التعريف بالقصة القصيرة ودور ومكانة القاص في تشكيل معمارها:
القصة القصيرة هي شكل من أشكال الأدب, تتميز بالتركيز على حدث ما أو عدّة أحداث قصيرة في حدودي زمانها ومكانها, وتتميز أيضاً باختصارها وإيحاءاتها العميقة ولغتها المركزة, ولكل قصة صغيرة بنية محكمة وشخصيات قليلة. تحكي عادة عن حياة الناس ومشاكلهم, وتتطرق إلى العلاقات الإنسانيّة والقيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة, وتهدف القصة القصيرة إلى إيصال فكرة معينة أو إثارة إحساس معين لدى القارئ في وقت قصير. وقد ازدهرت القصة العربيّة القصيرة في القرن العشرين مع ظهور العديد من الأدباء المشهورين في هذا المجال مثل نجيب محفوظ, وجبرا إبراهيم جبرا, و حارس كامل, وحسام فخر, وحسن عبد الموجود, وسحر توفيق, ويوسف أبو رية ويوسف إدريس. ونوال السعداوي, ومنهم كاتب هذه المجموع حسن ابراهيم وغيرهم الكثير.
ومن ميزات القاص المبدع وأسلوبه, امتلاكه الحس الفني الرقيق, والثقافة العالية, ورهافة اللفظ وسهولته, وبراعة تصوير المواقف التي تكشف عن أبعاد الشخصيات التي يرسمها بدقة, ويبرز أبعادها الاجتماعيّة والنفسيّة والخلقيّة, ويكشف عما تعانيه من صراع مع نفسها, أو مع الآخرين. وإذا كانت هذه الشخصيات واعية وعندها ضمير يقظ تستطيع الخروج من أزماتها منتصرة مع نفسها في لحظات الضعف, وهذا أقوى الانتصارات على النفس وعلى الآخرين, والقاص المتمكن من حرفته قادر أن يدير الصراع بين الخير والشر حتى يكون الانتصار للخير عبرة للآخرين .. ليؤكد أن الخير الأساس في الإنسان, وبه تستمر الحياة والعلاقات بين الناس. وأخيرا الكاتب لا يفرض نفسه على شخصياته, وإنما يتركها تفصح عن نفسها, عن أفكارها بشكل طبيعي من خلال الحوار واللغة المناسبة لثقافتها وعقلها, ومن خلال المواقف التي توضع أو تتحرك فيها داخل الحياة الاجتماعية. والكاتب يقدم شخصياته من التجارب التي عاشها بنفسه أو سمعها من الآخرين حيث يتمثلها تماماً ثم يخرجها بعد ذلك عملاً فنيّاً.
في السيرة الذاتيّة للقاص “حسن ابراهيم”:
“حسن ابراهيم”، كاتب وأديب وباحث مغربي، عروبي أصيل، صدرت له مجموعة من الكتب، تعبّر عن روحه وثقافته ومواقفِه الوطنيّة والعروبيّة على حدّ سواء، فهو مسكون بالقضيّة الفلسطينيّة وبالهم العربي, ونصير للمظلومين في كل مكان، من مؤلفاته:” كسرة خبز”، وكذلك “جراح وطن”، و”عطر السّرد في المغرب العربي”, وكتاب “القضيّة الفلسطينية” في نماذج أدبيّة لأدباء فلسطينيين “مسار الألم والأمل”، حيث اخذ نماذج أدبية لأدباء كتبوا عن القضيّة والهم الفلسطيني، وأضافوا بكلماتهم الصّادقة، وعملهم الدؤوب الكثير للنّضال من أجل التّحرر، وكتابه الجميل الذي بين أيدينا ” ولع السباحة في عين الأسد”.
كما صدر له العديد من المقالات والنّصوص الإبداعيّة في المجلّات والجرائِد الورقيّة الصّادرة في المغرب وتونس والجزائر والعراق وسوريا وفلسطين، كما ينشط الابراهيمي في صفحات الحوار المتمدِّن وبمواقع الكترونية في مجالات القصة والشعر والمقال.
