(*) المقال عن صفحة “فيس بوك” الاخ الفاضل محمد سعيد السعدي
مرت اثنان وأربعون سنة على رحيل المفكر الاقتصادي والاجتماعي الفذ والقائد السياسي الرفيع عبد العزيز بلال الذي وافته المنية بالولايات المتحدة سنة 1982 حيث كان يتواجد ضمن وفد مغربي رسمي لعقد توأمة بين مدينتي الدار البيضاء وشيكاغو.
ان تخليد ذكرى وفاته مناسبة لاستحضار ما يزخر به مساره من دروس وعبر تتعلق أساسا بما قدمه من فكر لا زال حيا وذي راهنيه كبيرة حتى يومنا هذا، وما راكمه كفاعل سياسي مارس السياسية بمعناها النبيل.
اعتبر نفسي محظوظا كوني تعرفت على عزيز بلال فقيد الحركة التحررية المغربية، عن بعد في مرحلة أولى حيث كنت احد طلابه في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، قبل ان تتوطد علاقتنا بعد التحاقي بحزب التقدم والاشتراكية سنة 1976.وقد مكنني هذا الموقع من التعرف عن قرب على شخصية عزيز بلال المفكر الاقتصادي والاجتماعي والمناضل المناهض للرأسمالية والإمبريالية والمؤمن بقيم العدالة الاجتماعية والاشتراكية. وتلازم هذان البعدان في شخصية عزيز بلال يجعل منه المثال بامتياز للمثقف العضوي كما نظر له الفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي انطونيو غرامشي. فالمثقف العضوي يعمل على “نشر أفكار طبقته قدر الإمكان وصياغتها ضمن أيديولوجية واضحة أي توحيدها في منظومة موحدة لضمان تجانسها، ذلك ان هدفه الرئيسي هو هيمنة طبقية على المجتمع وفرض مصالحها والدفاع عن حقوقها” ….وهو “ينصهر في قضايا مجتمعه وطبقته ويسعى الى التغيير والهيمنة وتحقيق أهدافه , ويحمل وعيا كبيرا بمشاكل المجتمع ويسعى لتوظيف معارفه قدراته لتحقيق تطلعات الطبقات العاملة مواجها الفكر الرأسمالي المهيمن والمسيطر على النظام الإنتاجي الاجتماعي وكل الجوانب القانونية والسياسية في المجتمع”(1 ).
سنتطرق في هذه المساهمة الى البعدين الفكري والنضالي في شخصية عزيز بلال قبل طرح بعض الملاحظات حول راهنية فكره وممارسته النضالية على ضوء المستجدات والتطورات التي برزت منذ رحيله عنا.
1عزيز بلال، المفكر الاقتصادي والاجتماعي الماركسي (غير التقليدي)
يتمحور فكر عزيز بلال حول إشكالية مترابطة العناصر تتكون من التحرر الوطني، الثورة الاجتماعية, التنمية والتطور الحضاري في بلدان “العالم الثالث”. يقوم بتحليلها باعتماد المادية التاريخية كمنهج علمي لتحليل الواقع الملموس. هكذا يعرف هذا المفكر التنمية بوصفها “عملية سوسيو تاريخية للتحول الاجتماعي العميق تطال البنيات التحتية السوسيو اقتصادية (أي القاعدة المادية للمجتمع والمكونة من قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج) والبنيات الفوقية ( السياسية وطبيعة الدولة, الأيديولوجيا, الثقافة, الخ.). ; وقد استمد أدوات تحليله لظاهرتي التخلف والتنمية من نظرية التبعية في صيغتها الماركسية حيث يعتبر ال”التقدم و”التأخر” وجهان لعملة واحدة بحيث ينجم عن تطور “المركز” (البلدان الرأسمالية المتقدمة تخلف بالدان “الأطراف” , وهو ما يعبر عنه بالتطور المتكافئ (نتيجة للفروقات بين مستوى الأجور بين المركز والأطراف الذي يفوق الفرق في إنتاجية العمل بينهم), مما ينجم عنه تحويل للفائض الاقتصادي عبر التجارة الخارجية (تدهور معدلات التبادل التجاري) ومن خلال التبعية للرأسمال الأجنبي (تحويل الأرباح وريع البراءات على سبيل المثال) وللسوق العالمية للرساميل وللمنظمات المتعددة الاطراف (البنك العالمي وصدوق النقد الدولي).ويؤدي هذا المسار الى تفاقم الاستقطاب على الصعيد العالمي مع ما ينجم عنه من تعميق لظاهرة التخلف. وقد عبر عزيز بلال عن علاقات التبعية هاته بشكل بليغ من خلال التأكيد ان ” التخلف لا يمكن فهمه فهما صحيحا الا اذا “وضع على رجليه «باعتباره جزء عضوي من كتلة سوسيو-تاريخية متحركة ومنتوج فرعي لتطور الراسمالية الامبريالية العصرية”.
