا وعي سوى وعي الجماعة وأعوانها والذي يجب أن يحتوي الآخر، الشئ – وهو هنا الشعب – ويجعله تابعاً له عن طريق محاولات تزييف وعيه حيناً واستنزافه حيناً آخر، وبالتالي خاضت الجماعة معركة الوعي على مستويين هما:-
أولا: معركة إستنزاف الوعي
في هذا الإطار- وبدون الدخول في تفاصيل – كان من الطبيعي أن عقود طويلة من الاستبداد قد أفضت إلى مجتمع مدني وسياسي منقسم على نفسه في العمق، وهو ما اكدته أول انتخابات رئاسية تعددية بعد ثورة 25 يناير / كانون الثاني 2011، والتي فاز بها الدكتور محمد مرسي مرشح جماعة الأخوان المسلمين بفارق ضيئل بنسبة 51,73 بالمائة في جولة الإعادة على منافسه الفريق أحمد شفيق أحد رموز النظام السابق، بيد أن الجماعة رغم ذلك لم تسع في سياق لم شمل وبناء المجتمع المنقسم بل زادت من انقسامه وتشرذمه بدء من الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي في 22 نوفمبر / تشرين الثاني والذي أعطى لنفسه سلطات مطلقة تجعله هو وقراراته فوق أي نوع من أنواع المساءلة أو الطعن، سلطات وحصانات من قبيل “لا يسأل عما يفعل وهم يسألون”، مروراً بالدخول في معارك شتى مع المجتمع ومؤسسات الدولة وقوى سياسية وثورية.. كل هذا أسهم بلا شك في شق المجتمع وتعميق تصدعه أو بالاحرى أنشق الضمير “نحن” أشطاراً الأمر الذي قاد إلى معارك سياسية وفكرية مع قطاعات من القوى والتيارات السياسية والحزبية لم يتحمل عبئها سوى المواطن الذي عاني أزمات لا حصر لها ذلك أن المجتمع أنطوى على ألوان من التنافر والتناقض التي تجمعت وتراكمت في هيئة فوضى أو كثوب ذي رقع شتى من أحلام وأفكار وايديولوجيات مختلفة بدا واضحاً انها لا تلتق وإن التقت فأنها سرعان ما تنعقد وتنفك وتخلف وراءها سلسلة من التجارب المجهضة فتعود العناصر المتضاربة إلى حالتها الأولى أي يعود كل فريق يتشبث بمسلماته ويتترس بنظرياته مدعياً الحقيقة وحيازة المعرفة فتتكلس الرؤى والتصورات وتتحجر المفاهيم والأفكار ويذهب كل فريق فرحاً ما لديه يرفض الآخر ويروم نفيه أواسكاته وهذا ما نعنيه بــ “استنزاف الوعي”، والذي تكون محصلته “الصفرية” هي النتيجة الطبيعية التي تتراكم جراء هدر واستنزاف الوعي، فتحزبت كافة القوى السياسية المدنية تحت مظلة “جبهة الانقاذ الوطني”، فيما شكلت جماعة الاخوان تحالفا من غالبية الحركات الإسلامية والسلفية، ولم يكن الصراع بين الجبهة والجماعة صراعا سياسيا بقدر ما كان في جوهره صراع هوياتي أي على هوية الدولة الوطنية.
وبتعبير آخر فإن محصلة “استنزاف الوعي” هذه كانت تعني في المقام الأول بالمعنى الوجودي وليس السياسي إستلاب الوعي وهدره بأن تتحول تلك التيارات المتصارعة ذاتها إلى مجموعة من الرموز التي تمارس وصايتها على المجتمع دون أن يكون لديها حقيقة ما تعطيه، وذلك حين يتم التعامل مثلاً مع الحقيقة أما كهوية ضائعة أو كفردوس موعود بحسب وجهي الإستلاب الدين أو العلماني، ففي المنظور الديني تبدو الحقيقة بمثابة هوية مستلبة قد جرى تحريفها أو تشويهها أو حجبها ولهذا فإن هاجس المنظور الديني هو التحرر من هذا الإستلاب بالعودة إلى الأصول لإحيائها والتماهي معها، وفي المقابل تبدو الحقيقة في المنظور العلماني بمثابة فردوس مفقود تتمثل في قيم العقل والإستنارة والحرية والعدالة التي ينبغي تحقيقها من أجل التحرر من هذا الفقد والإستلاب.
