يعتبر مفهوم العدالة الجوهر الأساس الذي تتمحور حوله تراكمات الإنتاجات الفكرية والمعرفية عبر العصور. لقد احتل هذا المفهوم مرتبة الصدارة في مصوغات الشعارات السياسية منذ القدم. طابعها المثالي مرتبط لدى الإنسانية بالسماء. ربطت البشرية في مختلف المحطات التاريخية هذا المفهوم بأبعاد الكرامة والحرية الوجوديتين. توالت الديانات وتحولت إلى مرجع مقدس له وقع قوي على الحياة الوضعية للشعوب والأمم. إنه الوقع الذي نتج عنه تقابل أنعش المشاهد السياسية عبر التاريخ بأرضيات إيديولوجية متنافسة. البحث عن العدالة الحامية للكرامة أرضا بقي متواصلا مرتبطا بالأوصاف والسرديات المبهرة المتعلقة بعالم المثل (العالم الآخر). هذا الأخير، بأطروحاته السامية المحبوكة، التي تجاوزت بشكل دائم الإدراك متعالية عن الواقع، حولت طبيعة مفاهيم العدالة والكرامة والحرية والمساواة إلى حلم متداول بقوة في أماكن العبادة وداخل الأسر وفي كل الأوساط الاجتماعية. في نفس الآن، تسبب هذا التقابل في تصادم فكري، اتخذ في بعض الفترات طابع المناظرة والتقارع المعرفي والفقهي والفلسفي، وتارة أخرى تحول إلى صراع دموي عنيف، تمخض عنه تباين كبير في تعريف العقل في مختلف الحضارات التاريخية.
المنطلقات والنتائج واضحة. لقد تم التعاطي مع مفهوم العقل غربا، في حقبة ما بعد النهضة الأوروبية، على كونه وعاء عضوي للتفكير (Organe de raisonnement)في الحساب وحل المعادلات والإشكاليات المعقدة وآلية عضوية مبهرة تسعى لاكتشاف القواعد الرياضية والعلمية لتسهيل حياة الإنسان الغربي أرضا(La raison) . بينما بارك المسلمون تعسفا مفهوم العقل كمرادف لمنع الذات عن ارتكاب الفواحش على غرار الرد المشهور للرسول صلى الله عليه وسلم “أعقلها وتوكل”، متخلصين بذلك من عبء وعناء تنشئة الأجيال على التفكير الرياضي والفلسفي، وما تتطلبه من جهود معرفية وتربوية دائمة.
ساد الاستهلاك جنوبا للمنتوجات المادية للعقل الغربي (أوروبا وأمريكا) والشرقي (الصين وروسيا). اشتد التسابق بقوة بين معتنقي مفهوم العقل الحسابي العلمي من أجل جعل كشف أسرار الكون مصدرا للتفوق الحضاري. لم تجادل ولم تمانع لا الصين الشعبية ولا روسيا ولا الهند إعلان النظام العالمي الجديد في التسعينات. لقد ساهم هذا الإعلان بترسانته القانونية والمؤسساتية والعسكرية في ترسيخ الوعي بمتطلبات المنافسة بين العالمين، وبالغايات منها، ارتباطا بمفاهيم العدالة والكرامة والتفوق الحضاري. برزت مرجعيات جديدة طورت مفهوم الدولة بين المعسكرين (دولة الزعيم بروسيا (الكاتب أردوغين) والصين) والدولة الديمقراطية الليبرالية (الغرب الأمريكي والأوروبي). توج مسار الاحتكاك والتصادم السلمي التنافسي في سياق العولمة بالتراجع الأمريكي عن المبادئ الليبرالية المؤسسة على فكرة حرية حركية السلع والخدمات ورؤوس الأموال وإلغاء الحواجز الجمركية.
ونحن نعيش في المغرب في سياق دولي بتحولاته السريعة، لا يمكن أن لا نتساءل عن مصائرنا في زمن التقلبات المناخية والسياسية في العالم. المؤسسات الدولية لا تصنفنا في الوسط بشكل صريح وعلني، بل لا زال المجتمع المغربي يصارع المطبات الخطيرة التي تميز الهوامش المعقدة لعالم الألفية الثالثة.