غير ان معالجته لهذه القضايا تمت على مراحل حيث خصص المرحلة الاولي (ستينيات القرن الماضي بصفة عامة) لتحليل البنيات التحتية للمجتمع المتخلف بتركيزه على علاقة الاستثمار بالعملية التنموية قبل ان يركز في المرحلة الثانية من ابحاثه على دور البنيات الفوقية من خلال دراسته لما سماه ب”العوامل غير الاقتصادية للتنمية”. وقد حرص على عزيز بلال على ان يصاحب التحليل العلمي للظواهر الاقتصادية والاجتماعية بتقديم البدائل, خاصة ما تعلق بالاستراتيجيات التنموية البديلة الضامنة للتقدم والتحرر والمساعدة على التطور الحضاري. سنعرض لهذين المرحلتين تباعا.
1.1 تحليل أليات انتاج التخلف بإعمال نظرية التبعية
نظرا لأهمية عملية الاستثمار( أي تخصيص موارد من اجل الزيادة في وسائل الإنتاج المادية) في العملية التنموية بفعل تأثيره العميق على مستوى القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج وانعكاساته على البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية, اختار عزيز بلال التركيز عليه لاستجلاء اليات انتاج التخلف محاولا استخلاص الدروس المستفادة من دراسة الاستثمار بالمغرب خلال الفترة 1912 -1964.وبما ان الفترة المختارة تغطي في معظمها مرحلة الحماية الفرنسية على المغرب , فقد انصب التحليل على دور الاستثمار الأجنبي بشكليه الخاص والعام, في افراز نمو اقتصادي مشوه وتدمير والحاق البنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية بركب التبعية للرأسمالية الأوروبية. وقد ميز هذا الاقتصادي اللامع بين نوعين من القطاعات الاقتصادية، النوع الأول حضي بحجم استثمارات كبير (خاصة في البنيات التحتية وقطاعات التصدير، بالإضافة لبعض الصناعات الخفيفة والأنشطة الخدمية) جلها موجه لتلبية حاجيات “المتروبول” الفرنسية من مواد أولية ومنتجات فلاحية. بالمقابل، تم تهميش قطاعات أخرى بالرغم من أهميتها في العملية التنموية , خاصة القطاع الفلاحي التقليدي والصناعات الثقيلة والاساسية والصناعة التقليدية, بالإضافة الى الاستثمار الثقافي (أي الموارد العمومية المخصصة للتعليم والتكوين المهني).