من يقرأ له يشعر بأنه يقف في محراب راهب يؤمن بقضية مقدسة، وبدرب لا يمكن التراجع عنه قيد أنملة.. طريق النضال وطريق العمل من أجل الحريّة والعدل والوقوف الى جانب المظلومين في وطننا العربي، وفي المقدمة قضيّة الشعب الفلسطيني وتحرره من نير الاستعمار والاحتلال الصهيوني الرابض على صدره. وبالتالي إن نشاطه الوطني والنّضالي الدّؤوب جلب عليه الكثير مِن الويلات والملاحقات السّياسيّة والأدبيّة والحرب النّفسيّة الّتي مورست بحقه، مما جعله يلتزم البيت نتيجة المُعاناة والأمراض التي هاجمته, كما لزم العمل الادبي بكتابة الشّعر والقصّة والمقالة الأدبيّة. هذا وتندرج كتابته في مجال القصة القصيرة, ضمن ما يسمى (الأدب الوجيز) كما وصفه الناقد “مصطفى عبد الفتاح” (1). هذا الأدب الذي عرفه (الدكتور كامل فرحان صالح) المحاضر في الجامعة اللبنانيّة في جريدة البناء اللبنانيّة، على أنه طريقة أو أسلوب بناء قصصي يتحول إلى كائن يأخذ المتلقي معناه من النص وليس من المعنى الحقيقي الذي يريده الكاتب, وبالتالي فالجملة تكون كائن مستقل بذاته يعطي المعنى الذي يريده أو يفهمه القارئ في السياق، مما يتركه في نشوة المعرفة. والأدب الوجيز كما يراه الدكتور “كامل فرحان صالح”” بأنه نفخ الروح في الكلمة بدايةً، ومن ثمّ النصّ، وهذا ما يدخل المبدع في لعبة السعي الحثيث إلى امتلاك الكلمة الفاعلة والقادرة على أن ترفع في ذاتها وبذاتها غير معناها المباشر إلى معانٍ كثيرة، وهنا يصبح الكاتب أو القاص واعياً بأن الكلمة في الأدب الوجيز، تتخذ عبر سياقها، حالات من الكشف اللانهائي، ويصبح المرسل والمرسل إليه قد اقتربا من رفع الحجاب عن المعنى، ليجدان أنهما أمام حجاب آخر، في سفر ممتع يتخلله امتحان مستمر لقدرتهما على التخيل، والتفكّر، والفهم، والحفر/الغوص عميقًا في حقل الدلالات، والدوائر اللامتناهية…(2). وهذا الشكل من الأدب يدخل برأيي في مفردات منهجي التفكيك والتلقي حيث يموت المؤلف هنا, ويفكك النص إلى دلالات مفتوحة على المطلق, وكل قراءة تقوم بإلغاء ما قبلها بلا حدود. وهذا التبدل والنفي المستمر في القراءة وفهم الدلالة, يسمى بالقراءة السيئة في منهج التلقي.
البنية السرديّة والفكريّة لمجموعة ((ولع السباحة في عين الأسد):
تأتي المجموعة القصصيّة (ولع السباحة في عين الأسد) للقاص المبدع “حسن ابراهيم” من خمس عشرة قصة قصيرة, القاسم المشترك لأفكارها الأساسيّة يقوم على قضية الشعب الفلسطيني ومعاناته, وما تفرع عن هذه المعاناة من تشريد وقهر وظلم وجوع وحرمان وأحلام وطموحات إنسانيّة وسفكك للدماء طالت الكبير والصغير من أبناء الشعب الفلسطيني لسنين طويلة. هذا الشعب الذي لاقى كل أنواع العذاب الذي ساهم فيه العديد من الفلسطينيين أنفسهم, والعديد من الحكام العرب, والقوى الاستعماريّة الغربيّة والولايات المتحدة الأمريكية. والملفت للنظر أن تلك القدرة المعرفيّة الهائلة للقاص ” حسن ابراهيم” عن الشعب الفلسطيني ومعاناته, وحالاته الاجتماعيّة والنفسيّة والخلقيّة, وكل ما يتعلق بمأساته, وكأنه واحد من أبناء فلسطين الذين عاشوا ولا زالوا يعيشون مأساة الاحتلال الصهيوني وظلمه وعنصريته وسفكه للدماء دون رادع عربي أو اسلامي أو عالمي.
