حزب البعث ما بين العفلقيّة والسلفيّة.
دراسة تحليلية لفكر ومسيرة حزب البعث سأقوم بعرضها هنا على حلقات, آمل أن تجد حضورها عند من عاش تجربة البعث في سورية بشكل خاص.
الحلقة الأولى:
د. عنان عويّد
( إن أصدق مرآة للنفس الإنسانيّة هي الأعمال, ولا أكتمك أنني كلما فكرت أنني سأكرس نفسي للكتابة أخجل في داخلي وأحتقر نفسي نوعاً ما, لأن الكتابة ليست غايتي العميقة, بل أنظر إليها
دائماً كأنها شاهد عن عجزي عن العمل ودليل نقصي.)
مشيل عفلق
بهذا الموقف المنهجي الذي يقطع فيه عفلق الفكر عن الممارسة, ساد عند الكثير من البعثيين الموقف ذاته من الفكر ودوره في إغناء الحياة النضاليّة للحزب, على اعتبار أن هناك علاقةً جدليةً ذات تأثير متبادل بين الفكر والممارسة, فكلاهما يغنيان ويكملان بعضهما بعضاً في النشاط الحياتي للفرد والمجتمع بشكل عام, وللأحزاب التي تدعي الثوريّة كحزب البعث من جهة ثانية. وبناء على هذا الموقف المعادي للفكر, والتركيز على الممارسة في المنهج النضالي للبعث كما أراده عفلق, جاء نضال البعث في مسيرة نضاله الطويلة كما سيمر معنا, قائماً على السير في خطى المناهج الفكريّة القائمة على مبدأ أو منطلق الروحانيّة والإيمانيّة المشبعة بالارتجاليّة والكسل العقلي والذاتيّة والثرثرة الثوريّة والسطحيّة, وقد ساهم هذا الموقف المنهجي المثالي الذات واللاأدري في تكريس روح الأيديولوجيّا (التلفيقيّة) وخاصة ما بين مفهومي الأصالة والمعاصرة, حيث أن الكثير من البعثيين فهموا الأصالة في شقها الماضوي السلفي كقيم تراثية أصيلة, شكلت المنبع الثر لقيم البعثي, ومحاولته العمل دائماً على بعث هذه القيم من جديد على اعتبارها بالتالي هي وحدها الحقيقة الغائبة, والتي باسترجاعها والاتكاء عليها ستعيد للعرب كرامتهم المهدورة ونهضتهم المفوته حضاريّاً وفي مقدمتها تطلعاتهم القوميّة, في بناء وحدة الأمّة وتحقيق حريتها وعدالتها, وتخليصها من الاستعمار والاستغلال, وتنميتها لبناء مستقبل يضع لها مكانتها التي تستحقها بين الأمم بعد أن فقدتها تاريخيّاً. ونظراً لقوة هذا الموقف الأيديولوجي الماضوي المتأخر كثيراً عن روح العصر, وهو الموقف السائد, أو المتجذر أصلاً في عقلية الكثير من أبناء هذه الأمّة المشبعة بالثقافة الشفويّة الفقهيّة بروحها السلفيّة, وبالرغم من الشعارات أو الأهداف الثوريّة التي طرحها الحزب على نفسه لقيادة نضال هذه الأمّة المفوّته حضاريّاً نحو نهضتها, وهي (الوحدة والحريّة والاشتراكيّة), ظلت أيديولوجيا الجمود والتحجر هي السائدة في عقلية قسم كبير من البعثيين حتى مع إقرار المنطلقات النظريّة للحزب في المؤتمر القومي السادس عام /1963/, بكل ما تحمله هذه المنطلقات النظريّة من رؤى ومواقف فكريّة عقلانيّة تقوم على العلميّة والثوريّة, ورفض الاستسلاميّة العلميّة, وحتى بعد تطبيق الكثير من مضمونها أثناء استلام تيار حركة /23 شباط 1966/ السلطة, استمرت العقلية الماضويّة سائدة في فكر وعقلية معظم البعثيين, حيث ظل البعثيون كغيرهم يعيشون زمناً غير زمنهم من حيث رؤيتهم للكون والطبيعة والتاريخ والمجتمع والدولة والإنسان, مع استمراريّة العقليّة الإيمانيّة القائمة على التقوى والطاعة والامتثال والتصديق والرضا والتسليم والقناعة وضعف الإنسان وعجزه أمام قوى الطبيعة والغيب والقدر, هذا إضافة إلى قناعاتهم بأن ما قرره السلف الصالح من حقائق تاريخيّة ستظل صالحة لكل زمان ومكان, وبالتالي تجد الكثير من البعثيين يفتخرون بشافعيتهم وحنبليتهم وسلفيتهم … وغير ذلك من مرجعيات تقليديّة ما ضوية أكثر من افتخارهم بانتمائهم لعقيدة البعث. فموقف البعثي من الماضي وضرورة استحضاره دائماً, هو موقف ثابت في عقيدته وبنيته الفكريّة (الرسالة الخالدة), على أنه – أي الماضي – وحده القادر على تحقيق كرامتنا وانسانيتنا ونهضتنا وتجاوزنا لتخلفنا. وهم هنا لا يختلفون في موقفهم من الماضي عن العقليّة السلفيّة الدينيّة التي تقول أيضاً: كلما ابتعد الناس عن تاريخ السلف, كلما تلوثت حياتنا وسادتها البدعة والضلالة, وبالتالي فإن الابتعاد عنه هو سبب بلاء هذه الأمّة ومصائبها, ولن يصلح حاضر هذه الأمّة إلا بما صلح أولها.