والقوى الدولية تتنافس بكل السبل من أجل تحقيق السبق في تراكم الثروات وازدهار حياة شعوبها، لاحظ المتتبعون بالمغرب عودة انبعاث الإشارات هنا وهناك في مجال حقوق الإنسان وكأن إشكاليتي “العدالة الانتقالية” و”الانتقال الديمقراطي” لا زالتا مطروحتين ومسيطرتين على المشهد السياسي والإعلامي منذ تسعينيات القرن الماضي. لا زال الحديث شائعا في شأن الحالات الحقوقية العالقة وأزمة إنتاج النخب. لا زال صدى المطالبة بمناهضة التعذيب وعدم تكرار تعسفات الماضي مدويا في المنابر الإعلامية الرسمية وغير الرسمية. الحديث عن ربط حقوق الشعب المغربي السياسية بالحقوق المادية لا زال مؤجلا. لم تتمكن الدولة من الحسم النهائي في علاقتها مع النخب ضحايا سنوات الجمر والرصاص. لا زال البحث عن مصوغات جديدة في مجال حقوق الإنسان مرتبطا بالماضي. المجلس الوطني لحقوق الإنسان لا زال تائها بدون مبادرات حاسمة ومقنعة. تتراكم الملفات لدى مؤسسة الوسيط ومؤسسات الحكامة بحلول لا تجسد الإنصاف والتسويات النهائية المطلوبة.
لا أحد يجادل في المركزية الناجعة والناعمة التي أصبحت تتمتع بها ملكية العهد الجديد. لقد أصبح القصر قائدا حريصا على التنفيذ التقني الدقيق للمشاريع المهيكلة للتراب الوطني من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب منفتحا على القارة السمراء. كما ترتب عن استقلال القضاء عن الجهاز التنفيذي بعض التقدم الواضح في مجال محاربة الفساد وبالتالي ظهور نوع من الحرص النسبي لربط المسؤولية بالمحاسبة.
إن “حق المغاربة في الثروة الوطنية والنماء” لن يتحول في اعتقادي إلى شعار عملي وواقعي إلا في الحالة التي تترجم فيها الإرادة السياسية إلى آليات ووسائل كافية وناجعة لاستهداف تنمية الحقوق الاقتصادية للمواطن المغربي. التماهي مع عدم اتمام الحسم الموضوعي النهائي السريع لملف حقوق الفاعلين السياسيين الأحياء والأموات، ضحايا تعسف وانتهاكات الماضي والحاضر، لا يمكن تصنيفه إلا في خانة هدر الزمن التنموي الذي لا يرحم. لن تستوي مقومات الوطن إلا في حالة التفاتة مؤسساته بشكل كامل إلى المواطنين بدون تمييز لخدمتهم وإدماجهم في أوراش تنمية ترابه. دعامات طمأنينة الوطن واستقراره تتجلى في توفره على دولة العدالة والكرامة والحرية والمعرفة والإنتاج.
ما ينعت اليوم بالتوغل السياسي يمكن اعتباره استراتيجيا مجرد محطة إيجابية بالنسبة للدولة. فهناك من يعتبره خيارا لربح الوقت وتوسيع هوامش الفعل الزمنية بشكل كاف لتهييء البدائل المؤطرة للمراحل اللاحقة. وهنا لا يمكن الحديث عن الحكمة والتبصر في قيادة الدولة لأوراش إضعاف الهشاشة المجتمعية بالتدرج والمضي قدما في اتجاه خلق ركائز جديدة لتوطيد بنيتها المقاومة للعواصف المستقبلية إلا في الحالة التي تتكاثف فيها جهود مؤسسات الحكامة والقضاء بشكل نزيه مستهدفة تحويل الفعل العمومي وماليته إلى منفعة تمكن الناخبين من تذوق لذة السياسة.
الكل اليوم يتحدث عن القدرة الفائقة للمخزن الأصيل على التجاوز السياسي لمنطق الماضي بخبرة ومهنية واحتراف …. لقد تجاوز الوطن بنجاح منزلقات خطيرة للغاية …. الظروف الوطنية والإقلمية والدولية تستوجب الدخول المدروس في مرحلة الاستقطاب والتعاقدات الجديدة الكفيلة بربط مسلسل إنتاج النخب السياسية بنجاعة ومردودية الفعل التنموي. فلنهيئ لأبنائنا اليوم قبل الغد مغرب التضامن والإنصاف والمساواة والعيش الكريم.
الحسين بوخرطة
مهندس رئيس ممتاز