يقول الكاتب في بداية القصة السابعة من مجموعته “عسس في ذاكرتي” عن الأسباب التي تدفعه للكتابة قائلاً: (دعوني أنقل لكم ما تداولته بعض الكائنات، بشأن هذه القضيّة الغريبة؛ أما الزمان فلم يخرج عن دائرة خدوش، والمكان عبارة عن مرتع لكائنات صعبة التصنيف. وأما الباعث على الكتابة، فكان ما أسند لي من شدائد, حيث أتناوب مع العناء للحفاظ على مساعدي هذا الزمان العصيب. وكما تعلمون، فإنه للقيام بهذه المهمة أعود لذاكرتي للبحث عما اختزنته من انحناء، ينتفض أحيانا ليغازل فجراً، ويعود بجراح هذا الوطن الى صباها.
أثناء الليل، أستعد للزيارة التي يقوم بها الفريق لأوجاعي، حيث أناوله قسطا من دمي، لمعرفة مدى قدرتي على البحث على مخيط أخيط به صبري. أما الفسيلة، فلا تسلم من الاصطدام، مع حاشية الليل، والغاية هي أن يصادر لساني من ممارسة غوايته المفضلة.
أتدرون، أنه بلغة القهر أجرد من صفاء الحياة،ص55. كما تساق ذاكرتي نحو قافلة من المؤامرات، وتحاصر كل لحظة أمل في الطريق، ليرتفع الغموض بالحقيقة مصرا على رفع الوهم ودفعه للانتصار.ص56.).
وفي الأخير أنتصر للقبض على رأس رغيف يرتب رؤوس الحكايات.ص56.
نعم هو يكتب للذين فقدوا معنى الحياة وإنسانيتهم, وتسرب إلى ما تبقى من حياتهم بعد أن تخلى عنهم ذوي القربى جنساً وعقيدةً. مثلما يكتب هو عن نفسه ومعانته وقهره أيضاً.
في (ولع السباحة في عين الأسد) لا يكتفي “حسن ابراهيم” برسم الأحداث بتلك الألوان القاتمة التي تحمل كل دلالات معاناة الشعب الفلسطيني فحسب, بل هو يخوض عميقاً في مواضيع الحريّة، والعدالة ورفع الظلم والقهر والجوع والفرح والأمل. والدفاع عن الوطن, فهو من الذين يؤمنون بأن الناس هم من يصنعون أقدرهم, وهم من يساهمون في حل مشاكل وإشكالات ما يصنعون. ففي قصته (حماة الأرض): نجده يشير إلى رجل الدين المستسلم لقدره والراضي بما يصيبه حتى لو كان على حساب أرضه وكرامته كيف يبرر الاحتلال على أنه قدر من الله حيث يقول: “غضب الأنبياء بين أنامل فقيه القرية الذي قال: إن الله يفعل بعباده ما يشاء.. متحت المعركة من الشباب عزائمهم، استشهد البعض منهم، فيما ما يزال الفقيه يتلو آيات من الذكر الحكيم. ص27.
بينما نراه يسلط الضوء أيضاً على من آمنوا بالحياة واعتبروا العدو مستعمراً مغتصباً للبلاد وعليهم مقاومته, فها هي الأم المناضلة: قد( توجهت إلى الموقد، وضعت سكينا فوق الجمر.. أحمر السكين، وضعته فوق لسانها، طش، وتنبأت بمستقبل سيعصف بالشمس، وسيغيب سكان هذه القرية عن منازلهم. ص25.