إن هذه العقليّة الماضويّة التي لم يستطع البعث في كل مراحل تاريخه النضالي أن يتجاوزها أو يستبدلها حتى بعد تبنيه الفكر العقلاني التنويري الذي حدد سماته بالعلميّة والثوريّة في منطلقاته النظريّة. قد أثبتت الأيام بأنه الفكر الأقوى والأكثر سيادة وتجذراً في نفسيّة وعقليّة البعثين وسلوكياتهم قبل غيرهم حتى هذا التاريخ, (فصائل النقشبندية في العراق, والكثير من البعثين في السورية الذين التحقوا بداعش والنصرة ومعظم الفصائل التي حملت السلاح ضد الدولة تشكل أنموذجاً ساطعاً على ذلك). لا سيما وأن الفهم العاطفي والسكوني لدلالات شعار (الرسالة الخالدة) ظل مهيمناً على عقليّة البعثيين الماضويّة, بدلاً من استلهام هذا الشعار من خلال ربطه جدليّاً بين مفهومي الأصالة والمعاصرة.
بعيداً عن الدخول في تفاصيل تاريخ نشوء حزب البعث ونضالاته في مرحلة الصراع على سورية بعد تشكل نواته الأولى مع بداية العقد الخامس من القرن الماضي, عام 1943 من قبل (مشيل عفلق والبيطار) بعد قدومهما من فرنسا عام 1943, وطرح ما تأثرا به من أفكار الاشتراكيّة الدوليّة الأوربيّة, ممثلة بأفكار “أندريه جيد, ورومان رولان” المشبعة بالروح الفرديّة التي تأثر بها عفلق نفسه, أكثر من تمسكهما بالروح الجماعيّة, وبالرغم من تأثرهما إلى حد ما باالمنهج المادي للماركسيّة, إلا أنهما كان أقرب إلى بما يسمى الاشتراكيّة الدوليّة. بيد أن هذا التأثر بالماركسية لم يكن في حقيقة أمره إلا شكليّاً, الأمر الذي دفعهما, كما دفع “مشيل عفلق” إلى القول بأن الماركسية ليست أكثر من: (طريقة في الحياة, أو علاج ميتافيزيقي يضع حداً للحرب والاستقلال), وبالتالي هي ليست منهج عمل قادر على رسم الكثير من الحلول الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة للمجتمعات وتخليصها من عوامل استغلالها وغربتها وظلمها الطبقي أو الاستعماري, أو هي ليست منهجاً يعمل على كشف القوانين الموضوعيّة والذاتيّة لحياة الطبيعة والإنسان وبالتالي القدرة على تسخير هذه القوانين لمصلحة الإنسان الماديّة والروحيّة معاً. وبعيداً أيضاً عن استقالة عفلق والبيطار من التدريس في وزارة التربية والتعليم السوريّة عام 1943, من أجل التفرغ لقيادة الحزب, دون معرفة من كان الممول لهذا الحزب, على اعتبار أن أكثر أعضائه من الطلاب (المغلسين ماديّا), آنذاك, مع الإشارة طبعاً إلى أنهما استطاعا أن يفتحا فروعاً للحزب في الأردن والعراق, المسيطر عليهما من البيت الهاشمي, وهو البيت الذي كان يناضل “جلال السيد” أحد أعضاء اللجنة التنفيذيّة الخمسة التي تشكلت بعد المؤتمر التأسيسي الأول عام 1947, من أجل ضم سورية إلى حلفه.