لقد نجم عن هذه التركيبة غير المتوازنة للاستثمار وتسريب تأثيراته الى الخارج خلال الحقبة الاستعمارية نمو اقتصادي مشوه وتابع لاقتصاد المتروبول، ولا يستجيب لمتطلبات التنمية الاقتصادية بوصفها “عملية تراكمية متواصلة للإنتاج تطال الاقتصاد برمته نتيجة تحولات بنيوية عميقة تمكن من افراز محركات ذاتية وداخلية للتراكم والتقدم”. ويلاحظ عزيز بلال بان الامر لم يتغير كثيرا خلال مرحلة ما بعد الاستقلال (1964-) 1956.ذلك ان ضعف سياسات الاستثمار أدت الى عدم تحقيق اهداف المخطط الخماسي 1960-1964 لأسباب جوهرية منها الفشل في توفير الادخار الكافي لتمويله، بالإضافة الى غياب سيطرة الدولة على المفاصل الأساسية للاقتصاد المغربي.
1.2البدائل: معالم استراتيجية بديلة للتنمية المعتمدة على الذات
لم يكتف عزيز بلال بإبراز كوابح التنمية في بلدان “رأسمالية الأطراف”, بل اجتهد في رسم معالم استراتيجية بديلة للتنمية كما عرفها بشكل دقيق. في هذا الاطار ودون الدخول في التفاصيل (رغم أهميتها) , يشدد عزيز بلال على ضرورة وإمكانية تحقيق معدل عالي للتراكم الذاتي (الداخلي) لراس المال. وهذا يتطلب احداث تحولات سوسيو-اقتصادية عميقة ونظام اقتصادي واجتماعي ملائم. ويذكر على الخصوص اهمية احداث تغييرات أساسية على مستوى المؤسسات (طبيعة ملكية وسائل الإنتاج، مخططات التنمية، بنوك التنمية، مؤسسات التنسيق بين القطاعات, الخ.).غير ان طبيعة المؤسسات هاته مرتبطة اشد الارتباط بالطبقات الاجتماعية الحاكمة والآليات التي تعتمدها لتوجيه منوال التنمية المعتمد من طرفها.
ان تعظيم معدل التراكم الذاتي لراس المال يقتضي تعبئة الفائض الاقتصادي المحتمل (أي الفرق بين الناتج الاجتماعي الإجمالي والاستهلاك الضروري لتجديد قوى العمل المتوفرة) , وهذا يمر بالخصوص عبر محاربة الاستهلاك الكمالي غير المنتج والتبذير والفساد , بالإضافة الى تعبئة القوى العاملة غير المشغلة للمساهمة في اوراش عمومية, خاصة بالعالم القروي. ويؤكد عزيز بلال على الدور المحوري الذي ينبغي على القطاع العام والدولة بصفة عامة لعبه في هذا المجال بالنظر الى حجم الفائض الاقتصادي المراد تعبئته من اجل الرفع من معدل التراكم الذاتي (أي الداخلي) لراس المال واخذا بعين الاعتبار تقاعس القطاع الخاص وميله الشديد للربح السريع والسهل، واعتبارا كذلك لضرورة تسريع وتخطيط التنمية الاقتصادية المقترحة.
اما فيما يخص التوزيع القطاعي للمجهود الاستثماري، فينبغي التركيز على الصناعات الثقيلة والاساسية (الصلب والحديد، الكيماويات، الصناعات الميكانيكية الخ.) والزراعة في مرحلة اولى بالإضافة الى الاستثمار الثقافي والصناعة التقليدية، مع الحرص على تعبئة القوى العاملة غير المشغلة في الأرياف في اطار اوراش عمومية وشعبية (فك العزلة عن العالم القروي، عمليات التشجير، الخ.)
غير ان ترجمة هذه الأولويات التنموية الى واقع ملموس يحتاج الى احداث تغييرات عميقة في المؤسسات واعتماد نظام اقتصادي واجتماعي جديد يضمن تعبئة المجموعة الوطنية، خاصة المنتجين الحقيقيين (العمال والفلاحون) والفئات الاجتماعية التي لها مصلحة في انجاز استراتيجية للتنمية الاقتصادية معتمدة على الذات وموجهة لتلبية حاجياتها الأساسية.