ثانيا: معركة تزييف الوعي
ولأن جماعة الاخوان المسلمين دخلت معركة الوعي بوعي مأزوم بالأساس لا يعي من ناحية حركة التاريخ التي أراد الشعب المصري من خلال ثورته في 25 يناير / كانون الثاني 2011، أن تبدأ في اتجاه تصاعدي دائم ومستمر إلى الامام وليس العودة إلى الوراء، وبوعي ممزوج بدافع الرغبة في التمكين والسيطرة يتخفى بعباءة الاسلام وبحتمية الانتصار فقد مارست الجماعة كل أشكال ومحاولات تزييف الوعي عبر الماكينة السياسية والإعلامية التي ساندتها مجموعة من وعاظ السلاطين لاصدار الفتاوى وتوظيف الدين في خضم السياسة من قبيل الترويج لفكرة أن الاخوان ليسوا طلاب حكم بل دعاة مبدأ، أو من خلال الثأر من كافة أنظمة الحكم السابقة وتشويه الذاكرة التاريخية لمصر، أو في أنهم الأوفر حظاً في الملاحقات الأمنية والاعتقالات وليس الصفقات السياسية طوال فترة حكم نظام مبارك… ألخ
ولذا كان من الطبيعي أن يحدث الصدام بين وعي محكومة عليه بالثبات جراء انغلاقه على ذاته ومعتقده الذي ينفي الآخر ولا يعترف له بحقه في أن يكون مختلفاً عنه إذ الاختلاف لديه هو نقيض الهوية وضدها إلي يتهددها ويعمل على استتباعها أو تسخيرها وتصفيتها من جانب، وبين وعي تفجر في ثورة يناير ولكنه شعر بخيبة أمل مريرة في ظل حكم الأخوان كان من السهل أن يتحول إلى تمرد وثورة أخرى على مصادر تلك الخيبة والممثلين لها بيد أن الجماعة لم تستوعب ذلك كما لم تدرك حقيقة مفادها أن الجماهير ليست كتلة صماء بل نسيج من المشاعر والرغبات والدوافع متمثلة في أفراد مختلفين في مستوى وعيهم وإدراكهم وفهمهم، ولكن حينما يحصل توافق بين اغلبيتهم حول مطلب او مصلحة جماعية ويدرك كل منهم مصلحته في ذلك وضرورة تحقيقها فإن الفعل المتوقع هو انضمام كل فرد منهم إلى نسق الفعل الجماعي لمواجهة الظرف أو العائق الذي يقف حائلاً دون تحقيق هذه المصلحة وتجاوز خيبة الأمل المريرة التي يشعرون بها حيث لا توجد وسيلة آخرى لتحقيقها خارج ذلك النسق الجماعي، ومن ثم كان الصدام حتمي بين وعي أراد إعادة انتاج الماضي مع تزييفه بغطاء الدين والديمقراطية وفق مفهوم تقزيم الدين واقحامه في هوى السياسة وصراعاتها، ووفق مفهوم ناقص ومشوه للديمقراطية، وبين وعي تحول إلى تمرد يحاول إنتاج المستقبل من خلال تجاوز عوائق الماضي وعثرات الحاضر وهو ما تمثل في الفعل الجماعي “تمرد”، والذي تحول خلال شهرين فقط من حملة لمجموعة صغيرة من الشباب إلى حركة شعبية واسعة الانتشار دعت إلى التظاهر يوم 30 يونيو / حزيران من أجل سحب الثقة من الرئيس محمد مرسي فيما عرف بــ”يوم التمرد”، فتحول اليوم إلى ثورة شعبية استجاب لها القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي بالإعلان في نهاية المطاف عن خارطة مستقبل تضمنت عزل الرئيس والإطاحة بجماعة الاخوان من المشهد السياسي وإجراءات محددة لفترة انتقالية ذات معالم واضحة، أوهو في السياق الأخير صدام بين وعي بمقولتين، وعي منغلق على أساس أن “عابد الصنم يموت دفاعاً عن حجر ميت”، ووعي يتحرك على أساس أن “الحر ليس حراً في أن يتخلى عن حريته”.