أما الرجل العجوز رغم كل المصائب التي حلت به وبأهله ووطنه: ” فقد ابتسم، رمق أشجار الزيتون تبلع ريقها، قطرات الندى .. هاجمت الفرح، أما النباتات فإنها أفصحت عن موعد لها بغريب لا تحبذ أن تراه.ص26.” . “فتح رسالة الماء، خاطب سكان القرية قائلا: نحن -سكان هذه القرية – تعودنا أن نقتات من زرع هذه الأرض، منها نستمد قوتنا، بها نلهم عزائمنا فكيف لهذا الأجنبي الذي قرر أن يسطو على أرضنا؟ ص27.”
ومع كل معاناة هذا الشعب العظيم نجد هناك من يغني للنصر من عمق مأساته, فالغناء هنا لم يكن ترفاً وتسلية كما يصفه” حسن ابراهيم” بل هو رسالة وموقف من الحياة وتعبير عن قهر وظلم الْمُسْتَعْمَرِين والمستعبدين .. وعن الفقراء والمحرومين. لذلك وجد فيه المضطهدون وسيلة من أجل الدفاع عن الوطن والحريّة.
“زغاريد، تزحف إلى وجدان كل أرملة يحتضنها الأمل المبطن في تخوم الاتقاد.
– قال الطفل الوديع لرئيس الفرقة: كيف يمكن لعوسج أن ينهي حفله بدموع الفرح؟… لمن، ولماذا تغنون؟. ص31.
– أجاب رئيس الفرقة: نغني للوطن، ثم أردف قائلاً: نغني لنبعث الأمل في نفوس المقهورين… نغني لنحفز أشجار الصفصاف على أن تتأفف، وترعب أوراقها قبل أن تغادرها في كل فصل خريف.ص32 “.
ورغم الفقر والجوع والبحث هنا وهناك عن لقمة الخبز وبقايا الطعام المشبع بالقهر, لم يحول ذلك عن بقايا أمل في الانتصار وأحلام الحرية عن المحرومين:
“لقد تعودت أن تتفقد كمية «الثريد » الذي تجمعه كل ليلة، حينما تتحسس الوعاء تجده مملوءً، وحينما تحس بخشخشة بيدها اليمنى تعيد تحسس الوعاء فتجده فارغا، وهكذا دواليك إلى أن تنتهي من طرق أبواب المنازل وتعود الى بيتها جائعة.ص33.
“في مرتع للقطط، عانقت شمسها بيض أفعى، فقس البيض صارت الشمس تربي أحفادا.ص34.”.
“ومع ذلك كانت (الأم) تنتصر لكل قلب يضاجع الفرح، وينثر الرماد في أنامل الغدر، وتلاحق نبض زرقة السماء لتلتف حول لون الليمون، المسيج بأطنان من الموت.ص35.”.
“برفق، تبتسم لمنديل مبلل برحيق زمن عصيب، تغطي الخطيئة المنتشرة بكف البرق، تزيل الإزار المثخن بسنين عجاف عن العنف المندلع بثغر البندقيّة.. وبوجه الناقة نقشت وجها متجهما، حيث يمر الصبح مفعما بالأمل كموجة تنط بجوف المرآة.ص35.”
“وهي لا تكترث لصوت المعركة الدائرة بثغر لبؤة، أو كصوت صولجان اختار أن يمحو عار الهزيمة، بإنجاب فوهات بنصل رمح لم يتماثل بعد للشفاء.ص36.).”
وفي قصته “تجرع لحظة الموت”: هذا هو الموت أصبح عادة عند الفلسطينيين, ففي اليوم الذي يودع به أمّه أو أخاه أو صديقه, تسحبه الذكريات إلى متاهات الموت الذي لم ولن ينقطع ويترك هؤلاء المحرومين يشعرون ولو ليوم واحد دون نحيب على فقدان من أحبوا.
“ هناك، بالقرب من هذه الغابة أشلاء الأطفال تنتفض، تتطاير كرائحة الأسفلت.ص41.”.
“ما أن تنتهي ذكرى حتى تستيقظ ذكرى أخرى بمخيلتي, سلسلة من المحن عاشتها أمّي تحت يافطة العيش حياة مستورة. ص38.”