إن كل الذي يهمنا حقيقة في هذه الدراسة المتواضعة هنا, هو تقديم رؤية نقديّة لفكر الحزب ومؤسسه الذي كان قريباً في اطروحاته التي غلب عليها المسخ الأيديولوجي والثرثرة الثوريّة, مروراً بقيام المؤتمر القومي السادس عام 1963, الذي خرج من عباءته الفضفاضة طبقيّاً وأيديولوجيّاً ما سمي بالمنطلقات النظريّة للحزب, هذه المنطلقات التي ظل الصراع الطبقي والأيديولوجي داخل تنظيم الحزب نفسه يدور حول قبول أو رفض مقدمتها التي أقرت بأن أيديولوجية الحزب تمتاز بسمتين أساسيتين هما: (العلميّة والثوريّة) حتى أقرها المؤتمر القومي السابع 1964, إلا أن كلا السمتين غيبتهما الممارسة وشهوة السلطة في سورية والعراق معا, حيث غُيب الكثير من منطلقات الفكر العقلانيّة التي قالت بها المنطلقات النظريّة فيما بعد, وأصبحت مستجدات الواقع وأزماته وتحديات السلطة الداخليّة والخارجيّة, تفرض على القيادات الحزبيّة الاستنقاع في التكتيك على حساب الاستراتيجيّة في سياسة الحزب من أجل استمراره أو استمرار قياداته في السلطة.
كاتب وباحث من سوريّا
الحلقة الثانية :
قلنا في عرضنا السابق إن عفلق والبيطار مؤسسا الحزب, لم يكونا من حملة الأيديولوجيا ولا حتى المنهج الفكري العقلاني, ولا هواتها, وخاصة عفلق, وهو الذي حاز على حضور واسع في الحياة الفكريّة والعمليّة في حياة الحزب منذ تأسيسه. لقد كان أديباً ويميل لكتابة الشعر والقصة, وهو الذي يقول عن نفسه : (بأن السياسة هي ملجأ الكاتب الفاشل),(1). كما يذكر أيضاً في إحدى كتاباته: بأنه لم يقرأ أي كتاب منذ عام 1956, كونه لم يجد في الفكر ضالته, فالممارسة والعمل المجرد أفضل من أية نظريّة على أرض الواقع, وهي الأساس عنده.
على العموم , لقد تأثر عفلق إلى حد ما بالماركسيّة, وفهم الاشتراكيّة كما فهمتها الاشتراكيّة الفرنسيّة الدوليّة, أي الاشتراكيّة الاصلاحيّة, مثلما تأثر بالنظريات الألمانيّة حول المسألة القوميّة, هذه النظريات التي يذكر عفلق تأثره بها بقوله: ( لقد تعلمنا من الفلسفة الألمانيّة بأن هناك شيئاً أعمق من الأحداث الظاهرة, أو العلاقات الاقتصاديّة في تفسير مسيرة التاريخ, ونمو المجتمع, وهذا ما عدل فلسفتنا الماديّة).(2). فعفلق وفق موقفه الفكري هذا, يشير وبكل وضوح إلى رفضه للبعد المادي الجدلي في تحليل الظواهر الاجتماعيّة والسياسيّة. أي هو يرفض الرؤية الجدليّة التي تربط بين الواقع والفكر والممارسة في تحليل الظواهر, وهو موقف يأخذ في الاعتبار دور ومكانة العلاقات الاجتماعيّة بكل مكوناتها الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والروحيّة والأخلاقيّة, وغيرها من العلاقات المؤثرة في سيرورة وصيرورة هذه العلاقات ذاتها. فالعامل الروحي القائم على العاطفة والوجدان والرغبة والحدس والإرادة الذاتية والحلم, تعتبر عنده هي الأساس في تحقيق طموحات وأهداف حزب البعث, وبالتالي فإن منطلقاته الفكريّة هنا ظلت تتحرك في مضمار المنطلقً المثالي, والمثاليّة كثيراً ما تؤمن بالثبات ورفض الحركة والتطور والتبدل في الظواهر في اتجاهيها المادي والفكري معاً. وهذا الأمر أو التوجه الفكري المثالي ظهر واضحاً بقوله حول ظاهرة المسألة (القوميّة)” : ( إن القوميّة حقيقة خالدة…وإن القوميّة هي المحبة قبل أي شيء آخر, ولا يمكن للعرب التخلص من الضعف والمصاعب التي تواجههم إلا عندما يحبون بعضهم وأمتهم وأرضهم حباً خالصاً لاريب فيه.).(3).