صدمة الإخوان وأساطير الوعي:
إذا كان بيت القصيد هنا هو مصير من تلقى الصدمة لا مصير من جاءت منه الصدمة، وهو هنا جماعة الأخوان المسلمين، التي تلقت الصدمة فينبغي الإشارة إلى أن مفهوم الصدمة هو مفهوم فيزيائي بالأساس وتتجلى طبيعته الفيزيائية في وظيفته التغييرية بالنسبة للذات ووعيها بذاتها وعالمها معاً ذلك، أن الصدمة ليست مجرد ايقاظا من نوم الغفلة، بل هي استحضار أيضا على صعيد الوعي بضرورة التغيير عن طريق التدخل الواعي في مسار وحركة التاريخ، ومن ثم فإن المفترض الأساس لميكانيكا الإحتكاك هو أننا لسنا أمام حالة صدام بين جسمين متحركين بل أمام حالة صدم جسم متحرك (وهو هنا وعي التمرد) لجسم ثابت (وهو هنا وعي الجماعة المأزوم والثابت)، ومن ثم فإن مدلول الصدمة هنا هو بالتحديد تلك الحركة التي تدب في الجسم الثابت فتجعل منه متحركاً ثانياً نتيجة لقوة الدفع التي تلقاها من المتحرك الأول، وفي هذا الإطار فإنه إذا كانت شحنة التنبيه والإيقاظ التي تأتي بها الصدمة ضمن طاقة الجسم المصدوم، وقابلة للهضم وإعادة التوظيف، تحولت إلى قوة دفع وحفز.
بالمقابل إذا كانت شحنة الصدمة من التنبيه فوق طاقة احتمال الجسم المتلقي وغير قابلة بالتالي للدمج والتوظيف (وهي حالة جماعة الاخوان) كان لها مفعول عكسي فبدلاً من أن تطلق في الجسم المعني آليات الدفاع السوي والتكيف الواعي من خلال تعرف الواقع ومواجهته تطلق على العكس الآليات اللاشعورية للدفاع المرضي من خلال العزوف عن تعرف الواقع وعن مواجهته، ومن خلال الغاء العقل النقدي والعزوف عن التعاطي الواقعي والعلمي مع العالم إلى التعاطي الخرافي والمؤامراتي معها
من قبيل أن ما جرى في يوم التمرد وما تلاه هو صناعة القوات المسلحة أو “فوتوشوب” على تعبير قادتهم، مما يجعلها ترتد بسرعة إلى القوقعة مفضلة البقاء فيها على مواجهة المصاعب والصدمات والتحديات، ومحاولة ايهام نفسها وإيهام الغير بأن ما حدث لها ليس ناجماً سوى عن مؤامرة كبرى ضدها، وبالتالي فإن هذه الأسطرة للوعي والعودة للعزلة الشعورية عن الواقع وأحداثه
ويبدو التعلق بماض لا ترى غيره وهم أمل نحو المستقبل، وحينما تشتد صدمة الوعي تستعيد من هذا الماضي أشرس ما فيه بممارسة العنف ظناً منها أنه الخيار الوحيد لبقائها ووجودها وهو في حالة جماعة الاخوان المسلمين استدعاء ظاهرة “الإسلام القطبي” نسبة إلى أفكار سيد قطب المتعلقة بالمجتمع الجاهلي، وإعادة انتاجها والتي تكفر المجتمع والدولة بحثاً عن شرعية وجودية جديدة
لكنها في السياق الأخير خروجاً من التاريخ ولكن لم يستمر العنف يوما رمزيا أو عمليا مجالا للعيش أو التعايش بل طريقا للاندثار..