“بين تفاصيل الحياة والموت وامتداداتهما أجوب أزقة الذكريات، أبحث عن كل ما يخلصني من ألم الفراق. ص39. “
في قصته الرابعة “ضر أصاب الفائقين”: يوصف لنا الروائي حالة شموليّة عن القهر والظلم والجوع والموت وأسلحة المستعمر التي تظل موجهة بوجه من استلبت أرضهم وشردوا وجاعوا ليتركوهم في عالم من الخوف لا حدود له. ولكن تظل أغنية الأم تخفي وجه الألم في وجوه الأطفال، الذين يمثلون أمل المستقبل وجند التحرير والخلاص.
“لقد أفرز معضلة الحيوانات التي تلوك الجوع بالزروب، كما ظهر أوجاع الأشقياء من يطعمون أولادهم اللظى المجفف. ص41.“.. “خلال اليومين المنصرمين فقد الأب بصره، وليس له من النقود ما يشتري به العكاز الذي يستعين به لتحسس الأماكن.ص42…الجنود يهرولون في كل مكان، حتى مرآب السيارات لم ينج من الخوف، فزع في كل مكان، سيارات احترقت، رجال انبطحوا ينتظرون نزول الأشعة، الشمس أقفلت أبوابها.ص42.“
“لقد اعتاد على خوض مثل هذه المعارك، لكن كل شيء هنا معرض للزوال، الأشجار، الأحجار، النباتات، لا شيء ثابت، رائحة البارود تفوح في كل مكان، الدبابات تتجول في القرية، أغنية الأم تخفي وجه الألم في وجوه الأطفال، الإعصار لا يفارق النساء، أسبوع آخر من الموت، نساء يعزفن ألحانا للحريّة. ص43.“.
هكذا نجد في المجموعة القصصيّة (ولع الساحل في عين الأسد). موقفاً بل مواقف إنسانيّة تشبع بها الروائي “حسن ابراهيم” لتظهر جليّة واضحة في كل قصة من هذه المجموعة التي كتبت لكشف أهل القاع في هذه الأمّة المفوّته حضارياً, والتي ناخ عليها الجهل والتخلف والظلم والاستبداد ولم تعد تدري أين موقعها في هذا العالم الذي راح القوي فيه يأكل الضعيف. أمّة ساهم أصحاب القرار فيها على بيع الأوطان من أجل مصالحهم الأنانيّة الضيقة وشهوة السلطة. هذا هو الشعب الفلسطيني بكل معاناته وقهره وظلمه من ذوي القربى أولا, تُرك وحيدا يواجه كل قساوة الحياة, وقد ارتهنت حياته لمستعمر سلط أفواه بنادق عساكره على الجميع ممارساً عنصريته وحقده.
المجموعة القصصيّة في الشكل:
البناء الفني للمجموعة: (ولع السباحة في عين الأسد).
دلالات اسم المجموعة القصصيّة:
يلعب اسم الرواية أو المجموعة القصصيّة دوراً فكريّاً ونفسيّاً لدى المتلقي, وهو من يشدُّ القارئ إلى اقتناء العمل الأدبي وقراءته, كونه يوحي له بمضمون العمل الذي يحمله, إن كان سياسيّاً أو اجتماعيّاً أو فلسفيّا أو غير ذلك من اهتمامات القارئ. وهو أيضاً يحقق للنص هويته وجماليته ومصداقيته.