إن عفلق في موقفه البروغسوني (العاطفي ) والبراغماتي (النفعي) اتجاه المسألة القوميّة, يقوم باستعاضة الفعل القائم على المنطق الجدلي (بحشد فوضوي) للعواطف والانفعالات والمشاعر والإرادة الذاتيّة لتحقيق أهداف محددة.
إن الظاهرة القوميّة وهي المنطلق الأساس لفكر الحزب, تأتي عنده في المحصلة مسألة إيمان كالدين تماماً, لا تقوم على التناقض والصراع بين من يجدون مصالحهم في تحقيق المسألة القوميّة وبين أعدائها في الداخل والخارج, إن فهم هذا التناقض والصراع الذي يتطلب حله نضالاً طويلاً ضد أعداء الداخل قبل الخارج, يغيب في فهم عفلق, وبالتالي في فكر حزب البعث منذ تأسيه حتى عام 1963. وإن مسألة التعايش أو (التصالح الطبقي) في فكر الحزب وممارساته العمليّة أدركها بعض البعثين من الرعيل الأول كما يذكر “هاني الفكيكي” في كتابه (أوكار الهزيمة) على لسان “صالح السعدي” بقوله: ( هل من المعقول أن يجمعني حزب واحد بـ “فيصل الخيزران” الذي كان والدي يشد حذاء أبيه ويربطه؟.). (4).
إن مسألة المثاليّة هذه, أو الروحانيّة العفلقيّة التي غيبت البعد الطبقي والجدلي في فهم وتحليل الظروف الموضوعيّة للوجود الاجتماعي الذي ينشط فيه الحزب, جعلته يغرق في عالم الممارسة بطريقة انتهازيّة تقوم على فكرة الخطأ والصواب والتكتيك وسياسة الأمر الواقع, وهذه مسألة سنتطرق لها مرة أحرى في هذه الدراسة, خاصة بعد أن أعلن عفلق إسلامه وتخلى عن مسيحيته, وألقى محاضرته عن أهمية الإسلام تحت عنوان: (ذكرى الرسول العربي), التي قال في ختامها: (إذا كان محمد يمثل العرب جميعاً فعلى العرب أن يكونوا كلهم محمداً.). فمع إلقائه هذه المحاضرة يكون مشيل عفلق قد حدد المسار المنهجي والفكري للبعث, ونقله من العقل إلى النقل… من الواقع العياني إلى التراث بجموده وسكونيته وتناقضاته, مع تأكيدنا بأن مسألة العقل في فكر البعث وشعاراته قبل ذلك كانت ضبابيّة ويغلب عليها الموقف (البروغسوني) العاطفي كما بينته مقولات عفلق التي جئنا على بعضها أعلاه.
لقد ظلت العقلية العفلقيّة في فكر الحزب سائدة في الحقيقة حتى هذا التاريخ, هذه العقليّة التي تجلت في فهم أهداف الحزب وشعاره ممثلاً في رسالته الخالدة عند الكثير من البعثين على أنها قدر حتمي لكل عربي, فروح البعث موجودة في كل فرد طالما هو ينتمي للعرب والإسلام المحمدي, ويحمل في داخله جوهر الرسالة الخالدة. والقوميّة عند عفلق لا تحتاج إلى تحليل مقوماتها وعناصرها, وهذا ما يؤكده (بروغسون): (بأن التحليل إنما هو التفكيك للأشياء إلى عناصر ثابته, غير أنه تحليل لن يؤدي إلى عالم مجرد أجوف.). وهي عند عفلق بدهيّة أوليّة لا تحتاج إلى برهان, لذلك هو يؤكد في كتاباته بأن التحليل يعري الأمور من لحمها ودمها, ويقود إلى عدم الدقة وإظهار المتناقضات بمظهر المتشابهات, وتحويل الحقائق إلى مجرد كلمات, فكلاهما عفلق وبروغسون يرفضان الاستقراء والاستنباط ويعتمدان (الرؤية الفطريّة), لأن الرؤية الفطريّة تنفذ إلى الأشياء دون وسيط وما هو فطري وإيماني لا يحتاج إلى برهان, وقومتينا العربيّة عند عفلق ومعظم البعثيين حتى هذا التاريخ هي فطريّة وإيمانيّة, كما سنرى في عرضنا لرؤيته في أهداف الحزب ورسالته, رغم التوضيحات التي تناولت طبيعة ومكونات المسألة القوميّة وبقية أهداف الحزب في الحريّة والاشتراكيّة من الناحية الطبقيّة وآليّة عملها ومساراتها والعلاقة العضويّة بينها, وغير ذلك, كما جاء في المنطلقات النظرية للحزب ومنهجها العلمي.