ان تنزيل هذه الاستراتيجية وانجاحها يقتضيان تبني نظام اقتصادي واجتماعي جديد ومغاير للبنيات الموجودة التي تكرس التبعية للخارج بالإضافة الى البنيات الاجتماعية والزراعية العتيقة والعقليات البالية.
في هذا الاطار، يلح عزيز بلال على اعتماد مؤسسات أساسية للتنمية مكونة من القطاع العام والتعاونيات، والاقتصاد المختلط، بالإضافة الى هيئات التخطيط ومؤسسات التعبئة والمشاركة الشعبية. ان من شان مشاركة الساكنة في تدبير الأدوات التقنية للتنمية الصناعية والزراعية والاجتماعية ان تصبح رافعة قوية لتربية المنتجين وتحفيز روح المسؤولية ولمبادرة لديهم. وهذا لن يتأتى الا في ظل دولة تمثل حقيقة مصالح اغلبية الساكنة، خاصة الفئات الأشد حرمانا منها, وليس مصالح اقلية متنفذة تخاف من احداث تغييرات الاجتماعية واقتصادية قد تعصف بمصالحها الضيقة.
ان هذه التحولات البنيوية ذات الطابع المؤسساتي والسوسيو-سياسي والايديولوجي ستحظى باهتمام أكبر في المرحلة الثانية من المجهود العلمي والفكري لعزيز بلال.
1.3 أهمية العوامل غير الاقتصادية للتنمية في فكر عزيز بلال
لقد خصص عزيز بلال مؤلفا خاصا سعى من خلاله الى تكملة المجهود الذي خص به القاعدة المادية (الاقتصادية) للمغرب من خلال التطرق للبنيات الفوقية للتنمية، وهي ما سماها بالعوامل غير الاقتصادية للتنمية. وقد حدد في مقدمة هذا الكتاب الصغير في حجمه (مائة صفحة) والعميق في محتواه ومقاصده الهدف المتوخى ولخصه في تسليط مزيد من الضوء على العوامل غير الاقتصادية (العوامل السياسية والأيديولوجية والثقافية) وعلاقاتها الجدلية مع العوامل الاقتصادية للتنمية. ويدرج مفكرنا المتميز هذا الاهتمام في اطار البحث عن تجديد جذري للمقاربة الشمولية لظاهرتي التخلف والتنمية.
ينطلق عزيز بلال من ازمة الفكر التنموي التقليدي وتجلياتها في العالم الثالث ليؤكد بان انعتاق الشعوب من اسر التبعية والاستغلال رهين بتجاوز العوامل المحبطة ذات الطابع الاجتماعي والايديولوجي، معتبرا الأخيرة “مفتاح إشكالية التنمية”. سنكتفي في هذا المجال بالتركيز على هذين العاملين الحاسمين في المشروع التنموي والنهضوي الذي كرس عزيز بال حياته لبلورته وانجاحه.
فيما يتعلق بالعوامل الاجتماعية، ركز منظرنا الاجتماعي على دور الطبقات الاجتماعية في العملية التنموية، وخصوصا المالات التي نجمت عن فشل البورجوازية المغربية والبورجوازية الصغيرة بالعالم العربي في تحقيق الوعود التي قدمتها لشعوبها غداة الحصول على الاستقلال السياسي.
في حالة المغرب مثلا, حلل عزيز بلال الدور المعطل للمسار التنموي الذي لعبته الاولغارشية (بما فيها الفئات البيروقراطية العليا) والبورجوازية الزراعية من خلال سلوكها الاقتصادي, وتحالفها مع الرأسمال الأجنبي (خاصة عبر المغربة) لتكريس التبعية للرأسمالية الامبريالية ودفاعها عن المنوال الاقتصادي الليبرالي, وكونها المستفيد الأول من اكراميات المقدمة من طرف “رأسمالية الدولة التابعة” التي وضعت هذه الأخيرة في خدمة القطاع الخاص(التمويل العمومي, السياسة التجارية الحمائية, الإعفاءات الضريبية والولوج التفضيلي الى الصفقات العمومية وقربها من مركز القرار السياسي, الخ.) . ومع مرور الوقت، ترسخ تداخل المصالح هذا بين البورجوازية المغربية الكبيرة وأصحاب القرار على صعيد الإدارة العليا من جهة، وبين الأولى والمصالح الأجنبية من جهة أخرى, مما يتعارض مع متطلبات التنمية الوطنية المضطردة والمعتمدة على الذات.