(ولع السباحة في عين الأسد) اسم مجموعة القاص “حسن ابراهيم” موضوع دراستنا. لقد وقفت كثيراً أمام هذا العنوان باحثاً عن دلالة من دلالاته المفتوحة على عديد المعنى, فوجدت دلالتين كوجهين لدلالة واحدة.. الدلالة الأولى وهي الاشتغال أدبيّاً على قضية مَثلَ كل واحد من رجالاتها (أسداً), لم يركعوا للضيم والاستعمار والقهر والجوع والتشرد, وهم يحملون في قلوبهم وعقولهم همهم الوطني وإيمانهم في قضيتهم وهي تحرير أرضهم. والدلالة الثانية, أن (الأسد) الذي يمثل هنا ذاك المستعمر الصهيوني ومن يقف معه من أسود في عالم الغابة الذي ساد في النظام العالمي الجديد, القوي يأكل الضعيف, هذا الصهيوني الذي اغتصب الأرض وأوجد كل تلك المعاناة للشعب الفلسطيني الذي قرر أن لا يتنازل عن حقوقه, وسيواجه أسد الغابة (الصهيونيّة) في هذا العالم الذي فقد كل قيم العدالة والحرية والإنسانيّة.
معالم المعمار القصصي في المجموعة:
البنية في سياقها العام, هي الحالة التي تبدو فيها المكونات المختلفة لأي مجموعة محسوسة أو مجردة, منتظمة فيما بينها مترابطة ومتكاملة, حيث لا يتحدد لأي مكوّن أي معنى في ذاته إلا في المجموعة التي تنظمه. وهذا ما وجداناه في مجموعة “ولع السباحة في عين الأسد”, فرغم وجود خمس عشرة قصة, إلا أنها كلها تنتظم في هذه المجموعة بقاسم مشترك يجمع مكوناتها القصصيّة, هو الشعب الفلسطيني وكل ما عاناه ويعانيه من قهر وظلم وجوع وتشرد.
مقامات السرد:
القصة تصوير للحياة, يقدمها الروائي بأسلوب فني متخيل قريب إلى الواقع, يلعب السارد فيه دوراً كبيراً في تصوير الأحداث بكل ما تحمله من قضايا إنسانيّة. وفي هذه المجموعة “ولع السباحة في عين الأسد” نجد السرد هنا قد جاء من (الخلف), بحيث أن السارد عالم بكل شيء, وحاضر في زمان ومكان الحدث. وهو كلي العلم يعرف تفاصيل أحداث القصة وشخصياتها ما خفي منها وما ظهر، وهو يتنقل بحريّة بين الأزمنة والأمكنة، ويدخل عقول شخصياته ونفسياتهم, ليكشف عن أسرارها وخباياها ورسم ملامحها بألوان وخطوط واضحة ومحددة. وأحياناً ما يدخل السار في السياق المتوالي أو المتسلسل للسرد تعطيلاً أو قطعاً, من خلال إدخال مشهد لحالة حواريّة بين شخصين أو أكثر, أو من خلال وقفة صغيرة كإجراء عمليّة وصف معينة لموقف شخصيّة أو حالة نفسيّة في مشهد, أو ظاهرة طبيعيّة .. إلخ.
لقد اتسم أسلوب سرد المجموعة بالاقتصاد والدقة والرصانة. وبعيدا عن السرد التقريري والانشائي. وجعل الكاتب من مجموعة قصصه لوحات متتابعة مرسومة بألوان حيّة مجللة بأطياف من الحزن والأسى. كما كان السرد محكماّ, تم فيه الانتقال من باطن الشخصيات إلى ظاهرها.. وإلى عالمها الخارجي بسلاسة وانسيابية.
لقد استطاع “حسن ابراهيم” تشكيل صوراً إنسانيّة لا تكاد تنسى في َهذا العمل القصصي، وتجسد ارتباط المكان بالزمان ورؤية العالم في تشكيلات هذه الصور الإنسانيّة لأحداث المجموعة, مما جعلها كاشفةً عن أعمق المشاعر ومصورة أحداثاً في مقامات عصريّة, أو في مرايا تتغير فيها ملامح الشخصيات ومواقفها بقدر ما تعكسه من هموم ومكابدات حياتهم… مرايا يتجاور فيها الأموات مع أرواح الموتى, وهموم الحاضر مع أشباح الماضي. لقد استطاع الكاتب “حسن ابراهيم” صياغة الكثير من الأحلام في ضوء وإيقاع واقعيين, وزوايا تصوير حشدت الكثير من الطقوس والوقائع أو الأحداث الأقرب إلى الواقعيّة. وهذا ما يجعل المتلقي يقبل على قراءتها بحفاوة وتأمل وتقصي لأبعادها بجديّة واهتمام. وهذا كله يأتي من مخزون ثقافي وأدبي حاز عليه الكاتب وجعل منه قاصاً يؤمن بدور الأدب في الحياة وتأثيره على المتلقي وإمكانية تغيير موقفه في هذه الحياة.