أهداف الحزب كما يراها عفلق:
رؤيته على مستوى الوحدة: إن تجسيد مفهوم النضال عنده من أجلها لم يُفهم على أنه نضال بين قوى مستغِلة تجد في التجزئة مصالحها, إن كانت قوى استعماريّة أو قوى رجعيّة, أو أي قوى مُسْتِغَلْةَ للجماهير العربية الفقيرة والمضطهدة, وإنما جاء فهم النضال عنده على أنه إعادة بناء تؤدي إلى إصلاح الشخصيّة والمجتمع العربيين بعد أن انهيارهما تاريخيّاً, وهذا لا يتم إلا بوصول العرب إلى التخلص من الارتباطات الإقليميّة والدينيّة الطائفيّة والعشائريّة, وتحريرها من كل التناقضات, ووصول العرب إلى القيم الإنسانيّة الخالدة. فالوحدة عنده هي البحث عن (كنز الأمّة الدفين… ومنابع القوميّة المعنويّة الروحيّة.). (5). وليست ممارسة تقوم على وعي بأسباب وجود عوامل التخلف فيها ومن هي القوى الاجتماعية المسببة لها, وكيفيّة تجاوزها. لذلك عندما تعامل عفلق مع القوميّة كحالة سياسيّة, لم تخرج في الحقيقة عن كونها (حب), حيث يقول: (إن القوميّة هي المحبة قبل أي شيء آخر, ولا يمكن للعرب التخلص من الضعف والمصاعب التي تواجههم إلا عندما يحبون بعضهم, وأمتهم وأرضهم, حباً خالصاً لا ريب فيه.). (6)
أما رؤيته للحريّة: فُتفهم من جهة على أنها الحريّة الفرديّة التي تضمن حرية الكلام, والاجتماع والاعتقاد والفن, ثم هي الاستقلال الوطني والقومي والتحرر من الاستعمار, وتحرير الشعوب المستعمرة من جهة ثانية. وهذا ما أكد عليه دستور الحزب المقر في المؤتمر القومي الأول بشكل واضح1947. وهذا الفهم للحريّة جاء بعيداً كل البعد عن تبيان العوامل الحقيقيّة التي تساعد على تجسيد هذه الحريّة, ويأتي في مقدمتها طرح المفاهيم الفلسفيّة في فهم الحريّة على أنها الضرورة الواعية المرتبطة بالممارسة مع مصالح القوى الاجتماعيّة المضطهدة اقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً وقيميّاً. لذلك ظلت الحريّة في ممارسة حزب البعث غائبة داخل الحزب وخارجه, فعلى مستوى الحزب فإن كل التحولات التي جرت داخل تنظيمه كانت تجري أو تقوم بفعل حركات ذات طابع عسكري أو يشارك بها العسكر إلى حد كبير, (حركة 23/ شباط, وحركة سليم حاطوم, والحركة التصحيحية..), كما كان هناك غياب واضح للديمقراطيّة داخل التنظيم, حيث سادت المركزيّة على الديمقراطيّة, وأصبحت القيادات الحزبيّة بعد الحركة التصحيحيّة تصل إلى السلطة وقيادة الحزب ومنظماته ونقاباته واتحاداته تتحكم بها القيادات العليا للحزب, ومع وصول بشار الأسد إلى السلطة أعطى هامشا ديمقراطيّاً في اختيار القيادات الحزبيّة والمنظمات الشعبيّة والنقابات المهنيّة, إلا أن هذا