من جهة أخرى، يثير عزيز بلال شكوكه حول قدرة البورجوازية الصغيرة (يعرفها على انها “كتلة” من الفئات الاجتماعية المتوسطة تحتل الفضاء السوسيو-اجتماعي الذي يميز البورجوازية عن الطبقات المستضعفة من عمال وفلاحين) في العالم العربي على اعتماد مشروع تنموي نهضوي مناوئ للرأسمالية الامبريالية، هذا رغم أهمية الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية التي حققتها لفائدة شعوبها. ويرجع هذا الإخفاق الى عدم اجراء تحولات عميقة في الطبيعة الطبقية للدولة وفي البنيات الأيديولوجية الفوقية للمجتمع، في غياب توسيع الفضاء الديموقراطي لفائدة العمال والفئات الشعبية العريضة وفي ظل عدم اشراك القوى الثورية والتقدمية في اتخاذ القرار للحفاظ على المكاسب المحققة على طريق الاستقلال الاقتصادي ومواصلة مسار التحول الاجتماعي. هذا بالإضافة الى نفي وجود الصراع والتناقضات الطبقية من طرف البورجوازية الصغيرة العربية.
يرجع اهتمام عزيز بلال بالعوامل الأيديولوجية والثقافية الى إيمانه العميق بضرورة تعبئتها من اجل ارساء المشروع النهضوي والتحرري الوطني. ويشير في هذا المجال الى القيم والمبادئ المشرقة في الحضارة العربية الإسلامية، محذرا في نفس الوقت الى ضرورة التصدي النقدي لثلاثة تيارات:
التيار الماضوي – السلفي الذي يدعو الى الرجوع الى “الجذور” على صعيد القيم الثقافية والأيديولوجية والأخلاقية، تحت غطاء الدفاع عن “الثقافة والهوية الوطنية”, والحال انه يدافع فقط على مصالح وتصورات فئات اجتماعية محافظة ورجعية. ويحيل في هذا الصدد الى موقفه من قضايا المرأة والمساواة بين الجنسين ووضعية الطبقات الشغيلة. كما ينتقد عزيز بلال التيار “التكنوقراطي- الحداثي” الي يسعى الى محاكاة العالم الرأسمالي، واضعا ثقة عمياء في “العامل التكنولوجي” لحل مشاكل التنمية، مزدريا استعمال اللغة العربية لصالح لغة المستعمر ومتجاهلا للجماهير الشعبية وقدراتها الإبداعية. أما التيار الثالث الذي يصفه منظرنا الاجتماعي ب”العدمي”, فانه ينزع أي قيمة ثورية على التراث الثقافي الموروث ويدعي بانه رجعي ومتخلف, متجاهلا المبادئ الأولية للجدلية الاجتماعية والدروس المستخلصة من تجارب الحركات الثورية الكبرى المعاصرة !!
ع بلال لم يكن عالم اقتصاد فقط بل مفكرا مجتمعيا ومثقفا عضويا كان يؤكد في دروسه الجامعية بان” كل نظرية لا تؤدي الى الممارسة العملية ليست لها فائدة” (ترجمة لمقولته من الفرنسية), وهذا يحيل مباشرة الى الفكر الماركسي الذي يؤكد بان مهام المفكر ينبغي ان تؤدي الى تغيير العالم وليس فقط فهمه او تفسيره (“اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم (……..)ولكن المهم هو تغييره”)
2عزيز بلال , المناضل الملتزم تجاه القضايا العادلة ومصالح الطبقات الكادحة
لقد تعددت واجهات النضال المجتمعي لعزيز بلال حيث طالت المجالات السياسية والنقابية والثقافية.