واقع اللغة في المجموعة:
كان السرد باللغة العربية الفصحى, وهي أداة التقنية المعتمدة والطاغية في السرد, والناقلة للحوار في قصص هذه المجموعة بشكل عام. كما أظهرت قدرة القاص في التصوير بهذه اللغة عمليّة التفاعل أو الربط بين الواقع والأبعاد النفسيّة والاجتماعيّة للشخصيات.
بيد أن الملفت للنظر هنا, أن الأسلوب السردي الذي استخدمه القاص في مجموعاته القصصيّة والذي امتاز بمجموعة جمالياته الفنيّة التي أشرنا عند حديثنا عن (مقام السر) عند “حسن ابراهيم”, إلا أن سرده كان مشبعاً في أحيان كثيرة بالوصف, الأمر الذي جعله يتكئ كثيراً على البلاغة وعلم البديع. لذلك صيغت اللغة هنا بطريقة شاعريّة. الأمر الذي جعل فيها الكثير من المحسنات البديعيّة, وخاصة الصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكناية وكثرة الانزياحات اللغويّة, وهذا ما جعل المتلقي يشعر بأن مسألة التعامل من قبل القاص مع البلاغة جاءت بشكل مدروس, وتحولت إلى حرفة امتهنها كاتب المجموعة القصصيّة بشكل متعمد, تحول فيه استخدام جماليات علم البديع من السهل الممتنع, إلى تصنيع متكلف يرهق دلالات المعنى, وبالتالي جاءت صياغة مفردات البلاغة في أسلوب هو أقرب إلى الشعر منه إلى النثر. كما أشرنا قبل قليل.
إن الاغراق في استخدم علم البديع يجعل المتلقي يشعر بأنه أمام نص سردي هو أقرب إلى السرياليّة. وهذا ما تبين لنا في القصة السادسة من المجموعة.” علق بجوف القطار”, على سبيل المثال للحصر. حيث يكتب القاص:
( فصل آخر يتراءى من الحائط الذي يبث تباشير مطرح، فصل يزرع فيه الموتى رؤوسهم، ضوء شمعة لكل ميت، دهليز، مغطى بأقفال، أسوار تحملها السنوات، سرطان، يدب في عروق أمتار حفرت في عرق الأسوار. في كل فصل، من فصول الخيانة، يسقي الموتى رؤوسهم بصنبور، ورحى، وجعجعة للهذيان، كما يسقونها بصنبور خيمة متنقلة، وبكل صيغة من صيغ الدماء. . ص51.).
الشخصيات في الرواية:
شخصية الكاتب أو السارد:
من خلال قراءتنا لقصص هذه المجموعة القصصيّة, يتبين لنا بأن شخصيّة الكاتب هي التي كان لها الحضور الأكثر فاعليّة في متن القصص, وبقيّة الشخصيات في المجموعات هي ثانويّة, ومع ذلك استطاع الكاتب ببراعته الفنيّة أن يجعل لكل من شخصيات قصصه الثانوية دوراً فاعلاً في كشف حالات معاناة الشعب الفلسطيني من خلال الحوارات الصغيرة التي تدور بينها في متن كل قصة. هذا وأن الشخصيّة الرئيسة وهي الكاتب أو السارد (العالم) بكل شيء, تنم عن شخصيّة مثقفة وحذقة متفهمة طبيعة الحياة بأنساقها السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والأخلاقيّة, وهي صاحبة موقف فكري ملتزم من الحياة وقضايا القاع الاجتماعي ومعاناة أهله .. وهو كما أشرنا سابقاً الشخصيّة العالمة بخفايا وظواهر ودواخل شخصياتها, وهو صندوق ذكرياتها.