الهامش الديمقراطي ظل محكوماً بضعف عدد المرشحين للمناصب حتى يتسنى للمركز أن يختار من يأتي تقويمه الأمني موافقاً لما يريده المركز, أو القوى الحاكمة وهي هنا مختزلة بالقائد الملهم بشار الأسد. أما على مستوى الدولة والمجتمع, فقد غاب الرأي والرأي الآخر, و غابت حريّة الصحافة والتعدديّة السياسيّة الفعالة, عدا وجود جبهة وطنية فقدت في الحقيقة الكثير من استقلالية عملها, بل إن قيادة حزب البعث استطاعت تحت لعبة (الجزرة) أن تفتت هذه الجبهة إلى أحزاب عديدة هامشيّة, ظل قسم منها يعلن انتماءه لزعامة حزب البعث أكثر من انتمائهم لعقيدة الحزب الذي ينتمون إليه. ومن الطريف في الأمر في هذا الاتجاه الانشقاق الذي حدث في عام 1998 في صفوف الحزب ” الوحدوي الاشتراكي” حيث تشكل منه جناح أخذ اسم الحزب نفسه, مع إضافة عبارة ” المكتب السياسي”. أوإن الأمين العام للحزب ومؤسسه اعتبر المرجعية الأساسيّة لأيديولوجيّة للحزب كما جاء في الملصق المعلن وعليه صورة الرئيس الراحل حافظ الأسد, هو فكر حافظ الأسد. أما التيار المنشق فقد وضع على ملصقه صورة الرئيس بشار الأسد كرئيس فخري للحزب, مع طرح شعار الأسديّة.
أما الاشتراكيّة: فهي رديف للقوميّة عند مشيل عفلق , وهي ضرورة منبثقة من صميم القوميّة العربيّة, لأنها النظام الأمثل الذي يسمح للشعب العربي بتحقيق إمكانياته وتفتح عبقريته… وهي عند عفلق أيضاً أداة للرقي المعنوي للشعب بأكمله, أكثر منها جملة وصفات لمشكلات اجتماعيّة واقتصاديّة محددة. لقد رفض أو تخلى عفلق عن الاشتراكيّة الأوربيّة كونها ماديّة, وآمن بـ (الاشتراكيّة العربيّة), التي اعتبرها نقيض الاشتراكيّة الأوربيّة, وقد ربط بين الاشتراكية والقوميّة ربطاً عاطفيّاً, فهي كما يقول: ( الاشتراكيّة هي الجسد أما الوحدة الشاملة فهي الروح)..( 7)
أما رؤيته لمفهوم الانقلاب, فقد حدده بقوله: (إننا نفهم الانقلاب هو اليقظة الحقيقة, التي لم يعد مجال ابتكارها أو التشكيك فيها, إنها يقظة الروح العربيّة في مرحلة فاصلة من مراحل التاريخ الإنساني.. إن الانقلاب قبل أن يكون برنامجاً سياسيّاً أو اجتماعيّاً, هو هذه الحركة الدافعة الأولى, وهذا التيار النفسي القوي.. هذه المغالبة التي لا بد منها والتي لا يفهم أي بعث للأمة بدونها.).(8 ). إن الانقلاب عنده يقوم هنا بداية على محرك عاطفي نفسي دافعه الأساس يقظة الروح العربيّة التي تتحرك في مرحلة تاريخية لا يعرف هو ذاته ماهي طبيعة هذه الروح ومن يحركها وكيف تتحرك, وبعد ذلك يأتي البرنامج السياسي والاجتماعي لتجسيد أهداف هذا الانقلاب الذي لم يحدد حوامله الاجتماعيّة.