احتل عزيز مواقع قيادية في الحزب الشيوعي المغربي ووريثيه “حزب التحرر والاشتراكية وحزب التقدم الاشتراكية”, ولعب دورا بارزا في اشعاعهم على الصعيدين الوطني والدولي. وقدم مساهمات متميزة في هذا المجال انطلاقا من استيعابه العميق لقوانين تطور المجتمعات وتمكنه من اليات تحليل الأوضاع الاقتصادية وطرح البدائل لتجاوز مرحلة التخلف وضمان التقدم والتطور الحضاري. وقد حظيت قضية كفاح الشعب المغربي من اجل تثبيت مغربية الأقاليم الصحراوية المسترجعة حيزا هاما من اهتماماته ونشاطه النضالي, خاصة تجاه اليسار الأوروبي الذي اعتمد تقييما خاطئا لعدالة قضية الوحدة الترابية للمغرب بفعل خلطه غير البريء بين نظام الحكم المغربي والشعب المغربي, بالإضافة الى المركزية الأوروبية المفرطة التي ميزت مقاربته لقضايا العالم الثالث (انظر حزب التقدم والاشتراكية, عزيز بلال مناضل في الحياة وشهيد في الممات ,مطبوعات البيان, 1982).وقد كان عزيز بلال يعتبر بان النصر النهائي للقضية الوطنية مرتبط بشكل جوهري بإحداث تغيير جذري في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية من خلال تأميم القطاعات الاستراتيجية للاقتصاد المغربي والقيام بإصلاح زراعي شامل واعتماد عدالة النظام الضريبي وتفعيل ديمقراطية حقيقية تمكن الشعب المغربي من حكم نفسه بنفسه.
على صعيد اخر، انخرط فقيد الحركة التحررية والتقدمية المغربية والعربية في النضال المباشر من اجل دمقرطة المؤسسات التمثيلية خدمة لقضايا الوطن والطبقات المستضعفة حيث ترشح للانتخابات التشريعية وانتخب نائبا اول للجماعة المحلية لعين الذئاب. وشاءت الظروف بان يأخذ على عاتقه التدبير اليومي، مما اثر الى حد ما على وتيرة نشاطه العلمي والفكري.
بالإضافة الى هذا، انخرط عزيز بلال في النضال الاممي للحركة العمالية العالمية من اجل نصرة نضال الشعوب ضد الامبريالية والاستعمار الجديد والصهيونية والرجعية، ومن اجل وحدة المغرب العربي والقضية الفلسطينية والوحدة العربية, ومن اجل السلم والامن الدوليين.
على صعيد الجبهة التعليمية، قام عزيز بلال بالتدريس في العديد من المؤسسات الجامعية والمعاهد العليا، مساهما في تكوين اجيال من المثقفين والمتنورين والاختصاصيين, عدد منهم اصبحوا اطرا في دواليب الدولة والحياة الاقتصادية.
ومن الواجهات التي ركز عزيز بلال نضالاته الواجهة الأيديولوجية من خلال التصدي للأيديولوجية الماضوية والرجعية التي كانت تستعمل للتغطية على علاقات الاستغلال الاجتماعية ضدا على مصالح الطبقات الكادحة وتكريسا للتبعية الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية تحت ذريعة استحالة نهج خيار وطني مستقل.