الزمان والمكان في مجموعة (ولع السباحة في عين الأسد):
الزمان في المجموعة:
إن الزمان في هذه المجموعة القصصيّة زمن متعاقب. أي هو زمن دائري لا طولي، وهو يدور حول موضوع المجموعة القصصيّة المتعلق بمعاناة الشعب الفلسطيني وقضيته، وهو تعاقبي في حركته المتكرّرة، لأنّ بعضه يعود إلى بعضه الآخر في حركة كأنّها لا تنقطع، مثل زمن الفصول الأربعة التي تجعل الزمن يتكرّر في مظاهر متشابهة أو متّفقة.
المكان في المجموعة:
إن المكان في أي عمل روائي أو قصصي, يتميز بكونه فضاءً لفظيّاً يعتمد على اللغة المطبوعة في الكتب. وهو يتشكل كموضوع للفكر الذي يحمله الكاتب. وبالتالي لا رواية أو قصة بكل مكوناتها بدون مكان, فالمكان يشكل عاملاً أساسيّاً في بنية السرد, فكل حدث يأخذ مكانه في زمان محدٍد ومكانٍ محددٍ. وكل الأشياء في العالم الخارجي (الواقعي) تشكل مكانا، فالمكان في حياة الإنسان له قيمته الكبرى ومزيته التي تشدّه إلى الأرض. ولا غرو, فالمكان يلعب دوراً رئيساً في حياة أي إنسان. أو بتعبير آخر إضافة لكونه مكاناً جغرافيّاً, إلا أنه يظل يشكل أيضاً مكاناً ثقافيّاً واجتماعيّا وسياسيّاً وأخلاقيّاً.. وغير ذلك من القيم والمفاهيم والأفكار والمشاعر التي تستطيع اللغة التعبير عنها. فالمكان (الواقعي) في المجموعة القصصية هو أرض فلسطين, بغض النظر إن كان مدينةً أو قريةً أو مخيّماً.َ والكاتب “حسن ابراهيم” كان مبدعا وبارعاً في تصويره للمكان على الورق وما تعلق به من قهر ظلم وتشرد وضياع, الذي تجلي في البنية النفسيّة والأخلاقيّة والنضاليّة لشخوص المجموعة القصصيّة وموقفهم من الحياة.
طموح المجموعة القصصيّة:
إن كل ما تطمح إليه هذه المجموعة هو الخروج عن عالم زمكان القهر والظلم والاستبداد السائد والشائع والمألوف في عالمنا العربي.. طموح من أجل بناء علاقة إنسانيّة أكثر عقلانيّة وإيجابية جديدة تتسم بالحريّة والاستقلال من المستعمر ولحاكم المستبد معا, وإيجاد سماء يتحقق فيها التوازن والسمو والعلو عن كل ما يسود هذه الحياة من كذب ورياء وأنانيّة.. سماء تنطبق فيها الممارية مع الفكر, ويتربع فيها الفكر على عرش الضمير والقلب والعقل والسلوك… سماء يستمر فيها النقد والحوار بين مستويات الذات والآخرين المختلفين معها في وجهات النظر. إن كل فنون الأدب في حاجة ماسة إلى خلق فضاءات تتنفس فيها أصداء الشخصيات, وتتفتح فيها أبعادها ومحاورها وترك تأثير واسع وعميق على المتلقي.. وهذا ما تطمح إليه المجموعة القصصية (ولع السباحة في عين الأسد.).
القاص حسن ابراهيم – “ولع السباحة في عين الأسد- مجموعة قصصية من (15) قصة قصيرة. الطّبعة الأولى 2023- مكتبة كلّ شيء – حيفا.
كاتب وباحث من سوريّة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1- (لأدب الوجيز “وولع السباحة في عين الأسد” للأديب حسن الابراهيمي – مصطفى عبد الفتاح. موقع الكرمل 48.).
2- المرجع نفسه.