أما رؤيته للرسالة الخالدة: فهو يقول فيها : (يسألون ماذا نعني بالرسالة العربية الخالدة؟. إن الرسالة العربية لا توضع في الفاظ نذيعها, ولا في مبادئ توضع لها المناهج, ولا تتضمن مادة للتشريح, إن هذه الأشياء كلها زائفة ميته… إنها هي حياتنا وذاتنا.. إنها الاقرار باغتناء الحياة بتجربة عميقة صادقة تتناسب عظمتها وشمولها مع عظمة الآمّة العربيّة وعمق آلامها التي عانتها, وهول الأفكار التي تهدد وجودها. إن هذه التجربة الحيّة الصادقة ستعيدنا إلى ذاتنا.. إلى حقيقتنا الحيّة وهي ستجعلنا نتحمل مسؤولياتنا وستضعنا في الدرب الصحيح كي نناضل ضد هذه الأمراض والعقبات والأحوال الزائفة, كي نحارب الظلم الاجتماعي والاستغلال الطبقي وعهود الأنانيّة والرشوة والاستغلال, كي نصارع الطغيان مزيف الإرادة الشعبيّة, والمهين لكبرياء العرب كمواطن ورجل من أجل مجتمع حر يستعيد فيه كل عربي وعبد لذاته, ووجوده وأنفته وفكره ومسؤوليته. إنها التجربة التي تتكون عبر نضالنا… تجربة الآمّة العربيّة التي تنظر إلى الأقطار كلها مصطنعة وزائفة.. إننا سنناضل إلى أن نوحد هذه الأجزاء فنقم دولة سليمة طبيعيّة لا يمكن لفرد واحد صارم أن يتكلم باسم الجميع, وإلى أن نتخلص من هذه الحالة الغريبة الشاذة, وعندما يكون في مقدور العرب أن يتوحدوا ويمكن لأرواحهم أن تسموا ولأفكارهم أن تنضج ولأخلاقهم أن تستقيم فيتضح المجال أمام العقل العربي ليُخلق, إذ أن العرب جميعاً اصبحوا أمّة واحدة, في كيان واحد. إن هذه التجربة الصادقة النضال ضد الظروف القائمة بحالتها الطبيعية, هي رسالة الأمّة العربية). ( 9). نعم بهذه الخلطة من الرؤى والمفاهيم الإنشائيّة والشعاريّة التسويقيّة السطحيّة والساذجة إلى حد السخريّة في فهم (الرسالة الخالدة) ستتحقق النهضة العربية, كما نظر أيضاً إلى دور الإسلام في تكملت مهام هذه الرسالة حيث يقول: (إن الإسلام هو شكل آخر للحقيقة الخالدة للأمّة العربيّة يمكن قبوله والرجوع إليه, كحضارة وثقافة قوميّة إلى جانب كونه ديناً… والإسلام ليس إلهاماً إلهياً فحسب, وإنما هو بشكل جزئي أيضاً استجابة لحاجات العرب زمن محمد, وأحد منابع العروبة… (كما يقول ايضاً): إن الإسلام هو حركة عربيّة تعكس نضوج العروبة وتجددها, ولا خوف من حصول تصادم بين القوميّة والدين, لأن القوميّة كالدين تنبع من القلب ومن إرادة الله وهما يسيران يدأ بيد تدعم إحداهما الأخرى خاصة عندما يمثل الدين عبقريّة الأمّة وينسجم مع طبيعتها.(10). وبمثل هذه الوصفة السحريّة والانشائيّة والتسويقيّة لفهم الدين ودوره التاريخي أيضاً في حياة الأمّة التي اشتغلت على العاطفة والرغبة والطموح الإرادي, يأتي الربط التلفيقي بين العروبة والإسلام التي قدمها عفلق لرسالة البعث الخالدة, يريد لهد الأمّة أن تنهض لتخرج من مازقها التاريخي المفوّت حضارياً.
نقول هنا: أمام هذا التفيكر الوعظي والارتجالي, المشبع بالكسل العقلي والرؤى الذاتيّة والعاطفيّة التي قدمها حزب بعث في دستوره, وعبر كتابات مؤسسه “مشيل عفلق”, سادت الفوضى الفكريّة والطبقيّة للحزب حتى انعقاد المؤتمر القومي السادس للحزب عام 1963. هذا المؤتمر الذي أراد ان يخرج الحزب حقيقة من مأزقه الطبقي والفكري ويدفع به باتجاه الأحزاب الثوريّة في تلك المرحلة. إلا ان عسكرة الحزب حالة دون ذلك.
يتبع.
كاتب وباحث من سوريا.
ــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1- ( – الصراع على سورية 1945-1958– باتريك سيل- دار طلاس – دمشق – 1996-ص200. ).
2- ( -المرجع نفسه –ص205).
3- ( – المرجع السابق على التوالي – ص- 206و 207. ).
4- ( – هاني الفكيكي- أو كار الهزيمة – دار الريس – لندن وقبرص- 1993- ص 66. ).
5- ( – بتريك سيل- المرجع السبق, ص205. ).
6- المرجع نفسه –ص 207
7- المرجع السابق- ص207.
8- – المرجع نفسه- 207
9– المرجع نفسه- ص 208.
10- المرجع نفسه- ص 209.