3هل لا زال فكر عزيز بلال صالحا لعصرنا هذا؟
لا زلت أتذكر كيف ختم استاذنا الفقيد عزيز بلال درسه حول “المشاكل البنيوية للتنمية” سنة 1970بالمقولة التالية التي اقتبسها من خاتمة كتاب المقدمة لعالم التاريخ والاجتماع ابن خلدون وهي كالتالي ..”…ولذلك عزمنا ان نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران …..ولعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح وعلم مبين يغرف من مسائله على اكثر مما كتبنا”. وهذا يدفعني الى التأكيد على ضرورة الانطلاق من فكر عزيز بلال وليس التوقف عنده قصد تبجيله، وهو نهج كان فقيدنا الغالي ينهي عن اتباعه.
المسالة الأولى التي ينبغي التوقف عندها هي عدم انتباه عزيز بلال لجوانب القصور في تجربة الدول الاشتراكية، هذا رغم انه كان يستشهد اكثر بالتجربة الصينية في بناء الاشتراكية لدرجة ان بعض رفاقه كانوا يتهمونه باعتناق “الماوية” !!
والجدير بالذكر ان انهيار الاشتراكية السوفياتية يرجع الى عدة أسباب منها الجمود في النمو الاقتصادي وتشقق منظومة القيم الفكرية والأخلاقية وافراغ الاشتراكية من مضمونها الديمقراطي، بالإضافة الى حدوث انفصال بين القرار السياسي وإرادة الشعب ورغباته.
من جهة أخرى, ورغم ان العولمة النيو لبرالية اكدت صحة نظرية التبعية واثارها المدمرة على بلدان الجنوب, الا ان هذا لم يمنع بلدان ككوريا الجنوبية وتايوان من الخروج من التخلف. بمعنى ان الانخراط في الرأسمالية المعلومة قد يوفر هامشا لصعود دول من الجنوب. واذا كان بعض المحللين (ومنهم المفكر المصري سمير امين) يرجعون نجاح هذين البلدين الى عوامل جيو-استراتيجية (دعم الولايات المتحدة واليابان لهذين البلدين لوقف المد الشيوعي في شرق اسيا), فان هذا التفسير لا ينبغي ان يحجب عنا الدور المركزي الذي لعبته “الدولة التنموية” في الخروج من التخلف في هذين البلدين الآسيويين.
المسالة الثالثة تتعلق بضرورة الاهتمام بالمقاربة التقاطعية لقضايا التخلف والتنمية, خاصة من خلال التركير على إشكالية حقوق المراة والمساواة بين الجنسين لتشابك هذه القضية بشكل وثيق وعضوي مع معارك التنمية والتحرر الوطني والتطور الحضاري.
المسالة الرابعة تتعلق بضرورة الاخذ بعين الاعتبار المظاهر الجديدة للاستغلال الامبريالي لبلدان رأسمالية الأطراف من خلال ما يسمى بالتبادل البيئي غير العادل (او غير المتكافئ) حيث يؤدي انتشار عولمة الراسمال الامبريالي خاصة من خلال ما يسمى ب”سلاسل القيمة العالمية” الى نهب وتدمير الموارد الطبيعية لصالح بلدان المركز, مما ينجم عنه تفاقم مظاهر التبعية وابطال اية إمكانية للتنمية المستقلة والمعتمدة على الذات الجماعي (أي في اطار تجمعات إقليمية لبلدان الجنوب) .
المراجع
1 صبرين العجرودي , طبيعة المثقف العضوي والمثقف التقليدي داخل الدولة, المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والأمنية والعسكرية,27 مايو 2022).
2 عبد العزيز بلال، الاستثمار بالمغرب ( 1912 -1964 ) والروس المستخلصة في مجال التنمية , منشورات “لوموتون” , 1965 ( بالفرنسية)
3 عبد العزيز بلال, التنمية والعوامل غير الاقتصادية, منشورات “سمير”, 1980 (بالفرنسية)
4 عبد العزيز بلال, مستلزمات التنمية الوطنية, النشرة الاقتصادية والاجتماعية للمغرب,1984 (بالفرنسية)
5حزب التقدم والاشتراكية، عزيز بلال مناضل في الحياة وشهيد في الممات، مطبوعات البيان, 1982