عاشت الحروشية، الراعية الأمازيغية، بنفس متغلبة على مساوئ وشرور الحياة في بلدتها الصغيرة في جنوب إمارة سيكا. كانت تستيقظ كل صباح مع الفجر، توقظ قطيع غنمها بحنان الأم وحرص القائد. توجه تعليماتها لرئيس القطيع، فيتبعها القطيع بتناسق تام. النعاج تتقدم بهدوء، ويتبعها الخرفان جريًا ونشاطًا. لم تكن مجرد راعية؛ بل كانت رمزًا للجديّة والالتزام في كل لحظة من لحظات حياتها.
أحبها قطيعها حبًا لا مثيل له. اعتادت أن تخرج يوميًا في العتمة، غير عابئة بلسعات البرد القارس أو زخات المطر المفاجئة. تعلّمت تلحين الصفير بلسانها وفمها، محوّلة كل نغمة إلى أمر لا يُمكن تجاوزه. كان الحب والحنان والرعاية أساس تقوية انضباط القطيع واستجابته لتوجيهاتها. أمضت طفولتها متأملة أسرار الطبيعة، وربطت حياتها بحياة قطيعها بطريقة فريدة. كانت تتقاسم معهم الجزء الأكبر من خبز شعيرها، وتجلس بينهم مبتسمة، تهدي لكل منهم قطعة خبز مدهونة بزيت الزيتون. مع الوقت، تعلم القطيع معنى التضامن والوفاء، وأصبح مستعدًا للتضحية من أجل “الزعيمة”. تحولت “معمعات” القطيع إلى عبارات نضال من أجل سعادة الحروشية.
في يوم مشمس من أيام الربيع، خرج العز الولاني، ابن قائد القبيلة، ممتطيًا حصانه للصيد في الغابة. كان برفقة فريق من الحرس الذين عينهم والده لحمايته وتنشيط يومه. عندما اقترب من قمة الجبل، لفت انتباهه مشهد الحروشية مع قطيعها. كانت قصيرة القامة، لكنها تمتلك جمالًا يجذب القلوب، وبساطة تأسر النفوس. تعجب من انضباط قطيعها دون كلب مدرب أو عصا كباقي الرعاة. كان صفيرها العذب هو آليتها الوحيدة.
عاد العز إلى بيته، ينتظر بفارغ الصبر انتهاء والده من جلساته القضائية. وعندما سنحت الفرصة، ارتمى على يد أبيه مقبلًا إياها، متوسلًا أن يزوجه الحروشية. صرخ القائد مستنكرًا: “أتقصد تلك الراعية ابنة الرجل العجوز؟”. أجاب العز بتوسل: “نعم، نعم يا أبي”. تهاطلت دموعه على وجنتيه من شدة الخوف من رفض أبيه، وأخذ يقنعه بعبقرية تلك الفتاة التي لم يصادف مثلها قط. بعد إلحاح شديد، وافق القائد على مضض.
عاد سلام، ابن الحروشية، إلى مسقط رأس والدته. صعد الجبل مسترجعًا كل ما حكاه والده عنها. كانت والدته دقيقة السلوك والتصرف ومبدئية في كل شيء، وقد أسر له والده أن مكانتها عنده لا تقارن بأحد. تمعن سلام في مفهوم “القطيع” وحسن انضباطه، الذي كان دائم الحضور في حديث أبيه.
الوفاء لذكرى والدته الحروشية والتزامها بقيم الكينونة البشرية أصبح مصدر إزعاج لسلام في حياته. بصفته موظفًا ساميًا، ورث عن والدته نزاهتها وصدقها وشفافيتها، ما جعله مصدر خوف للسلطات. حالت جديته وكفاءته دون أن تُفتح أمامه الأبواب الموصدة.
تسببت رسائل رؤسائه التي تحثه على التكيف مع الأوضاع الفاسدة في إصابته بالكآبة. نشأ سلام على مبادئ واضحة. القانون هو مصدر التكيف، وليس العكس. وفي جلسة أخيرة مع أحد أصدقائه المقرّبين، قال سلام بحسرة: “معضلات وطني مستعصية. تجاوز القانون لتلبية ضغوطات التكيف هو إجرام ملفوف بالمخاطر. التذرع بتجاوز الواقع سلبيًّا للتراكمات التشريعية هو حق يراد به نشر الباطل”.
انتشرت قصة الحروشية كالنار في الهشيم في الأوساط الشعبية. حل سلام ضيفا على كل الملتقيات والتظاهرات الفكرية والأدبية والفنية. عمت الوقفات تراب الإمارة. رددت الجماهير كل مرة وبدون انقطاع عبارة : “ربيع الحروشية، ربيع الحروشية،….”. لم تبق القصة مجرد حكاية عن راعية غنم. شاع الحديث عربيا ومغاربيا عن هذه المرأة النموذجية وابنها سلام. الكل أصبح يتحدث بصوت مرتفع عن مواجهة منظومة تعيد إنتاج الظلم بأساليب شرعية في واضحة النهار. استقبل الأمير سلام استقبال الأبطال. أعرب له عن رضاه. دعم سلام من طرف المجتمع والمؤسسات وتحولت القصة إلى شعار جعل إرادة التغيير قائمة في نفوس من يحملون إرث الحروشية وقيمها.